أنور البخيتي يرصد الشعر والحرب في «صنعاء تحت الحرف السابع»

أحمد الأغبري

علاقة الشعر بالحرب وصولا إلى ما عُرف لاحقا بأدب الحرب هي علاقة قديمة، وعلى قِدمها بقيت ملتبسة المفاهيم لدى الكثير، خاصة في تحديد علاقة واضحة لما يمكن اعتباره أدبا متعلقا بالحرب، بدءا من الرواية وأشكال السرد الأخرى، بالإضافة إلى الشعر وما مثله في حياة الشعوب والأمم، كوسيلة مهمة من وسائل تدوين وتوثيق الأحداث والملمات والمعارك وتسعير الحروب أيضا.
تبقى الحرب أكبر مشاكل الحياة الإنسانية على صعيد الفرد والمجتمع، كما تمثل مشكلة أكبر للمبدع، الذي يجد نفسه يعيش واقعا لا يتكرر، ومن واجبه أن يدلي فيه بدلوه ويقول قوله؛ وفي هذا عليه أن يختار أحد دورين: إما شاهدا عليها أو مشاركا فيها. وفي هذا يكون لكل شكلٍ أدبي طريقته، كما لكل مبدعٍ أسلوبه ورؤيته وموقفه أيضا.
على صعيد الشعر فإن مهمته ازدادت تعقيدا في العصر الراهن، مع تعقيد الحروب وتداخل المصالح الدقيقة في قراءة وفهم المنتج الإبداعي؛ وهو ما يجعل الشاعر في حاجة لإمكانات ووسائل تساعده على تجاوز مأزق الخوف من السلطات المختلفة، الذي قد يؤدي إلى الذوبان، دون شعور بموقف طرف من أطراف الحرب؛ وهو ما يتطلب منه إدراكا واعيا لقيمته ومكانته وموقفه، الذي يفترض أن ينحاز للإنسان والوطن؛ والوطن هنا هو الشعب وحقوقه وحرياته… ومثل هذا يفترض من الشاعر أن يكون ممتلئا به، ومن خلاله يكون قد اختار مكانه على منبر الموقف الرافض للموت، وتمثل موقف الشاهد المنحاز للحياة الحرة الكريمة؛ وذلك لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية واعية، تمثل رد فعل لإنسانيته واستشعارا منه لدوره، لاسيما وهو يمتلك من خلال الشعر، لو صحت علاقته به، ما يمكنه أن يقول، من خلاله، كلمته، وأن يتجاوز أي مواجهة مباشرة مع السلطات خلال طوارئ الحرب، لكن موقفه هنا لن يكون موقفا ضبابيا، بل واضحا في استنطاقه لعواطف الناس وأوجاعهم ومواقفهم، متماهيا تماما مع الوطن والإنسان، مع الضحايا مع الناس، مَن يشربون علقم الحرب ويدفعون الثمن باهظا من حيواتهم ومستقبل أبنائهم.
وهنا قد يتميز الشعر في التأثير، لاسيما إذا كان الشاعر يتكئ على رؤية ثقافية واعية وتجربة فنية غنية وذكية؛ بما يجعل من قوله الشعري ثقيلا في ميزان التعبير والتصوير، وبما يفتح أمام القارئ آفاقا يقترب فيها من وجعه. فالشاعر في علاقته بكل شيء لا يشتغل سوى على قيم الإنسان الكريم والوطن الحر، ومن هذا يكون موقفه وموقف أي مبدع في أي مجال من مجالات الإبداع.
كان أنور البخيتي مصيبا بإطلاق صفة كتاب على ديوانه الصادر مؤخرا بعنوان «صنعاء تحت الحرف السابع» فالديوان الفائز بجائزة المقالح للإبداع الأدبي 2016 اشتغل على الحرب موضوعا واحدا لكل قصائد الديوان، انطلاقا من صنعاء رمزا لكل اليمن لا تمييزا، من واقع الألم اليومي في البلاد، وهو الألم الذي تفاعلت معه قصائد الديوان في 119صفحة من القطع المتوسط.
لقد اشتغل الشاعر في هذا الإصدار على ما شهدته البلاد قبل وخلال الحرب الراهنة، والتي سبقتها حروب جزئية في مناطق متفرقة في البلاد، بين جماعات مسلحة ووحدات من الجيش، على هامش مشاورات سياسية ومبادرة تسليم السلطة ومؤتمر حوار وطني، وصولا إلى الحرب المستمرة من آذار/ مارس 2015 ما يعني أن جزءا من محتوى الديوان قد كُتب قبل الحرب الراهنة، والجزء الآخر كُتب خلال فترة من هذه الحرب، وقد تكون في العام الأول وبعض من العام الثاني، كما أضيفت إليه نصوص كتبت بعد فوزه بالجائزة؛ واعتقد أن الشاعر لم يكن موفقا في تلك (الإضافة) كون أجواءها لم تكن على علاقة وطيدة بسياق الديوان.
وحرصا من الشاعر على ألا يلتبس فهم موقفه كان إهداء الديوان (إلى كل الضحايا)، مؤكدا بهذا موقفه الرافض للحرب… وهو ما تجلى تفصيلا في سياق النصوص التي لم ينحز فيها الشاعر لأي طرف من الأطراف، بل كان قاسيا في محاكمة الجميع، انطلاقا من وعي بالمكان والزمان وإيمان بالإنسان وكفر بواح بكل مشاريع الحرب والموت؛ ولهذا فهو يحاول من خلال شعره أن يستنطق حزن بلاده وألمها:
أُلَمْلِمَ وَطَنا
يُسافرُ في نَزَقِ الأرضِ
قَوافلُ حُزْن
على امتداد دواوين تجربته التي يمثل هذا الديوان رابع إصدارتها، يمثل أنور البخيتي حالة شعرية خاصة، تميزها رؤيته ودأبه في البحث عن اليقين في كل شيء؛ وهي الرؤي التي تسند قصيدته، بل هي حامل مهم من حوامل شعريته؛ كما أن تلك الرؤى التي تشكلت عن قراءات مختلفة قد مكنته من الإمساك بزمام لغة خاصة ازدانت بها جملته الشعرية وعززت من تميزه في التركيب والبناء الشعري القائم في قصيدة الومضة، ولعل براعته في الاختزال والتكثيف، قد جنبه مزالق المباشرة والتصريح والتفسير، خاصة في موضوع شائك ومشكل كموضوع الحرب.
في وصفه للديوان يقول الشاعر والناقد عبد العزيز المقالح، إن شعرية الديوان واحتفاءه بالمتخيل والمتجاوز في جماليات التعبير، يقدم صنعاء كما ترسمها الحرب الدائرة الآن. وهو ـ أي الديوان ـ لهذا كله يؤكد أن هذا الفن العظيم فن الشعر، يعيش أزهى سنوات تجلياته وتطوره رغم المناخ الخانق وتصاعد معوقات النشر.
يمثل هذا الديوان امتدادا فنيا ورؤيويا لتجربة الشاعر في دواوينه السابقة خاصة «النار جنة من عصى» و»بلى ولكن»… من حيث تكريس كل ديوان لمسار موضوعي واحد، واعتماده توزيعا وتبويبا وبناء يجعل من كل ديوان وحدة متكاملة في علاقته النقدية بالمواقع والمحيط، وعلى الرغم من كل ذلك فقد جاء ديوانه الأخير خطوة متقدمة، خاصة في تمثل الرؤية الإنسانية والاشتغال على الصورة الشعرية بمفهوم أعمق وأوسع مما كانت عليه في أعماله السابقة؛ لدرجة يمكن أن نقول إنه استطاع في هذا الديوان (مشهدت) الصورة و(مسرحت) الحدث الدرامي في ومضة شعرية، بما يمكن معها تحويل الديوان إلى مسرحية شعرية بسهولة؛ فقد كتبها بتراتبية درامية للحدث؛ فموضوعها واحد يتصاعد بشكل دراماتيكي من خلال لوحات شعرية عاش من خلالها الشاعر وجع الحياة تحت الحرب، من خلال معايشته لها في صنعاء، تحت قصف طائرات التحالف وإيقاع حياة مسلحة؛ فثمة حشد بديع وبناء مكثف في الجملة الشعرية، بل كأنه يكتب بها ملاحم نقرأها في الصور الشعرية بشعرية مشهدية عالية:
مِنْ باطنِ الأَنقاضِ نُخْرِجُهم
قِطعا.. جُثثا
الطِفلُ يخرجُ ساخرا
وأمام حشدِ الكاميرات وَرُوعُنا
يَختالُ مُبتسما

أول ما يتجلى من الملامح الخاصة لتجربة هذا الديوان؛ هو اشتغال الشاعر على الرمزية بمستوى يفوق ويختلف عما كان عليه، ولعل رمزية الحروف والأرقام هي أول معالم هذه الرمزية بدءا من عنوان الديوان «صنعاء تحت الحرف السابع»، وهو عنوان يصدم القارئ، ما يجعله يتذكر قرار مجلس الأمن الصادر عن اليمن تحت الباب الســـابع، وهو الباب الذي يجيز التدخل العسكري في أي بلد، وهنا اختار الشاعر صنعاء باعتبارها المكان الذي اشتغل عليه، وهي مركز اليمن، كما استبدل كلمة (الباب) بالحرف والحقه بالسابع، والحرف السابع في الأبجدية الهجائية العربية هو حرف الحاء، أول حروف كلمة حرب، في دلالة على موضوع الديوان/ الكتاب وموقفه الرافض لموقف الأمم المتحدة أيضا.
تتوالى الرمزية الحرفية والعددية، من خلال تقسيم الديوان إلى سبعة أقسام كعدد أبواب صنعاء المدينة القديمة، وعنونة كل قسم باسم من أسماء هذه الأبواب، وتحت كل عنوان باب كان يضع حرفا بين حاصرتين، وعندما نجمع تلك الحروف الموزعة تحت عناوين كل باب نجدها تؤلف كلمة «جمهورية»، وهذا موقف رمزي من الشاعر بالانحياز لمشروع الجمهورية، ضد أي مشاريع أخرى تستهدف البلاد. كما كان لافتا وضعه لعدد رقمي طويل تحت كل عنوان باب؛ وعند فك رمزيتها نجد الشاعر، قد حرص من خلال كل عدد الإشارة إلى حدث كبير شهدته صنعاء في مسار تطور أحداث النزاع؛ ففي عتبة الباب الأول «باب شعوب» وضع تحته عدد 1831126، وعند قراءته من اليسار نجده يشير إلى حدث جريمة مجزرة الكرامة التي شهدتها صنعاء في ساحة التغيير بتاريخ 18 مارس 2011 وسقط فيها 26 شابا بريئا من المعتصمين ضد نظام الرئيس السابق علي عبدالله صالح.
اعتنى الشاعر بهندسة ديوانه كثيرا، مستندا إلى جدار لغوي ومتكئ معرفي ورؤية نجدها على علاقة جيدة بالتاريخ والتراث؛ فالتراث كان من أهم أدواته، وقد استحضره ووظفه بدءا من العناوين والعتبات وصولا إلى النصوص، كما كان تراث المدينة مشرئبا من خلال توظيف الشاعر لمفردات ثقافة المدينة في سياقاته الشعرية، كالستارة والقمرية والشذاب والشاقوص وغيرها من مفردات ثقافة ولغة المدينة التقليدية الخ.
وعلى الرغم من اعتماد الشاعر بعض التسميات التقليدية لأبواب صنعاء القديمة إلا أن تسميتها هنا لم تكن اعتباطا؛ ففي الباب الأول (باب شعوب) تناول الشاعر في قصائده صراع 2011، وكان ذلك الصراع بين القوى التقليدية أشبه بصراعٍ بين شعوب وليس بين جماعات تنتمي لشعب واحد. وهو ما اعتمد عليه الديوان وصولا الى الباب السابع، الذي أطلق عليه (باب الحرية) وهي تسمية حديثة لما كان يسمى (باب عدن) ومن ثم أطلق عليه (باب اليمن) ليطلق عليه بعد قيام الجمهورية اسم (باب الحرية)، وهذا الاسم هو ما اعتمده الشاعر، تسمية للباب السابع للديوان وكأنه يؤكد أن الحرية ستكون هي المخرج الأخير لكل هذا الصراع.
وبعد أن استغرق الشاعر في قراءة ما شهدته المدينة من أحداث منذ عام 2011 وذلك في الأبواب الثلاثة الأولى، يتوقف في الباب الرابع عند الحرب وما شهدته المدينة خلال القصف من طائرات التحالف… ولأنه سيتحدث عن الموت فقد كانت تسمية باب حزيمة رمزية كافية لعنوان هذا الباب؛ لأن (حزيمة) هو اسم لمقبرة شهيرة في صنعاء، مؤكدا موقفه الرافض للحرب طريقا للسلام، من خلال سبع عشرة لوحة شعرية تعبيرية تساءل في مستهلها:
هل يزْرَعَ الصَّاروخُ وردّا
القَنَابِلُ
هل تَحِيلَ الأرضَ زَهْرا؟
فتحدث عن حرب وقصف عاشه وشاهده وشهده، فتأتي نصوصه لوحات عن مشاهد الموت والدمار والخراب.. يمكن القول إن الشاعر استطاع من خلالها أن يقترب كثيرا من مناطق الألم الإنساني في وصفه لما عاشه الناس في صنعاء، جراء القصف:
النّاسُ يَرْكُضون بِلا وَعِيٍّ
نِسَاءٌ بِمَلابس النُّوم
أطفالٌ بِلا آبَاء
شابٌ يَحمِلُ جِدتَهُ على ظَهْرِهِ
ترجُفُ من الخُوّفِ
هَلْ قَامتْ القِيَامةُ؟
وبعد كل ذلك الحوار مع الألم يؤكد الشاعر:
هُنا صنعاء
لست وحيدا
لستُ مع نفسي
لست معي
مَعَ ( اِبتسامةِ طِفلٍ، يَخرجُ مِنْ تحتَ الأنقاضْ
دَمعةِ شَيْخٍ، فَقَدْ الخاتِمةَ المَرضِيَّةَ للعُمْر!
حسّرةِ شَابْ أدركَهُ سِنُّ اليَأسِ.. لَمْ يَسْتَشْهِدْ بَعْد!
تَنهيدةِ أرملَةٍ، فقدَّتْ شهوتُها بحديث الثَّأرِ اليوميِّ للطِّفلِ الأَرْعَن!
حُرْقَةِ ثَكْلَى، أَسقطَتْ المولُودُ الأوَّلَ مِنْ هَوْلِ القَصْفْ, ودُوِّيَ الموتُ النَّاجِزُ
في الأرضْ)
أَتوسَّدُ صَاروخا
أُوصِدُ نافذة الأرضِ
أُعَرْبِدُ في شوارعِ الذّاكِرَةْ
واخْلِدْ للتِّيه..
*
هَذي الجَماجِمَ كيفَ تُحشَى في البَنَادِقِ
بالقاتِ حينَ «يَشذُّ كيفٌ»
تَنْتَشي قَتْلا
وتَذْوِي حين يخذُلَها المَقِيلُ
هُنا صنعاء
لست وحيدا
لستُ مع نفسي
لست معي!
مَعَ (صنعاء
أطحنُ عِظامِيْ
أقْطَعُ لِحمِيْ
أسْفُكُ دَمِيْ
أكتبُ: أمنيَّةُ الجِرَارِ للبئْرِ العميقِ
حنينُ حبَّةِ القَمْح للتُّربةِ الصالحةِ
نوحُ طائرٍ لم يُغادرْ عُشَّهُ مُذْ أوَّلِ غارَةْ
اِرتجافُ يدَي طفلٍ في السَّنَةِ الأولى من عُمره
النُّقُوشُ الَّتِي على جَبِينِي
سَدُّ مأرب.. الفَأْر
حِقدُ المُهاجِرينَ بَعدَ الاِنْهِيار!
وتَمْتَمَ «عطّان»
اليومُ وردا.. وغدا رصاصْ
اليومُ وعدا.. وغدا: قِصَاصْ
قد يكون هـــذا الديوان هو الأول في اليمــــن خــــلال الحرب الراهنة، الــــذي كُرس لهذه الحـــرب وفق رؤية مختلفـــة وجمــــلة شعرية مـشهدية تنز ألما.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى