المخرج الأوكراني سيرغي لوزينيستا ورحلة امرأة في فيلم ‘كائن رقيق’ لدوستويفسكي

أمير العمري

اقتبست قصة “كائن رقيق” القصيرة التي كتبها فيودور دوستويفسكي (1886) سبع مرات في أفلام مختلفة من جنسيات مختلفة، كان أولها الفيلم الروسي (السوفييتي) “كروتكايا” (1960) من إخراج ألكسندر بوريسوف، أما أشهرها فهو الفيلم الفرنسي “امرأة رقيقة” (1969) من إخراج روبير بريسون. وأخيرا يأتي الفيلم الفرنسي الجديد “كائن رقيق” وهو من الإنتاج المشترك مع ألمانيا وهولندا وليتوانيا، للمخرج الأوكراني سيرغي لوزينيستا الذي عرض في مسابقة مهرجان كان الـ70.

تقول عناوين الفيلم الجديد إنه مقتبس عن قصة دوستويفسكي، لكن الواضح أن تناول لوزينيستا للموضوع، لا علاقة له بأصل قصة دوستويفسكي، بل يبدو أنه اقتبس فقط عنوان القصة ومغزاها العام كما استوعبه هو، فالقصة الأصلية تدور أساسا حول صاحب محل رهونات يتزوّج من فتاة صغيرة جميلة، ثم تشتعل الخلافات فيما بينهما بسبب طبيعة العمل الذي يمارسه، فتنتحر الزوجة ويجلس الرجل حول جثتها يسترجع علاقته بها وكيف سارت وهل كان ممكنا أن تتخذ مسارا آخر، وتنهض الزوجة وتتدخل في مسار السرد لتقص بدورها ما وقع من وجهة نظرها أو تعترض على ما يرويه الرجل.. الخ.

في فيلم بريسون كانت الزوجة هي التي ترغب في التخلص من الزوج بل والتخلص من فكرة الزواج نفسها كمعادل للتحرّر من قيود العيش في الدنيا حسب نظرة بريسون الدينية الفلسفية الخاصة. كان بريسون يتلاعب بالقصة الأصلية ويردّها إلى الزمن المضارع، محتفظا فقط بالإطار العام للأحداث والشخصيات ولكن من دون أن يتخلّى تماما عنها، لكن هذا ما فعله الأوكراني لوزينيستا.

لوزينيستا هو صاحب الفيلم الوثائقي الشهير “ميدان” (عن انتفاضة كييف عامي 2013-2014)، وفيه يضع الكاميرا في أماكن معينة من ساحة “ميدان” بكييف وقت الاضطرابات لكي يصور ما يجري أمامها حتى لو لم يكن ما يحدث واضحا تماما، دون أي تدخل من المونتاج، في لقطات ثابتة طويلة مرهقة، تستغرق دقائق عدة قبل أن ينتقل لنقل ما يقع من زاوية أخرى من الساحة نفسها، مع ترديد النشيد الوطني الأوكراني مرة بعد أخرى أمام الكاميرا تأكيدا على انتمائه للوطنية الأوكرانية.

أما “كائن رقيق” الروائي فيختلف في أسلوبه ولغته السينمائية عن “ميدان”، وإن كان يعتمد إيقاعا بطيئا مع ميل لتكرار العديد من اللقطات، وطاقة تعبيرية مدهشة من خلال اللقطات والانتقال بين الأماكن المتعددة، وتجسيد الشخصيات، ومع ذلك لا يخلو الفيلم من مشاكل وبعض الاضطراب في بنائه السينمائي.
البحث عن الزوج

الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية سيدة روسية (لا اسم لها في الفيلم) تقيم في قرية روسية غير محددة الاسم، كانت قد أرسلت طردا بريديا يحوي ملابس قديمة وبعض الأدوات الضرورية إلى زوجها السجين، لكنها فوجئت ذات يوم بعودة الطرد إليها، فتقرر تلك السيدة نحيلة البنية، التي لا تعرف الابتسامة طريقها إلى وجهها الشاحب، أن تذهب بنفسها لتقصّي سبب عودة الطرد، فتقرر الذهاب إلى السجن الذي يفترض أن يكون في سيبيريا، بعد أن توصي زميلتها في العمل الليلي كحارسة مزرعة بأن تحلّ محلها إلى حين عودتها.

تخوض المرأة “الرقيقة” رحلة قاسية، تنتقل من الحافلة إلى القطار، ومن التاكسي إلى المحطة ومنها إلى دار البريد، ثم إلى مركز الشرطة وتتعرض خلال انتقالها لمعاملة فظة غليظة، ومهانة ما بعدها مهانة. لا أحد من المسؤولين يمكنه أن يخبرها لماذا أعيد إليها الطرد.. وأمام نوافذ مركز البريد تتجمع عشرات النساء مثلها يتعاملن معها بكل قسوة، ويهينها أحد الرجال ويهددها بالبصق في وجهها مشيرا إلى أنه مصاب بمرض الدرن، ويهينها حراس المكان ويعتقلها ضباط الشرطة ثم يطلقون سراحها ناصحين إياها بمغادرة البلدة كلها.

يطاردها رجل يعرض تقديم خدماته لها عن طريق ما يتمتع به من صلات بكبار المسؤولين، سرعان ما يتّضح أنه قواد يقوم بتشغيل الفتيات لحساب أحد زعماء المافيا الروسية، وبعد أن تتمكن من الفرار منه وتجلس في بهو محطة القطارات في انتظار وصول القطار الذي تعود به، تعثر عليها امرأة سمينة (والفيلم مليء بهذه الأنماط تحديدا في تناقض مقصود مع بطلتنا الهشة “الرقيقة”) تعرض عليها تدبير مأوى لها دون مقابل، فتذهب معها بعد أن يكون قد استبدّ بها التعب والإرهاق، ولكنها تجد نفسها وسط زمرة من السكارى والمجرمين الذين يعتدون عليها ويسخرون منها.

لا يبدو أن مأزق السيدة سينتهي، أو يمكن أن ينتهي، فهذه هي روسيا كما كانت وكما أصبحت، فقد فقدت مبرر وجودها الأخلاقي بعد أن سقطت في مستنقع العفن والتدني وانهيار القيم الإنسانية والروحية. روسيا التي تبدو في الفيلم تارة، كما لو كانت روسيا القيصرية من زمن دوستويفسكي نفسه ومن عالمه الذي يصوّره في رواياته الشهيرة، وتارة أخرى يجسد المخرج الكثير من ملامح الفترة الستالينية المعروفة بالتشدد العقابي والقهر والاعتقال الذي يمكن أن يتم لأيّ سبب دون أن يحق لأحد أن يسأل أو يحاول أن يعرف.
يصور الفيلم تفشّي العنف والفساد والبيروقراطية، كما يخلط بين هذين العصرين وبين العصر الحالي حينما نلمح بوضوح دور الهاتف المحمول والكومبيوتر، بل ويجعل المرأة أيضا تلجأ طبقا لنصيحة توجهها لها امرأة أخرى، إلى مقر جمعية الدفاع عن “حقوق الإنسان” حيث ترى كمّ الفوضى والبيروقراطية والإهمال، ثم يتركونها جانبا بدعوى أن هناك حالات أهمّ من حالتها منها حالة امرأة اغتصبت في السجن، ثم تنتحي بها المسؤولة عن الجمعية وتسرّ إليها بما تتعرض له الجمعية من مضايقات وكيف تصف الصحف المحلية القائمين عليها بالفاشيين، كما يتعرض المقر لاقتحام الشرطة والاستيلاء على ما فيه من وثائق ومعلومات، وخلاصة ما تريد أن تنقله لبطلتنا أن المسألة برمتها محفوفة بالمخاطر، بل إننا نشك في لحظة ما في وجود تعاون -قسري أو تطوعي- بين هذه السيدة وبين الشرطة.
صورة قاتمة

لدينا هنا تهديدات واعتداءات وعاهرات تعملن من أجل إرضاء حراس السجن وتمزيق أشلاء لكلّ محتويات الطرود المرسلة إلى السجن بحيث تصبح لا فائدة منها، بدعوى التأكد من خلوّها من المواد المحظورة، رجال شرطة متواطئون مع المافيا يغمضون عيونهم عمّا يمارس من اعتداءات بل يشجّعون العنف، سكارى يتشاجرون ويتبارون حول أشياء تافهة، نساء فقدن القدرة على الانتماء لفصيلة النساء، ورجال يتصرفون كأنهم داخل حظيرة خنازير برية متوحشة، ووسط هذا القطيع المخيف امرأة خائفة مرتعدة لا حول لها ولا قوة، لا يبدو أنها ستتمكن قط من الإفلات من هذا المصير الأسود.

يصل لوزينيستا في نقده لما يمكن أن نطلق عليه “الحالة الروسية” (كونه ولدا وعاش طويلا في كنف الاتحاد السوفيتي-مواليد 1964) إلى أقصى درجات القسوة والتطرف وتجسيد النماذج البشرية باعتبارها أدنى من مستوى الحيوانات مع غياب كامل لأيّ بادرة أمل محتمل، وجعل المرأة الضحية وكأنّها قد سقطت في الجحيم الأرضي نفسه، تحيط بها كائنات فقدت إنسانيتها. وبعد أن يستطرد كثيرا في تجسيد هذه الرؤية القاتمة ينتقل في النصف ساعة الأخيرة من هذا الفيلم الطويل (143 دقيقة) من الدراما الرمزية إلى السوريالية عندما يجمع شخصيات الفيلم في حفل كبير وهم يرتدون الملابس التي تحمل ألوان العلم الروسي، تحت رئاسة ما يشبه القيادة (السوفييتية) مع قادة الجيش بالملابس العسكرية، حيث يلقي كل منهم كلمة تشيّع بالرّوح الوطنية (الزائفة) مع الأغاني الروسية التي شاعت في الاتحاد السوفييتي، تتغنى بالبطولات والأمجاد وتبث الروح النضالية على نحو ساخر هنا بالطبع يبلغ قمة الهزل والكاريكاتورية.
تصفية حسابات

على الرغم من محاولة لوزينيستا الالتفاف والخروج عن الأسلوب في هذا المشهد الخيالي الذي يغادر الطابع العام للفيلم، إلا أنه يسقط في المباشرة بل والخطابة رغبة في توجيه الإدانة وتحقيق انتقامه الخاص من روسيا، وتصفية حساباته مع “الاتحاد السوفييتي” سينمائيا، بعد أن أصبحت “الموضة” الآن في أوروبا الشرقية أنه لكي تضمن التمويل الفرنسي والغربي عموما، يجب أن تهيل التراب على الماضي “السوفييتي” كلّه بأثر رجعي، وتجعل الحاضر امتدادا للماضي الروسي، أي التأكيد على فكرة أن روسيا لم تتغير، من القيصرية والسوفييتية والعهد الحالي، بل وأنها غير قابلة للتغيير أيضا، وهي رؤية عدمية مشبعة باليأس والإحباط تجعل “المرأة الرقيقة” شخصية من الحاضر والماضي معا، ومن الرئيس بوتين قائد الأوركسترا الذي يرعى التدهور والفساد والقهر.
ماذا يخفي مجتمع التعفن؟
من ضمن المشاهد التي تعكس تلك الرغبة في إدانة الماضي بشكل مباشر متطرّف، نشاهد بطلة الفيلم وهي تسأل رجلا يجلس في إحدى الحدائق عن شارع جيرجنسكي الذي قيل لها إنه يؤدي إلى محطة القطارات، فيقول لها إنه يقع بين شارعي إنغلز وماركس، وإنه ربما كان يستحق شارعا أفضل. والاسم المشار إليه هو “فيليكس جيرينسكي”، المنحدر من بولندا وكان أحد قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي في روسيا، وتعامل مع لينين وستالين، ويعتبر المؤسس الأول للشرطة السرية السوفييتية التي يُنسب إليها الكثير من التجاوزات. وقد دفن بعد وفاته في احتفال رسمي باعتباره أحد أبطال الاتحاد السوفييتي، وأطلق اسمه على عدد من المدن.

فيلم “امرأة رقيقة” رغم ثقل إيقاعه واضطراب بنائه بعض الشيء، وعدم تطور حبكته أو غيابها، مع العجز عن متابعة بعض الشخصيات التي تخرج من الفيلم على نحو غامض، ورغم ما يمتلئ به من مبالغات وتكرار لمشاهد السكر والعربدة والغناء والفوضى العبثية، إلا أنه يتميز بجرأة الخيال وجمال التكوينات البصرية والقدرة على حشد كل هذا العدد من النماذج البشرية في لقطات قريبة (كلوز أب) متنوعة تعكس رغبة صانع الفيلم في تصوير القبح والتدني بما يجعله يصل إلى رفض العالم نفسه ووصمه بالشر المطلق.

لا شك أيضا أن لوزينيستا نجح في اختيار الممثلة التي أسند إليها الدور الرئيسي وهي ممثلة المسرح الروسية فاسيلينا ماكفوستيفا (في أول أدوارها في السينما)، وهي تعبّر بأقل قدر من الكلمات، وبأكبر قدر من استخدام النظرات الحزينة الصامتة الخائفة الخانعة التي تجعلها تبدو، حتى وهي في أدنى درجات الخوف، تتصف بشجاعة نبيلة وقدرة مدهشة على الصمود أمام أعتى الرجال. لقد استخدمت نظراتها الصارمة التي تعكس الإصرار والثبات في هزيمة رجال الشرطة بكل فظاظتهم وشراستهم. لكنها رغم ذلك، ظلت أسيرة المتاهة التي لا نعرف كيف يمكن أن تخرج منها إذا خرجت بالطبع!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى