مسرح الطفل والفعل المعاكس

علي لفتة سعيد

كان المسرح عنصراً فاعلاً من عناصر التثوير والتطوير وبناء الحضارة، وهو أقدم الفنون التي ارتبطت بالعبادة والطقوس وحتى الأسطورة، وإنه الحلقة الأقرب بين الطقس الذي يمارس فوق خشبة المسرح وبين الجمهور المواجه لهذا الطقس والمستلم للرسائل العديدة التي تبثّها حيثيات الطقس ودلالاته وأدّلته وغاياته وأهدافه.

لذا فإن التعريف بكون المسرح أب الفنون جاء لتثبيت حقيقة اللقاء المباشر والاستلام المراد والتدوين المؤثّر، والذي ينتج عن هذه المباشرة فعلٌ خلّاقٌ قد لا يحتاج إلى دهاليز وإعادات وتكرارات وتغيير في نمط الرسالة وأحجيتها وتراتبيتها، بقدر ما يحتاج إلى تثبيت الفعل الدائم لها لأنها تعتمد على البث المباشر.

ولأن المسرح كما هو معلنٌ بدأ من أيام الإغريق والرومان لكن الحقيقة تقول أيضا إن الفراعنة كانوا أكثر الناس إنتاجاً للنصوص المسرحية حتى لو كانت نصوصاً دينيةً أو ترتبط بالإله لتكوين صلة الارتباط الميتافيزيقي، وهو الأمر نفسه يؤخذ على السومريين كذلك، فتلك العبادات التي ترتبط بصناعة الآلهة وتتّخذ من المسرح والنصّ المسرحي دليلاً على التواصل وإدغام العقول بأوامر عبادية وطاعاتٍ متكرّرة بهدف السيطرة على الناس بطريقة عباداتٍ خاصّةٍ كهنوتيةٍ، فيكون المسرح العنصر الفاعل في التأثير المباشر.

وإذا ما عدنا إلى المسرح في البلاد العربية في القرن العشرين فإنه، أي المسرح، كان من أكثر الفنون تأثيراً على الواقع العربي سواء بجانبيه السلبي أو الايجابي، وسواء تلك التي اتّخذتها الدول المحتلة أو السلطات الدكتاتورية أو الجهات المعلنة عن الوعي وتثوير الناس والحقن التوعوية المراد تنشيطها في العقل العربي.

وفي هذا المسرح يبدو أن العراق كان أوّل من انوجد فيه النصّ المسرحي كما يقول الباحث والمؤرّخ المسرحي العراقي أحمد فياض المفرجي في مقال له بجريدة المدى العراقية إذ يقول “إن ‘لهجة الأبطال’ مسرحية شعرية صدرت طبعتها الثانية في سنة 1911 أي قبل أن يطبع أحمد شوقي كّل مسرحياته التي ذاع صيتها، ونالت قصب السبق في جميع الدراسات العربية والعراقية والأجنبية أيضا..”.

لسنا هنا في مجمل أيّ له قصب السبق العراق أم مصر لأن الحضارتين اعتمدتا على المسرح حتى في تدوين الفكر الألوهي أو الديني أو الأسطوري، وربما يعدّ البعض ملحمة جلجامش نصّاً مسرحياً مثلما يعدّونه نصّاً شعرياً قبل أن يكون سرديّا.

إن مسرح الطفل في البلاد العربية بدأ أيضا مسرحاً مدرسياً كما يشير إلى ذلك يوسف نجم الذي أرجع هذا الاهتمام إلى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين بمصر ولبنان، وإن دول الخليج اهتمت مؤخّراً بهكذا مسرح لما يشكّل من أهميةٍ في تربية الطفل، ولما يشكّله المسرح من أهمية في المشاركة في هذه التربية.

وفي العراق بدأ منذ أربعينات القرن الماضي من خلال مسرح المدارس ولكنه تحوّل إلى المسرح خارج المدارس مع مطلع الخمسينات من القرن العشرين كما يؤكد ذلك الباحث الفنان حسين علي هارف الذي يعد مرحلة سبعينات القرن الماضي هي المرحلة الأهم في تاريخ مسرح الطفل العراقي إذ أخذت الفرقة القومية للتمثيل وهي الفرقة الأعرق والأهم في العراق على عاتقها إنتاج عروضٍ مسرحيٍة للطفل والتي انطلقت بمسرحية “طير السعد” للفنان قاسم محمد عام 1970 التي عدّت مسرحيةً للطفل بجدارة وعدت كذلك النقطة الأوضح في مسيرة مسرح الطفل في العراق.

ويقدّم قاسم محمد عرضه المسرحي الثاني والذي يحمل عنوان “الصبي الخشبي” بعد عامين من ذلك العرض فكان المخرجون الكبار بعده أو مجايلوه يحاولون تأسيس مسرح للطفل تكون له رسالته الواضحة ومنهم سعدون العبيدي ومحسن العزاوي وبهنام ميخائيل وسليم الجزائري لتقام في العراق عروض خاصة بمسرح الطفل. وفي هذه الفترة قدمت فرقة “مجلتي والمزمار” التابعة لدار ثقافة الطفل في وزارة الثقافة مسرحية في عام 1972 أي في فترة تقديم قاسم محمد لمسرحيته الثانية حيث قدمت مسرحية “الوردة والفراشة” وهي من إعداد وإخراج عزي الوهاب.

إن ما يهمنا هو إن هذا الفعل الخلّاق تراجع في العراق وأصبح هذا الفن بدلاً من أن يكون وسيلةً فنيةً لتربية الجيل أصبح هامشياً كما هو المسرح بشكلٍ عام نتيجة للظروف التي رافقت العراق.

ولكن الضحيّة الأكبر هو مسرح الطفل رغم محاولات النفخ التي تقوم بها هذه الجهة أو تلك، لكنها محاولاتٌ إما يتيمةً وفقيرةً أو أن لها أيديولوجيات سياسية أو دينية أو إنها إسقاط فرضٍ تقوم بها جهاتٌ حكوميةٌ لا تسمن من جوعٍ لأن لا متفرّجين لها مثل مهرجانات المسرح التي تقيمها وزارة التربية في كلّ عام أو مؤسّسات وزارة الثقافة، لأن التخطيط العلمي والهدف الفلسفي غائب عن هكذا فعاليات لأنها أي هذه المؤسّسات لا تعمل من أجل حثّ المؤلّف على إنتاج نصٍّ مسرحيٍّ يوازي حاجة الطفل بل إن بعض المؤلفين ينتجون نصوصاً تريدها المؤسّسات ذاتها سواء ما كانت منها مؤسسات حكومية أو سياسية أو حتى دينية.

لكن السؤال الذي يبرز بصورةٍ أدق: هل تواصَل مسرح الطفل بشكلٍّ يؤسّس لحاجة الطفل إلى عروضٍ خاصّة لتنمية عقله ومواهبه وحتى لتخليصه من الشوائب التعصبية؟ أم ظلّ أسيراً لهذه المؤسسة أو تلك؟

إن ما يحصل الآن من مهرجانات لا تعدو عن كونها مسرحيات يحضرها الكبار ولا يستفيد منها الصغار وهي مسرحيات في أغلبها لا تلائم المرحلة العمرية للطفل، وهو أمر لا يختلف عن الحقيقة التي يجب ذكرها أن المسرح والفنون في العراق انتكست بعد عام 1980 وما تلاها بسبب الحرب العراقية الإيرانية ثم حرب الخليج والحصار، والأمر الأغرب كما تؤكد المصادر أنه لم يقم في العراق مهرجانٌ لمسرح الطفل لأنه يعد مسرحاً لا يحقق الشهرة للممثلّين ولا يجد سهولةً في كتابة النص المسرحي.

وقد يقول قائل إنه بعد عام 2003 تمت إقامة مهرجان متخصّص لمسرح الطفل من قبل الفنان عباس الخفاجي حين أسّس الفرقة الوطنية لمسرح الطفل، ولكن هذا العمل لم يستمر للظروف التي يمر به العراق وتلك الصراعات التي تهيمن على الحركة الثقافية والخوف من الخوض في أمورٍ قد تعدّ ممنوعةً، بل أكثر خوفاً من السابق، خاصة وأن أفكار مسرح الطفل قد تكون أكثر مراقبةً بالنسبة للكبار.

بل إن الكثير من الفنانين يقولون إن الإبداع موجود ولكن هناك ما يعرقل تنمية هذا الفن، أوّلها غياب الدعم وثانياً غياب القاعدة التي تحرّك هذا الفن وهو ما أثّر بشكلٍ كبيرٍ على إلغاء الكثير من المهرجانات التي انبثقت وأريد لها أن تكون رسالة بناءٍ للعراق تبدأ من الطفل.

وختاماً يمكننا القول إن المسرح الذي بدأت بواكيره قبل الميلاد سواء في العراق أو مصر كما تشير الدراسات والبحوث والذي ازدهر في العصر العباسي كان الطفل محوراً في أعماله أو أنه جزءٌ من هذا العمل، لكنه الآن بات عبارة عن مهرجانات يتيمة أو مسابقات باهتة تقام هنا أو هناك وأغلبها يتم إلغاؤها لأسبابٍ ماديةٍ أو سياسيةٍ أو لا يحظرها الأطفال بل الكبار والشخصيات وهي عروضٌ يتّهمها البعض بأنها تأتي لتشغيل الفنّانين والحصول على موارد مالية أو التسابق في العروض من أجل استغلالها سياسياً أو حتى دينيا.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى