الشاعر وجامع الهوامش» … رواية بين التوثيق والعبث

غسان مرتضى

يتابع الروائيُّ فوَّاز حدَّاد في روايته الجديدة (الشاعر وجامع الهوامش) ما كان قد بدأه في (السوريُّون الأعداء)، فيرصد مسارات الثورة السوريَّة وانعطافاتها، بعد ما نجح النظام في تحويلها إلى حروبٍ طاحنة يشارك فيها الجميع؛ مَن يريد أن يبني دولة الخلافة أو دولة العلمانيَّة، ومن يريد أن ينتقم لجده الحسين الثاني أو يزيد الرابع عشر، وهو إذ يفعل ذلك بطريقته الواقعيَّة التاريخيَّة التي تجنح إلى الطبيعيَّة التوثيقيَّة، نراه يحلِّق بعيداً في عالم الخرافة، ليعبث بالخطاب التاريخي الذي ما انفكَّ يعبث بنا في العقدين الأخيرين.
بطل الرواية مأمون، اسمٌ بلا إيحاء أو رائحة، شاعرٌ متدني الموهبة، وناقد ومثقف علماني ومتمرد، رماديُّ الموقف من النظام والثورة، أشبهُ بمعارض، ويتحول إلى شبه مخبر وقت الضرورة. أمَّا الحدث الرئيس فهو تكليفه اقتياد وفد من الأدباء للقيام بجولة على محافظات القطر بهدف تعزيز دور الثقافة في حرب المؤامرة الكونيَّة ضدَّ مركز الممانعة والمقاومة.
لا يبدو البطل لافتاً للانتباه، ولا يبدو الحدث الأول مُشرقاً مشوِّقاً، وقد لا تشدُّك الصفحات الأولى للمتابعة، وربَّما تتساءل عن معنى أن تبدأ روايةٌ بتكليف كهذا، بل تتساءل عن معنى اتحاد الكتّاب نفسه، ومعنى الشعر في الوقت الذي سقط فيه شعراء الدرجة الممتازة في امتحان ألف باء الأخلاق!
لكنَّ الحدث الباهت الخافت، سرعان ما يحفِز أحداثاً متناثرة في اتجاهات متباينة، يلمُّ الروائيَّ شعثَها بحنكة العارف، ويُسلكها في مستويين سرديين منتَظَميْن، يكاد كلٌّ منهما يشكِّل روايةً مستقلة: الأول واقعيٌّ تاريخيٌّ مرتبط بأمكنة محددة وملموسة، والآخر فانتازي ساخر، تجري وقائعه في مكان خيالي هو مغربال.
يسرد الروائي في المستوى الأول على لسان بطله الراوي – عبر التذكر والتداعيات والمراسلة… – قصة الشعب السوري في الأمكنة الفعليَّة المعروفة، ويهتدي في سرديَّته هذه باثنتين من العلامات، هما:
1- تعرية أدوات النظام في السلطة والتسلط، وأهمُّ هذه الأدوات: اليد الخفيَّة التي يمثلها خالد بعد أن مثلها المهندس في(السوريون الأعداء)، وهي يد تتحكم في الأشياء كلِّها؛ بدءاً من الجيش وجهاز الاستخبارات، وليس انتهاء بسائقي عربات جمع القمامة، يدٌّ تهندس الأشياء، ولا تكتفي بتصنيع الأبواق الإعلاميَّة، بل تصنع الأبواق المعارضة أيضاً. ومن بين هذه الأدوات جهاز الاستخبارات والشبيحة، وينطلق رجال الاستخبارات في عملهم من المبدأ الذي يوجزه «سيادة» العميد رئيس الفرع بالقول: (الشعب ناكر للجميل) ص99، أمَّا الشبيحة فهم جهاز ضخم يتشكَّل من قتلة مأجورين ومجموعات (زعران، لا علاقة لهم بالتهذيب، لكنَّهم مفيدون، الجنود أحياناً يترددون إزاء القتل، أمَّا هؤلاء فمجرمون بالسليقة) ص99. ولاتتوقف التعرية عند ذلك بل تمتد إلى واقع الثقافة والمثقفين السوريين، حيث النفاق والفساد والدجل والارتزاق، لا سيما بعد تحول المنشآت الثقافية إلى سجون ومراكز للتشبيح.(ص86-88)
2-التوثيقيَّة: فعلى رغم أنَّ الروائي في أحد لقاءاته الصحافيَّة يقلل من شأن الهمِّ التوثيقي في رواياته، ويعتبره مجرد واحد من أبعاد العمل الروائيِّ، غير أنَّ الدافع الأخلاقي يقوده في كثير من الأحيان إلى الواقعيَّة المغرقة في توثيقيتها، فهو لا يترك أيَّ سانحة لتوثيق وقائع المأساة السورية تفلت من قلمه؛ فنراه منخرطاً عبر شخصيَّة حسين في تسليط الضوء على جريمة الاغتصاب الذي مورس على كثيرات من حرائر الشعب السوريِّ، بوصفه وسيلة للانتقام من الثائرين، والذي استمرأت السلطات استخدامه ضد الأحرار أيضاً(يقف الرجال عراة بالكامل… ثمَّ يُعتدى عليهم بطريقة همجية… الاغتصاب يتكرر… القليلون صمدوا) (ص456) (ويُغتصب الأولاد أمام آبائهم وبالعكس) (ص135) وتنتهي شخصيَّة حسين التي اختُلِقت أصلاً لتوثيق عمليات الاغتصاب بانكشافه وسحله، وترك جثته في الشارع.
ويعالج الروائيُّ في المستوى الثاني (الرواية الثانية) موضوع تجديد الخطاب الديني الذي أخذ يتفاعل في الأوساط الثقافيَّة والفكرية العربيّة في عشر السنوات الأخيرة، ويلجأ – في محاولةٍ ذكيَّة منه لئلا ينكأ قروحاً متعفنة – إلى الخيال والرموز والاستعارات واللعب اللغويِّ والسخرية الناعمة وإدخال الحابل بالنابل.
وعلى رغم أن الدين الذي يدّعي بعضهم ابتكاره لا يعدو أن يكون تُرَّهةً أصلاً وفروعاً، إلا أنَّ اليد الخفيَّة ترى ضرورة السيطرة عليه وتوجيهه من البداية، كي لا يفلت في لحظة ما، ومن هنا تأتي مهمَّة الشاعر التي كلَّفه بها المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب بأوامر من اليد الخفيَّة.
أمَّا مكان الحدث فهو قرية مغربال المتوهَّمة الشبيهة ببعض قرى الساحل السوريِّ؛ قرية كانت نصفَ معارضةٍ، لكنَّ مهندسي النظام تمكنوا من تطويعِها وتدجينِها في (السوريون الأعداء)، فغدت موالية تامَّة الولاء، وخزَّاناً بشرياً يرفد أجهزة القتل والتدمير بالموارد شبه البشريَّة. قريةٌ بلا حياة يقتلها الفراغ والصمت والأحزان المترافقة مع تشييع شبابها الذين يتقاطرون في سيارات دفن الموتى.
يحاول الروائي عبر هذا المكان الخرافي أن يستكشف ما يحدث في الوقت الراهن في ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً المجتمع العلوي فيختلق صراعاً فيه بين جيلين؛ جيلِ الضباط المتقاعدين الذين (كانوا قادة في الجيش، وأصبحوا قادة في القرى) (ص55) والذين لا يصلحون لشيء سوى اجترار ذكريات عن بطولات وهمية وانتصارات خلبيَّة، علماً أنَّ لدى بعضهم (سجلاً حافلاً بالمخازي…، لا شيء يخفى، أياديهم ملوثة بالرشاوى، ساوموا جنودهم على رواتبهم لقاء التغيب عن الخدمة) (ص46) وجيل الشباب المثقَّف الأفَّاق المتطلع إلى عالمٍ جديدٍ يجهل ماهيته.
يصطرع الجيلان على قضيَّة عبثيَّة غروتسكيَّة صرف، تتمثل في ابتكار دينٍ جديد. ويكاد الجيل الشابُّ أن ينتصر، لولا حنكة اللواء المتقاعد التي ترشده إلى الأستاذ جامع الهوامش المنعزل خارج الوجود، فيعينه مستشاراً له. أمَّا المستشار المكتنز ثقافةً بما قرأه من كتب وهوامش وهوامش على الهوامش فسرعان ما تتفتق قريحته عن فكرة تعيين اللواء إماماً معصوماً، ثمَّ تغييبه كي لا يفضحه جهله. وتتفاعل قضية الدين الجديد بحوارات مماثلة، فتمرُّ عرضاً أو استعراضاً قضية المهدي والتكوين وإلارادة والأبدية والتقمص والمسخ… في ترابطات مع المستوى الأول من الرواية، قد لا تبدو عضويَّة أحياناً.
يبقى مأمون في حيرة من كلِّ شيء ينوس بين اليد الخفيَّة وجامع الهوامش، منتظراً أن يُطَوِّر الروائي شخصيته في رواية لاحقة ينبغي أن تشكِّل مع روايتي (السوريون الأعداء) و(الشاعر وجامع الهوامش) ثلاثيَّة المأساة السوريَّة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى