الفيلسوف الميتافيزيقي ابتدع بالترجمة مصطلحات جديدة

جمال نعيم

لو تفحصنا ملياً آثارَ موسى وهبه القليلة ولكن العظيمة، لوجدنا أن مشروعه الأساسي هو العمل على إمكان القول الفلسفي بالعربية، هو العمل على شروط هذا الإمكان. لذا، انصرف إلى ترجمة أمهات الكتب الفلسفية وترك التأليف جانباً، معتبراً أن الشرط الأساس لقيام الفلسفة بالعربي هو نقل التراث الفلسفي العالمي إلى العربية، أو ما يسمِّيه جسد الفلسفة الحي.
إذاً، المترجم هو الفيلسوف الوحيد الممكن بالعربية اليوم. من هنا، يأتي شعارُهُ: إذا أردتم أن تتفلسفوا فترجموا.
بدأ حياته الفلسفية في الثمانينات بترجمة من العيار الثقيل، أعني ترجمة نقد العقل المحض لكنط، دفعةً واحدةً ومباشرةً عن الألمانية، فكانت هذه الترجمة قراءةً جديدة في الأثر الكنطي كلِّه الذي شكَّل منعطفاً كبيراً في تاريخ الفلسفة، إذ ما زالت الفلسفة المعاصرة تبني على كنط، المؤسِّس الحقيقي للحداثة. وأيُّ مشتغل في الفلسفة يعرف جيّداً الصعوباتِ اللغوية والفلسفية التي ستعترضه إن فكَّر في نقل كنط إلى العربية، لا سيما أن كنط ابتدع لغة فلسفية خاصة به، ولا سيما أيضاً أن اللغة العربية كانت لا تزال غير جاهزة لنقل كنط. فهي كانت، في أحسن الأحوال، جاهزة لنقل سبينوزا وما دون. أما كنط فلا. ولا يمكن نقل نقد العقل المحض من دون قراءة الأثر الكنطي كلِّه، وإعطاء وجهة نظر خاصة فيه، بعد أن حيَّر هذا الأثر العظيم معظم الدارسين. لذا، كان على وهبه أن يبتدع لغة غريبة داخل اللغة العربية، لا من حيث المفردات الجديدة وحسب، بل من حيث سياق الجملة أيضاً. إيمان وهبه بالعربية لا حدود له، فهي المدخل الضروري لنكون في العصر. وهي، في نظره، تمتلك إمكانات هائلة لتكون حيَّة. وعلى الناطقين بها أن يعملوا على ذلك، علماً أنها ستبقى عنصراً حاسمـاً في تكوين الأمة العربية، إن كان لها أن تقوم يوماً.
وموسى وهبه، ككل كاتب كبير، هو مشروع أمّة في النهاية، وإن كان هذا المشروع يتعلق بالمستقبل أكثر ممّا يتعلق بالحاضر، لأن الحاضر غالباً ما يثير الشفقة، كما كان الحال في عصر كنط الذي نبغ والألمان في حالة انغلاب. والفيلسوف الكبير يحقق مشروعه عبر الكتابة. لذا، يبتدع لغة غريبة أو أجنبية داخل لغته. وما زاد الأمر صعوبة أنّه يعمل في بيئة لا تساعد على قيام الفلسفة، فكانت ترجمته مغامرة فكرية وفلسفية ولغوية عظيمة. لذا، أثارت ترجمتُه كل هذا الاستياء ضد المصطلحات الجديدة التي ولّدها.
إذاً، يتكلم وهبه ويكتب بلغة قومه، ويتوجه في كتابته إلى الجميع. لكنَّه يبقى أقلَّوياً في كتابته، لأنه يعمل على ابتداع لغة جديدة وغريبة داخل اللغة العربية ذاتها. إنّه يكتب بلغة كتاب الأقليات الذين لا يكتبون بلغتهم، لكنهم يحفرون وينحتون في اللغة الغالبة ذاتها لغة غريبة. لذا، لا مجال للحفاظ على العربية كما هي. ولكي تكون العربية حيَّة لا بد من ابتداع لغاتٍ غريبةٍ داخلها. وهذا ما عمل عليه وهبه طويلاً فجاءت ترجمته، منذ ثلاث سنوات، لكتاب المباحث المنطقية لهوسيرل متابعةً لهذا المسار الطويل والشاق.
لكن، علينا الانتباه! فموسى وهبه لا يحمل هموماً نضالية في عمله. وهو بقي فيلسوفاً ولم يتحول إلى مثقّف. همُّه فقط إغناء القول الفلسفي من خلال ما تتمتع به اللغة العربية من ميزات. لذا، ينبِّه من يحاول أن يترجم هيدغر إلى انحجاب فعل الكون في اللغة العربية في صيغة الحاضر، وظهوره في صيغتي الماضي والمستقبل. وهذا ما يسمح باستغلال ما أتاحته لنا العربية للإضاءة على جوانب في فلسفة هيدغر، وبالتالي للمساهمة في إغناء القول الفلسفي. ويمكن القول إن العمل على ترجمة كنط هو قراءة جديدة للأثر الكنطي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى هيدغر وهوسيرل وغيرهما.
من هنا، يصبح المترجم فيلسوفاً، لأنه يبتدع مصطلحات جديدة، أو بلغة دولوز يبتدع أفاهيم جديدة ويجدد في الأفاهيم السائدة. وموسى وهبه لا يشُذُّ عن هذه القاعدة حيث ابتدع مصطلحات جديدة: أمثال أفهوم وأمثول وأفعول ومجاوز وأمبيري وفيمياء وعلمياء ووعيان وحِدْسان ورئيان وإنشاء وُموَضَّع وكون حيث رفض ترجمة الأفهوم الأساسي لهيدغر بوجود أو بكينونة… ولا ننسى فيّاه أي في ذاته، وليَّاه أي لذاته وفيانَّية وليانَّية….
قلنا، في بداية كلمتنا، إنّ همَّ وهبه الأساسي هو نقل التراث الفلسفي العالمي إلى العربية. وقد نجح في ذلك بالنسبة إلى الفلاسفة الذين اشتغل عليهم. لكن ألا يوجد انهمام أعمق؟ ألا يسعى وهبه من وراء الترجمة إلى هدف آخر؟
موسى وهبه فيلسوف. لذا، تبقى الفلسفة غايته الأولى. من هنا تمييزه للفلسفة من الثقافة، فبينما تنهم الثقافة بهموم نهضوية، تنهم الفلسفة بالفلسفة، تنهم بإغناء القول الفلسفي، إذ لا غاية للفلسفة خارجها. الفلسفة هي الفلسفة، هي محبة أو صداقة الحكمة، لكنها ليست بحكمة. إنها سعي دائم نحو طموح لن يتحقق أبداً، لأن المسائل الفلسفية تتغيَّر باستمرار وبالتالي لا يمكن لأي فلسفة، مهما كانت عظيمة، أن تختم الفلسفة مع أن كل فلسفة كبيرة ادعت ذلك.
ليست الفلسفة، كما يؤكد موسى وهبه ، خبراً عن العالم، وطبعاً ليست خبراً عن ما بعد العالم. أي إنَّ الفلسفة لا ُتنتج قضايا يمكن أن توصف بالصدق والكذب. فلا يمكن أن نقول عن الفيلسوف إنَّه أخطأ أو أصاب. ولو أخذنا أفلاطون على سبيل المثال، لقلنا إن التلميذ في الصف الخامس قد تجاوز أفلاطون كثيراً في معلوماته العلمية، لكن ليس بإمكان أحد أن يدعي أنّه يفكر أفضل من أفلاطون. وكل الفلسفات– ما بعد أفلاطون هي، كما يقول ميشال فوكو، نوع من نباتات آنتي– أفلاطونيَّة.
إنّ قراءة كتاب كبير في الفلسفة مثل نقد العقل المحض، لا تزوّدنا بمعلومات جديدة، بل تجعلنا نفكر بطريقة جديدة. وهذه هي الفلسفة. إنها طريقة جديدة في التفكير، فهي لا تزودنا بمعلومات أو قناعات جديدة، بل تطمح إلى مساءلتنا عن الطريقة التي بها كوَّنا قناعاتنا. وهي لا تحمل إلينا حقيقة مختلفة، بل تجعلنا نفكر بطريقة مختلفة. قال عنها دولوز إنها فن إبداع الأفاهيم. وتساءل فوكو في كتابه تدبير الملذات (ص15): «ولكن ما الفلسفة– أعني النشاط الفلسفي– إذاً اليوم إن لم تكن عمل الفكر النقدي على ذاته؟ وإن لم تقم، لا على شرْعنة ما سبقت معرفته، بل على محاولة معرفة كيف وإلى أي حد يمكن التفكير في شكل مختلف؟».
ولكي تكون الفلسفة كذلك، لا بُدّ، في نظر وهبه، من إعادة الاعتبار للعقل، أي لا بُدَّ من الانطلاق من العقل وعدِّه سيدَ نفسه، أي يجب أن لا نتعامل معه كآلة أو أداة. وقال كنط يوماً في نقده العظيم: «إن عصرنا هو، بخاصةٍ، عصر النقد الذي يجب أن يخضع له كل شيء. ويود الدين، عبر قدسيته، والتشريع، عبر جلاله، أن يتملَّصا منه عادةً. لكنهما بذلك يثيران ضدهما ظنوناً محقة، ولا يمكنهما أن يطمحا إلى ذلك الاحترام الصادق الذي يوليه العقلُ من يفوز في امتحانه الحر العلني وحسب». إذاً، يجب أن يُقدم كل شيء إلى محكمة العقل لنيل رضاه، فهو المرجعية الأولى. ومن هنا تبدأ الحداثة.
والآن نصل إلى المستوى الثالث من مشروع وهبه. وأعني به البعد الميتافيزيقي في فلسفته. ولعلَّه الأهم. فلا توجد عنده، كما حو حال جيل دولوز، مشكلة اسمها موت الميتافيزيقا أو نهاية الميتافيزيقا أو موت الفلسفة. فالفلسفة تبقى دائماً الفلسفة الأولى، أي الميتافيزيقا. لذا، لا ينظر وهبه إلى كنط إلا بوصفه ميتافيزيقياً. إنه فيلسوف ميتافيزيقي وحسب، لكنّ ميتافيزيقا كنط ليست ميتافيزيقا جواهر. فموضوعات الميتافيزيقا الكلاسيكية (الله والنفس والعالم) لم تعد، بعد نقد العقل المحض، مشكلات فلسفية. إنّها ميتافيزيقا من نوع آخر يتبناه وهبه ويعمل عليه. وليس عبثاً أنَّه وضع على غلاف كتاب نقد العقل المحض المقطع التالي: «… نعود أبداً إلى الميتافيزيقا كما نعود إلى الحبيبة التي اختصمنا معها، لأن على العقل، أن يعمل بلا كلل إما لاكتساب رؤى متعمقة وإما لقلب الرؤى الجيدة التي سبق أن أقيمت…».
لكن هل ما زال بالإمكان قيام ميتافيزيقا من أي نوع كان؟ وما هي قيمة هذه الميتافيزيقا في ظل التقدم المذهل للعلوم؟ ولِمَ نحن بحاجة إلى الميتافيزيقا؟
يقول وهبه، في معرض حديثه عن كنط، ما يلي: «ولا يروقني اليوم كذلك هذا الرذْلُ المعمَّمُ للميتافيزيقا وكأن ليس يمكن قيام ميتافيزيقا إلا كميتافيزيقا جواهر والحقيقة أن ليس ثمة من جواهر عند كنط (يبيِّن آلان رينو أن كنط ينزع عن الذات صفة التجوهر). أقول ليس ثمة من جواهر عند كنط. والميتافيزيقا عنده ليست علماً بالمعنى المتعارف عليه. وبلغة كنط: ليست علماً نظرياً، فهي لا تخبر شيئاً عن موضوعها. ولا تضيف معلومات وإن كانت في جانب منها تشير إلى وجهة تنظيم هذه المعلومات. وهي لا تقول في الأحوال جميعاً: إن هذا هكذا، بل «كما لو أنَّ». وهي في جانبها الأساسي اقتراح حلول ممكنة لمعضلات مطروحة على العقل في مختلف ملكاته.
بتعبير أوضح: لم يكن كنط النقدي فيلسوف أخلاق من جهة، وفيلسوف معرفة من جهة أخرى، وفيلسوف غائية من جهة ثالثة، بل كان صاحب ميتافيزيقا وحسب. قوام هذه جملةٌ من المزاعم المقترحة لإخراج العقل البشري من مأزقه، لتخفيف وطأة إرهاق الأسئلة التي تطرحها عليه طبيعة العقل ذاته، لمعالجة انهمامه إن جاز القول.
وأتدبَّر، بالمناسبة، فهماً آخر للميتافيزيقا، فأحسبها لا علماً للكائن بما هي كائن، ولا سؤالاً عن الكون، ولا مبحثاً في الغيبيات، ولا تلك الشجرة الوارفة الظل، بل أقول هي بالأحرى جذع تلك الشجرة، وجذورها المخفيّة في الأرض، إن صّح لنا استثمار الاستعارة الديكارتية مرة أخرى.
أقول: «الميتافيزيقا هي سسْتام المزاعم اللازمة للعقل البشري في مواجهة انهمامه بالأسئلة التي تطرحها عليه طبيعته».
إذاً، لا غنى، في نظر وهبه، عن الميتافيزيقا لأنها هي التي تضفي المعنى على السعي البشري. ولا يمكن للفيلسوف أن يترك هذه الساحة إلى غيره، فتنتعش عندئذٍ الأصوليات والشعوذات ويُصبح مصير المدينة على المحك. وهذا ما يحصل حالياً في كل مكان. والفيلسوف إن بقي له دور الآن، فهو مهاجمة الحماقة في الفكر من أيِّ جهة أتت. لذا، على الفلسفة، بالإذن من موسى وهبه، أن تُسمع صوتها إلى الجميع، لا إلى العلماء والفنانين وحسب، بل إلى رجال الدين والسياسة أيضاً، لأنه ليس من الحكمة، كما تبيَّن من خلال الأحداث التي تملأ عصرنا، أن يُترك أمر الدين والسياسة إلى رجال الدين والسياسة فقط. وليس المطلوب من الفيلسوف أن يستلم السلطة أو يُفلسف الحاكم، بل عليه أن يغيِّر في طريقة تفكيرنا. وعندما تتغيَّر طريقة التفكير يتغيّر كل شيء.
هذا، باختصار شديد، مشروع موسى وهبه الفلسفي. إنه مشروع ثلاثي الأبعاد:
1- العمل على إمكان القول الفلسفي بالعربية.
2- النظر إلى الفلسفة بوصفها طريقة معينة في التفكير، لا بوصفها خبراً عن العالم.
3- النظر إلى الفلسفة بوصفها ميتافيزيقا، أي بوصفها الفلسفة الأولى.
وأخيراً، إن كان لي من كلمة في أستاذي، فإني أقول فيه، ما قاله فوكو يوماً في أستاذه جان هيبوليت، لكن مع إحلال كنط محل هيغل: «لم نكن نسمع صوت أستاذٍ وحسب، كنا نسمع شيئاً من صوت كنط، وربما أيضاً صوت الفلسفة نفسها».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى