يوميات أميركية للشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي

حسونة المصباحي

في ربيع هذا العام، قامت دار”منشورات ديسونّور” الفرنسيّة بإصدار ترجمة لجميع النصوص التي كتبها الشاعر الروسي الشهير فلاديمير ماياكوفسكي (1893-1930) من وحي الرحلة التي قام بها إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1925. وقبل أن يصل إلي نيويورك، كان عليه أن يمضي 18 يوما في الباخرة مارّا بكوبا، وبالمكسيك.

وفي مقدمة هذه النصوص القصيرة المفعمة بشاعرية فاتنة، كتب ماياكوفسكي يقول “حقّا أنا بحاجة إلى السفر. أن يكون الأمر متعلقا بما هو مرتبط بالحياة يكاد يعوّض القراءة بالنسبة إلي. واليوم الأسفار هي التي تفتن القراء. الأشياء المثيرة للضجر، والمصطنعة، والصور والاستعارات تعوّضها الأشياء الحيّة”.

ومنذ البداية، وجد ماياكوفسكي نفسه منبهرا بالحداثة الأميركية المتمثلة بالخصوص في القطارات السريعة، وفي الطرقات المرسومة بعناية، وفي النظام الصارم في العمل، وفي المعاملات، وفي المدارج والمصاعد الكهربائية التي لا تكاد تتوقف عن الحركة.

وعند وصوله إلى محطة القطارات بنيويورك يكتب ماياكوفسكي قائلا “على رصيف المحطة لم يكن هناك سوى عتالون زنوج.المصاعد والمدارج تصعد باتجاه العديد من الشرفات والأروقة التي تستقبل الجموع الغفيرة القادمة لاستقبال المسافرين مُلوحين بمناديلهم. الأميركيّون صامتون (أوهم يعطون الإحساس بذلك بسبب صخب الآلات)، بينما فوق رؤوسهم تئن مكبرات الصوت معلنة عن أوقات الوصول والمغادرة”.

كانت الساعة تشير إلى السادسة صباحا عندما غادر ماياكوفسكي محطة القطارات بنيويورك. فيما أمطار الخريف تتهاطل بغزارة. كانت السماء سوداء. وقد ظلت على هذه الحال حتى منتصف النهار. في الأيام التالية، قام ماياكوفسكي بجولات طويلة في أحياء المدينة الكبيرة. وكان حريصا على التقاط التفاصيل، ووصف حركة الناس المحمومة في الليل كما في النهار.

في الأحياء الفقيرة عاين الشاعر الأوضاع المزرية التي يعيشها الزنوج والكوبيّون والعمال المكسيكيون والإيطاليون وغيرهم. وهذا ما آلمه كثيرا. وقد كتب في ذلك يقول “الفقراء يلتقطون العظام وبقايا الأطعمة في صناديق تحتوي على أنواع مختلفة من الفضلات. والأمطار التي هطلت اليوم، وفي اليوم السابق، كوّنت بركا نتنة تجفّ شيئا فشيئا. والأوراق الملقاة على الأرض والأوساخ تصل إلى الكاحلين!”.

ويبدي ماياكوفسكي اهتماما كبيرا بالنضالات التي يخوضها العمال من أجل الحصول على حقوقهم. كما يبدي اهتماما بالجريمة المنظمة، وبالعصابات الخطيرة التي تنشر الرعب والموت في العديد من الأحياء.

أما في الأحياء الغنية، فقد كانت الحياة تبدو له مفعمة بالبهجة والسعادة، خصوصا في الليل عندما تستقبل المطاعم والمقاهي الفاخرة ودور السينما والمسارح والملاهي الليلية جموعا غفيرة من الأغنياء والنساء الأنيقات الجميلات. ويشير ماياكوفسكي إلى أن علاقة الأميركي بالدولار علاقة لا تخلو من الشعر. وقد يعود ذلك إلى أنه يعلم جيّدا أن الدولار هو القوة الوحيدة في بلاده البورجوازية.

لذا ترى الأميركي يبدي إعجابا شديدا بلون الدولار الأخضر. فكما لو أنه لون الربيع. ومتهكما يضيف ماياكوفسكي قائلا “عندما تلتقي بأميركيّ لا يقول لك صباح الخير بل يصرخ فيك عاليا “اُحصل على المال”، قبل أن يواصل طريقه. ويشير الشاعر إلى أن قوة الدولار تسمح بطريقة غير مباشرة بالوصول إلى القمة، والحصول على المجد والشهرة. إذ يكفي الأميركي نشر ما يمكله من دولارات على الطاولة لكي يصبح مُهابا من الجميع.

وخلال الأشهر الثلاثة التي أمضاها متجولا بين المدن، وقف ماياكوفسكي على النزعة لأميركا. فقد قامت هذه الأخيرة بتوجيه تهديدات حادة اللهجة للمكسيكيين عندما قرر هؤلاء تأمين ثرواتهم النفطية وغيرها من الثروات. كما أنها أرسلت قوات عسكرية لمساعدة حكومة فنزويلا التي كان الشعب قد انتفض للإطاحة بها. وأرسلت طائرات لمساعدة الجيش الفرنسي على مواجهة الانتفاضة الشعبية في المغرب.

ومن وحي زيارته لشيكاغو، كتب ماياكوفسكي قصيدة فيها كتب يقول “شيكاغو. قاتلة خنازير العالم، صانعة الآلات، حصّادة القمح، هي تتلاعب بسكك الحديد وتحمل شحنة الأمة، هائجة، نفّاخة، مماحكة ومحبة للخصام، مدينة بأكتاف عريضة (…) هم يقولون لي أنت سيء، وأنا أجيبهم: نعم. حقا أنا كذلك. فقد رأيت اللص يقتل ثم ينطلق حرّا ليواصل القتل. هم يقولون لي أنت قاس وأنا أردّ عليهم: على وجوه النساء والأطفال، رأيت الآثار الفاحشة للجوع. وملقية تهكماتها الساخرة والحقودة على العمل الذي ينضاف إلى العمل، هذه المتعجرفة الكبيرة الوقحة تلمع أمام المدن الصغيرة الهشة”. وعند عودته إلى روسيا، كتب ماياكوفسكي قصيدة بعنوان “جسر بروكلين” ضمنها إعجابه لوالت ويتمن، وانتقد فيها المظاهر السلبية في الحضارة المادية الأميركية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى