ورطة النقد الأدبي في الجزائر

سعيد الخطيبي

قبل سنوات قليلة، كان النقاد ملوكاً، في الجزائر، يمسكون ﺑ «عصا موسى»، ويقلبون النتاج الأدبي، في البلد، يُناقشون النصوص الجديدة، في الجرائد وفي الملتقيات، ويفرزون بين الجيد والسيئ منها. لكن صوتهم انقطع، أو يكاد، في الفترة الأخيرة، هم موجودون ـ في الواقع ـ في عزلة اختيارية، ضجيجهم خفت، لا يلفتون انتباه القارئ إليهم، أو ربما يكون البعض منهم قد تخلى عن وظيفة الناقد، بعثر أوراقه لصالح وظائف إدارية أخرى – خصوصاً منهم أساتذة الجامعة.
من المفارقة أن الجزائر بلد يكتظ بالنقاد، لكنه بلا نقد أدبي، بلا حركية نقدية فعلية، يعيش أشبه بسبات نقدي، جفاف في الكتابات الجادة، صحراء تتسع أمام أعين القارئ كلما بحث عن دراسات متينة، أو بالأحرى أن هناك معادلة جديدة، أوجدتها تغيرات وسائل التواصل الحديثة، لم نلتفت إليها كثيراً، ولم يتطرق إليها أحد في السابق، حيث طفا على السطح جمهور النقاد الموسميين، الوافدين من حافة القراءة إلى الأدب، وهم غالباً من أساتذة كليات اللغة العربية – الذين تزايدت أعدادهم، بشكل لافت، في الأعوام العشرة الأخيرة – يقودون ثورة «ناعمة» في الكتابات الانطباعية، وفي الآراء السريعة، يكثرون من ظهورهم، في مواقع التواصل الاجتماعي، أو في مواقع إلكترونية (بلا قراء)، يرددون معجماً من المصطلحات والمفردات المتشابهة في ما بينها، يُحاولون إيهام المتلقي بأهميتهم، ويحجبون – بالتالي – النظر للنقاد الحقيقيين، الذي يجلسون خلف الطابور، منسحبين إلى الوراء، لأنهم يفكرون كثيراً ولا يتكلمون إلا قليلاً.
لقد خلق النقاد الجدد في الجزائر، حركة مضللة، حرفوا وجهات النظر، هُم أشبه بجوقة موسيقية، تتفق على إيقاع واحد وتردده، وهو تكريس الفرضيات السائدة، دونما مُساءلات، مع تجنب الخوض في الأسئلة الحرجة، يصطفون خلف «كتيبة» من الكتاب المكرسين، يروجون لهم، ويُمارسون سلطتهم «الافتراضية» على كتاب شباب، بالطعن فيهم تارة، وتارة أخرى بالتقليل من قيمتهم. هم «نقاد جدد»، أفرزتهم جامعة جزائرية مهترئة – استبعدت من التصنيفات العالمية بسبب تراجع مستواها – يروجون للخطاب الرسمي، لهرمية السلطة، يتحركون ويُناورون في حدود ضيقة، ويبتلعون ما يقرأون دون مضغ أو تمحيص، يوفرون للقارئ إجابات سهلة على كل سؤال، ولا تهمهم الحجج أو الأدلة، كما لو أنهم في برنامج تلفزيوني، من شاكلة «من سيربح المليون؟»، يهمهم فقط أن يطلقوا إجابات، وينتظروا من جمهور «افتراضي» أن يصفق لهم.
لقد سمحت الإنترنت بظهور هذا النوع من النقاد، الذين نزلوا إلى ساحة الأدب كمظليين، لم يتسلقوا، بل هبطوا من أعلى، لا يُطالعون – في الغالب – سوى بلغة واحدة، يميلون إلى مغازلة الميديا، وطرق الظهور فيها، أكثر مما يهمهم التفكير والتريث، واتخاذ مسافة بين الانطباع والنقد، يستعير كل واحد من هؤلاء النقاد عباءة ناقد قديم، للظهور بصفة «الخليفة» له، وينسون، في غمرة فتوحاتهم الافتراضية، أن النقاد الذين سبقوهم، كانوا ملتزمين بقضايا راهنهم، كانوا مناضلين، على عكس النقاد الجدد، الذين يفتقدون لنظرة متوازنة لما يدور حولهم. النقاد المعروفون، في الجزائر، خصوصاً من جيلي السبعينيات والثمانينيات، كانوا يشاركون المواطن البسيط قضاياه الحرجة، كانوا يستعيرون صوتهم من الشارع، متورطين في معارك فكرية، وأخرى سياسية، بعض منهم تعرض لتهديد بالقتل من بعض الجماعات الأصولية، على عكس نقاد اليوم، الذين يعيشون على هامش حراك الشارع يعلنون، بشكل مبطن، انسلاخهم من قضايا مجتمعهم، يُفضلون الانعزال على المشاركة في الحياة العامة، وربما السبب في ذلك أن غالبيتهم موظفون حكوميون – في الجامعات، كما ذكرنا سلفاً – ما ساهم في «تدجينهم» سياسياً، وإزاحة نظرهم عن المسائل الأساسية، التي تحصل، في البلد. إن صمت ناقد، وعدم مبالاته، بما يحصل في بلده، هو خيانة فكرية، لكنهم لا ينتبهون لهذه الجزئية، بحكم أنهم مشغولون بالظهور في الميديا أكثر من اهتمامهم بالتفكير وبالنتاج الفكري. النقاد الجدد في الجزائر يُراهنون على الصورة أكثر مما يُراهنون على الكتابة، هذا ما يُفسر غيابهم عن المشهد العربي، في السنوات الأخيرة، فالكتابات النقدية الجزائرية، لا تهم كثيراً المتلقي في سوريا أو لبنان أو مصر، أو على الأقل في الجارتين تونس والمغرب.
الناقد يقف في منطقة وسطى، بين الكاتب والقارئ، وظيفته تدور حول/عن النص، وله التزام أخلاقي تجاه القارئ، بينما في الجزائر يحصل العكس ـ تقريباً – فالنقاد الجدد يخطون خطوة، للتقرب من كتاب مكرسين ـ الكتاب في الجزائر يتكرسون بتراكم السنين وليس بجودة الأعمال – للسير «الآمن» تحت ظلهم، وبدل تحليل النص وعرضه على قارئ – باعتباره الحَكم ـ فهم يشوهون، في كثير من الأحيان النصوص، ويُمارسون «أبوية» على القارئ، يقدمون له صورة مغالطة، تفتقد للمنهجية، ويحكمون مكانه بجودة نص ما أو عدمها. الناقد من المفترض أن له قدرة للنظر في جوهر الأشياء، لتقليبها وتفحصها من زوايا مختلفة، وقدرة على استخراج السيئ من قلب الجيد، والعكس صحيح، بينما الناقد الجديد في الجزائر، ينظر إلى النصوص باعتبارها كتلة موحدة ومنسجمة، إما أنها سيئة أو جيدة، لا نسبية في قراءاته، لا وسطية ولا حيادية، هكذا يصير الناقد الجزائري حَكماً، يُجامل كتاباً ويخاصم آخرين، بحسب تقلبات الحالات النفسية، ووفقا للمعايير الانطباعية الشخصية.
إن النص الجزائري – شعراً وسرداً – يعيش «عزلة»، أو لنسميه يتماً، غائبا أو مغيبا، عن أعين قارئ، في المشرق العربي، والسبب ليس في جودته أو عكسها، بل في غياب نقاد جدد، يفهمون جوهر مهنتهم، ويخلصون لها. لقد وجد النص الجزائري طريقه للتحرر، للتخلص من هيمنة السلطة الرسمية، صار نصاً متمرداً، في ثيماته وفي أسلوبه، حقق كثيراً من الطفرات، لكنه عجز عن أن يجد طريقاً له للناقد المحلي، هذا الأخير الذي يُعتبر الخاصرة الرخوة في ماكينة النتاج الأدبي في البلد. لا شيء يصنع قيمة الأدب أكثر من نقد جاد، واعٍ، متوازن، وفطن، كلما غاب النقد، ضاع القارئ في بحث بلا جدوى عن نص يعكس صورته، يعبر عنه، لكن لا يجده.
القارئ قد يولد من نقد، وليس بالضرورة – فقط ـ من نص، قد يُبعث هذا القارئ من رحم النقد، فالناقد يصنع ذائقة المتلقي، يوجهه، يمسك بيده، في عتمة النصوص الكثيرة، التي تصدر كل عام، قد يكون الناقد سبباً في إحالته على كاتب ما، وفي اكتشاف نص ما، كما إن كاتباً ما قد يُعيد اكتشاف نفسه، ويُعيد قراءة نصه، من خلال ناقد، هكذا هي بعض مهام الناقد، المغيبة في الجزائر، حيث العلاقة صارت ثنائية، بعدما كانت ثلاثية، أي من الكاتب للقارئ مباشرة، دون وسيط بينهما، وانفرط العقد الأخلاقي، الذي كان من المفروض أن يربط الناقد بالقارئ.
في الجزائر ـ حالة استثنائية ـ وفرة في الحكام والأحكام الأدبية، توسع لنشاط «الشرطة الأدبية»، وقلة في النقد. ربما يكون بعض الكتاب قد وصلوا إلى قناعة – في ظل غياب النقد الجاد – أنهم يكتبون لأن لا أحد يستمع إليهم. هم يكتبون لأنفسهم ولقارئ لا يعرفون مزاجه. النقد الأدبي في الجزائر ليس طوق نجاة للكتابة، إنه هو نفسه بحاجة لمن ينقذه. النقد صار كلمة وليس فكرة، صار صورة شخص تتداولها وسائط التواصل أو الميديا. النقد الجديد، في الجزائر، يُطابق ما قاله لامارتين: «هو قوة من لا سلطة له». النقد الأدبي في الجزائر هو أن «يطعن أحدهم في الكتاب ليصير معروفاً» كما ذكر سلمان رشدي.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى