الفلسطيني في كل مكان… ومصائر!

أحلام أكرم

أعيش الغربة مع الفلسطيني المغترب، كلانا أوفر حظا من أخيه المغترب في مخيمات اللاجئين في الدول العربية. الفرق أنني أعيش أيضا الاغتراب الذي ملأ روحي، الاغتراب الذي أشعره حتى وأنا بين أقرباء الدم، ورفقاء الطفولة، حيث أجدهم في كل مرة أعود فيها إما وقفوا في أماكنهم، أو عادوا إلى الوراء، بينما أنا كبرت بعمري وبثرائي الروحي، نظرا لحياتي المستقرة والآمنة التي فتحت أمامي أبواب الحرية والتغير الإيجابي.
لم تقف الحدود في طريقي، لا حدود لغوية ولا حدود فعلية، بفضل جواز السفر. أصبحت أرى العالم بلا حدود.. كتلة بشرية تجتمع في الأهداف وفي الأخوة الإنسانية. وأبقى، وفي كل الأحوال، في أعماقي فلسطينية حتى النخاع، لم أنسلخ عن جذوري، ولكني ارتقيت بإنسانيتي لتعكس جذوري.. أعادتني «مصائر» للأرض وروت عطشي للعودة، ولكن هل أستطيع؟
لم أقرأ للكاتب ربعي المدهون، ولكني قرأت الكثير عن النكبة وعن الهجرة القسرية للفلسطينيين عام 1948 عملت الكثير من البحوث عن تسلسل الأحداث السياسية، وعن تسلسل الذهنية السياسية الإسرائيلية من التطلع إلى السلام، إلى رفض كل مبادرات السلام، ضاربة عرض الحائط التعاطف الدولي، الذي بنته على كذبتها، «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وكذبتها الأيديولوجية الثانية التي ربطتها بالوعد الإلهي، الذي احتكرته الحكومة الإسرائيلية.. ووصفها الكاتب المدهون في رائعته «مصائر»: «تزحف جثة اليهودي الذي مات خارج فلسطين، بعد دفنها تحت الأرض، إلى أن تصل إلى الأرض المقدسة وتتوحد معها». وأضيف بينما «يحرم الفلسطيني من العودة حيا أو ميتا».
نعم أنا من فلسطينيي الضفة الغربية، لم أعش أحداث النكبة الأولى، وإن كان أهلي وأحبائي وكل الفلسطينيين ما زالوا يعيشون نكبة الاحتلال، ورفض الاعتراف بالحقوق. تناثرت مشاعري وأنا أقرأ «مصائر» جعلتني أعيش النكبة الأولى، إضافة للتعرف على يافا وحيفا وعكا والمجدل.. رأيت جمالها، وعشت مع أحداثها وتغيرات حياة أبطالها، عشت معاناة الفلسطيني في ازدواجية الديمقراطية الإسرائيلية، التي وصفها الكاتب اليهودي ديفيد جروسمان في السابق بالديمقراطية السوداء، لأنها تتعامل بازدواجية قيم الديمقراطية المفروض بها الصدق والمساواة وعدم التمييز بين مواطنيها، سواء اليهودي أو الإسرائيلي من أصول فلسطينية عربية صاحب الحق والأرض.
«مصائر» في لغة إنسيابية خلط فيها بين الفصحى والفلسطينية العامية، يسرد الكاتب المعاناة السياسية للفلسطيني، من خلال سياسة التمييز العرقي التي تنتهجها السياسة الإسرائيلية، والمعاناة الاجتماعية من خلال حياة أبطالها، واليهودي الذي لا يتوقف عن الاستثمار في معاناته في الهولوكوست، في جريمة لم يكن للفلسطيني يد فيها.. «مبينا الفرق الكبير في مصير اليهودي، الذي يعيش في دولة قوية بالتسليح العسكري.. والفلسطيني المحروم من الحقوق على أرضه وعلى كل الأراضي العربية». اليهودي الذي بنى حياة جديدة في دولة ديمقراطية تخدمه وحده، بينما يعجز الفلسطيني عن الحصول على دولة، وتتبعثر كرامته على أيدي السارقين من سياسييه. الكاتب لم ينس الثغرات في المجتمع الفلسطيني، الذي يرفض حق ابنه المثلي، بينما تحتضنة إنسانية مزيفة لأنها تتغاضى في الوقت ذاته عن تطبيق قوانينها في جرائم الشرف، الذي يربطه الفلسطيني فقط في الجسد الأنثوي.. وتتغاضى الحكومة الإسرائيلية، وربما عمدا عن هذه الجرائم، ربما لتفادي تغيير موروثات عقيمة، وربما تحقيقا للمثل المعروف «فخار يكسر بعضه».
الكاتب لم يتخل في أي وقت من الأوقات عن إنسانيته في سرد معاناة الطرفين من الوضع القائم، ولكنه فرّق وبيّن بدبلوماسية رائعة، أن السلام الذي يبحث عنه الطرفان لا يمكن أن يتم بدون شريكين يرتقيان بشعبيهما إلى أهمية العدالة والمساواة كبنية تحتية للسلام، من خلال الاعتراف بالحقوق الإنسانية، ثم الحقوق السياسية، سواء في دولة واحدة أو في دولتين، وأن السلام بحاجة لشريكين، بينما يدّعي الطرف الإسرائيلي عدم وجود أي شريك.
«مصائر» موضوعها التاريخ الإنساني، قبل التاريخ السياسي، تدعو الطرفين للنظر إلى المستقبل بدلا من تضييع الحياة في التسمر في الماضي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى