مهرجانات بيروت الثقافية… ضخامة بلا إبداع

رنا نجار

حُكي الكثير عن عرض «رحلة عبر الزمن» الذي افتتح أول من أمس «مهرجانات بيروت الثقافية 2017» في ميدان سباق الخيل، والذي دخل موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية بشاشته العملاقة بارتفاع ثماني طبقات وبعرض ملعب كرة قدم وملعب كرة مضرب مجموعَين. انتظرنا بفارغ الصبر هذا الحدث الذي سبقته حملة إعلامية محكمة جعلتنا متلهفين لنرى تلك الرحلة «المشوّقة» التي تحكي حكاية بيروت منذ العام 1907، لكن التنفيذ لم يكن على قدر التوقعات…
في الميدان الذي لا يُفتح إلا في المناسبات «الضخمة»، عُبّدت طريق صغيرة بالزفت في قلب هذه المساحة الخضراء (المتنفّس الوحيد المتبقي في المدينة)، توصِل المدعوّين وعلى رأسهم نواب ووزراء وسفراء وســـياسيون ومثقفون وزوجاتهم الى مجسّم دائري عملاق يتّسع لحوالى ألفي شخص. التنظيم الجيّد والترحيب اللافت من مضيفات يرتدين زيّ مضيفات شركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، يزيدان حماستنا.
نصعد الدرج كمن يصعد الطائرة، وفي الداخل شبابيك كشبابيك الطائرة تماماً موزّعة يميناً ويساراً. تُقلع الطائرة ويبدأ العرض الذي يروي قصّة بيروت وتاريخها من خلال عَينَي مغترب لبناني يزور بلده الأم للمرّة الأولى، تنفيذاً لما أوصاه به والده. للحظة تشعر بالدّوار كأنك فعلاً طرت في الجوّ من ضخامة الشاشة والتقنيات الهــندسيــة والتــكنولوجـــية المستخدمة. تُبهر بالتصميم الضخم للشاشة، وتشعر بأنك جزء من العرض البصري.
شيئاً فشيئاً يخبو الانبهار، خصوصاً عندما يصعد الراقصون الى الخشبة مقدمين وصلة ضعيفة جداً لا تتناسق مع ضخامة الحدث. فالعرض يتأرجح بين مشهد جيّد على الشاشة وآخر رديء على الخشبة، إذ يبدو أن العناصر الأساسية (رقص، موسيقى، تمثيل، فيديو – غرافيك، صوت) متنافرة وغير منفّذة في شكل ممسوك، خصوصاً المشاهد الراقصة التي أرهقت الجهد المبذول على الشاشة. صحيح أن مادة الاستعراض والانبهار كانت دسمة، مثل صعود سيارة الأجرة المرسيدس القديمة وسيارات الدفع الرباعي العسكرية، إلا أن العمل ككل يبدو ضعيفاً ويحتاج الى شدشدة خصوصاً لناحية الإخراج المسرحي.
أما النص فكان ساذجاً وغير مبتكر، بعيداً من التجديد في اللغة المسرحية العصرية التي كان من المفترض أن تتماشى مع العرض التقني الحديث بتقنياته ورسومه المبتكرة التي نراها على الشاشة. لكن لا بدّ من الإشارة الى أن جورج خباز نجح أحياناً في إسقاطاته حول الوضع السياسي واحترام الدستور والعروبة وصون الاستقلال والنشيد الوطني، بين الماضي والحاضر. المشكلة الأساسية في النص هي أسلوبه الركيك ولغته المباشرة السياحية، إنما فيه أفكار يمكن الاشتغال عليها ليَنتج منها سيناريو مسرحي جيّد.
الزائر اللبناني الأصل يتنقل بين الحقب التي شَكّلَت بيروت عبر العصور، والحقَب التي عاشَتْها العاصمَة والمراحل التي مَرَّتْ بها منذ العام 1907 حتى إعادة الإعمار. لكننا لم نفهم لماذا توقف السرد التاريخي ما بعد إعادة إعمار بيروت، ولم يتطرق الى اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري صاحب مشروع إعمار بيروت وتداعيات هذا الحدث الذي مثّل بالنسبة للبنانيين خراباً جديداً؟ ولماذا حُصرت مشاهد بيروت في الفيديو – غرافيكس بوسطها التجاري الفارغ من البشر في المشاهد التي نراها، وصخرة الروشة أو المنارة تحديداً؟ أين هي الأحياء الشعبية وبائعو الخضر والفلافل والمطاعم والأسواق المكشوفة والدالية وروح بيروت الحقيقية في العرض؟ ثم لم نفهم أيضاً لماذا كنا نسمع صوت جورج خباز، في حين نرى شخصاً آخر غير معروف يجسّد دور البطل أو الزائر اللبناني الأصل؟ هو ليس الراوي مثلاً أو المعلّق، فهذه المهمة أوكلت للمثل جوزيف بو نصار وقد أبلى بلاء حسناً.
أما الموسيقى التي كانت تعزف في شكل حيّ وممتع بقيادة إيلي العليا وغي مانوكيان، فكان معظمها من أرشيف العمالقة اللبنانيين زكي ناصيف وعاصي ومنصور وزياد الرحباني وفيليمون وهبي وغيرهم. إنما كانت تصلنا بصوت غير واضح.
ولا بدّ من التنويه هنا بأغنية «وجوه بكياني وجوه ضحكاني… بيروت» التي أدّتها الفنانة الشابة عزيزة بأداء مميز بصوت حنون نابع من القلب. فكلمات الأغنية وألحانها تنسجم مع العرض وروحية بيروت الحديثة ووجهها الحالي.
هذا العرض الذي خُصّصت له موازنة ضخمة ونابع من فكرة تاريخية وتكنولوجية حديثة وجيّدة، كان يمكن أن يكون أفضل، وكان يمكن للقيّمين عليه أن يجعلوه عرضاً راقياً يجول مدن العالم والتظاهرات الضخمة مثل إكسبو ميلانو أو المهرجانات الفنية الدولية مثل بيينالي البندقية ومهرجان أفينيون الفرنسي وغيرها، وذلك لو كان هناك إصرار على الابتكار وليس على جعله عرضاً سياحياً والسلام.
والابتكار يحتاج الى نص من روح ولحم ودم والى لغة تشبه جيل التقنيات الحديثة من دون أن ننسى التاريخ، كما هي بيروت نضرة وعصرية وتحمل عبق التاريخ في كل زواياها. والابتكار يعني كتابة موسيقى جديدة تحاكي التراث اللبناني أو تعارضه في حوار راق وفني، وإخراج محكم ودقيق.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى