محفوظ والغيطاني أعمالهما أيقونات قاهرية

شريف الشافعي

الكاتب” و”المكان”، ساحران يعملان بجدّ، يسموان بما هو حقيقي فوق حدود المنطق، ويؤسطران ما هو ملموس ليتجاوز أفق الدهشة.

القاهرة الفاطمية، لا تزال قلب العاصمة النابض حتى يومنا هذا، وجذوة الحياة العميقة، خصوصًا في المناسبات المشهودة؛ كالاحتفالات الدينية، والموالد، والأعياد، والنهارات والمساءات الرمضانية. المكان هنا فاعل بامتياز، قادر على الإبداع بحد ذاته، وعلى خلق مبدعين كبار إذ يمنحهم طاقة استثنائية من أعمق آبار التاريخ.
كاتبا القاهرة

من أبرز المبدعين المصريين، الذين أنبتتهم القاهرة القديمة صغارًا، وأشبعت أرواحهم شبابًا وكبارًا، السارد الأبرز أديب نوبل نجيب محفوظ (11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006)، والحكّاء العاشق للتراث جمال الغيطاني (9 مايو 1945 – 18 أكتوبر 2015). وهما أيضًا أهم مكتشفي أسرار القاهرة الفاطمية في كتاباتهم الروائية والقصصية، إذ تحولت معالم شارع المعزّ لدين الله والحسين وخان الخليلي والجمالية وغيرها إلى “أيقونات” إبداعية في أعمالهم اللافتة، التي يُنظر إليها بوجهين؛ وجه أدبي جمالي، ووجه جغرافي خرائطي ووثائقي ومعلوماتي.

لعل أكثر ما يوضح مدى التصاق محفوظ والغيطاني، على المستوى الشخصي، بالقاهرة الفاطمية، ومنطقة الحسين على وجه الخصوص، وصية كل منهما بتشييع جثمانه من مسجد الحسين، وسط أهله وأصدقائه، وذلك قبل بدء مراسم الجنازة الرسمية.

المكان الذي شهد ميلاد محفوظ ونشأته، وطفولة الغيطاني وصباه، هو أيضًا الذي شهد تفتح زهرة العشق في قلب الغيطاني، إذ حكت زوجته الكاتبة ماجدة الجندي في لقاء تليفزيوني لها أن بداية اقترابها عاطفيًّا من الغيطاني انطلقت إثر جلسة ثنائية ومائدة طعام جمعتهما في الحسين.

التاريخ، في تجربة الغيطاني، يعني المعايشة والمؤانسة وروح البشر، لا المخطوطات والروافد المعرفية فحسب. اكتسب الغيطاني من نشأته في “حارة الطبلاوي” بالجمالية الكثير، وحتى دراسته التعليمية كانت في مدارس ذات طابع أثري (مدرسة عبدالرحمن كتخدا، ومدرسة الجمالية). والدرس الأعظم الذي وعاه الغيطاني مبكرًا أن جوهر التاريخ يكمن في قلوب البسطاء والعاديين، وهذا هو الفرق بين الرسمي المدوّن، الذي قد يأتي وفق هوى الحكام، وبين التاريخ الحقيقي، الذي تحفظه حكايات الناس، وهو ما سعى الغيطاني إلى كتابته في قوالب روائية، كما في “الزيني بركات”، على سبيل المثال.

الحسين، بوصف الغيطاني، هو “المركز، صميم البؤرة، والمنطلق إلى الجهات الأربع، أصلية وفرعية. هو الاستشهاد من أجل الحق، وإقرار العدل، وافتداء الجمع بحياة الفرد، لكي يتحول الوجود المادي إلى معنوي، ممتد، فلا زمن يحده، ولا مكان يقيده”.

وبمثل هذه الروح، المنحازة إلى قيم المساواة والخير والجمال والحق والعدل، دأب الغيطاني على نفض الغبار عن التراث الرسمي، ليستبطن خفايا الأمور والمسكوت عنه في النصوص القديمة والمجهولة، كي يخلق “أمكنته الخالدة” وشخوصه، بنظرة معاصرة، مفسحًا المجال للبسطاء والمهمشين كي يقولوا كلمتهم.

أيقونة محفوظ

يتجلى المكان كمؤثر أول في ذاكرة ومخيلة نجيب محفوظ، الذي ارتبط منذ مولده بحي الجمالية ارتباطا وثيقًا. وقد انعكس هذا الارتباط بشكل واضح في روايات محفوظ، خصوصًا في مرحلته الواقعية، التي لعب المكان فيها أحيانًا دور البطولة المطلقة، كما في “خان الخليلي”، و”زقاق المدق”، و”الثلاثية”.

وقد بالغ نقاد ومحللون في إبراز قيمة المكان في روايات محفوظ المرتبطة بالقاهرة الفاطمية، وجاءت أطروحاتهم أحيانًا خارج سياق التقييم الفني لدلالات المكان على مستوى الجماليات الأدبية والترميز وما إلى ذلك، إذ ذهب بعضهم إلى أن هذه الروايات تنطوي على خرائط طوبوغرافية، يجوز اعتبارها وصفًا تفصيليًّا أمينًا لجغرافيا قاهرة المعز لدين الله في النصف الأول من القرن العشرين. ووفق هذا المنطلق، جرى تشبيه محفوظ بالمقريزي وعلي مبارك صاحبي “الخطط” الشهيرة.

لا تخلو مثل هذه الرؤية، على شططها، من صحة بطبيعة الحال، إذ تحفل روايات محفوظ الواقعية بقدر وافٍ من الرصد التسجيلي الدقيق لشوارع وأزقة وحارات وأضرحة ومبان ودكاكين ومقاهٍ بأسمائها وعناوينها الحقيقية، كما في زمن الحدث الروائي، وبعض هذه الأمكنة على حالها حتى يومنا هذا، وبعضها تغيّر.

أمر آخر، يبدو أكثر عمقا في سبر غور روح المكان في النص المحفوظي، إذ تُصوّر بعض المشاهد السردية المطولة، التي يسهب فيها محفوظ في وصف تفاصيل المكان، طبيعة الحياة في المكان، وكأنه يقدم فيلمًا تسجيليًّا بالصوت والصورة والحركة.

بهذه المقاربة “الفيديوية” يمكن التعاطي مع أحد المقاهي، “الفيشاوي” مثلًا، في منطقة “خان الخليلي” بالحسين، فمن يقرأ النص المحفوظي في رواية “خان الخليلي”، كأنه بالفعل مكث بالمكان في أربعينات القرن الماضي يقول مثلا “مضى من الليل ساعة، فسكنت ضوضاء النهار، لكن لتحل محلها ضوضاء أشد وأفظع، سرعان ما جعلت الحي جميعه كمسرح من مسارح روض الفرج الشعبية. أما مصدرها، فالمقاهي العديدة المنتشرة في جوانب الحي، فالراديو يذيع أناشيده وأحاديثه بقوة وعنف، كأنه يذيع في كل شقة، والندّل لا يكفون عن النداء والطلب في أصوات ممطوطة ملحنة: واحد سادة، شاي أخضر، تعميرة على الجوزة، وشيشة حِمِّي… ودق قطع النرد والدومينو وأصوات اللاعبين، فخال نفسه في طريق مزدحم بالمارة لا في شقة، وعجب كيف يحتمل أهل الحي ضوضاءه أو كيف يغمض لهم جفن؟”.

روايات محفوظ الواقعية، التي خلّدتها الأمكنة وأسهمت هي بدورها في تخليد الأمكنة، هي أبرز نموذج تطبيقي لارتكاز المبدع على حصاد طفولته، ومعايشته المباشرة للأمكنة والبشر في مقتبل عمره، من أجل صياغة فن أصيل نابع من ضمير حي، متجذر في وعي مجتمع كامل، يحرص على جغرافيته بقدر حرصه على تاريخه.

المكان عند نجيب محفوظ هو العمق التاريخي للأحداث وللشخوص معًا، ولذلك وجد الكاتب ضالته في القاهرة القديمة، فأناس العصر الجديد هم أيضًا لمن يستبصر جوّانياتهم مرايا للفاطميين والمماليك والأيوبيين وغيرهم، وتلك هي روح المكان التي وعاها محفوظ إنسانيًّا وروائيًّا، وهي الروح المتبقية حتى يومنا هذا في الحسين وخان الخليلي والفيشاوي وشارع المعز وزقاق المدق وبين القصرين والأزهر وغيرها من الأمكنة التي لا يزال يقصدها الملايين من مصر وخارجها.

“المكان مصدر إلهام نجيب محفوظ”، عبارة كررها العاشق الآخر للمكان جمال الغيطاني، وكلاهما لم يقترن بمكان مثلما اقترن بالقاهرة الفاطمية، صانعة الإبداع الحي، وأيقونة المبدعين المطلين على العالمية، من نافذة المحلية المفرطة.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى