«أسد البصرة» رواية الأقليات العراقية في الحب والحرب

منال عبد الأحد

طالعنا موشي مائير شلومو، خاجيك أو أمل، بطل رواية «أسد البصرة» للكاتب ضياء جبيلي، (منشورات الجمل، 2017) في حوار متخيَّل مع الكاتب العالمي الشهير ماريو فاراغاس يوسا محاولًا أن يعرض عليه كتابة قصة حياته؛ وهي حصيلة حكاية حب اتّقدت بين مائير شلومو داود اليهودي ونوفا سركيس دوروكيان الأرمينية المسيحية وكادت أن تتلاشى لو لم يلفظ والد نوفا أنفاسه الأخيرة بينما هو يردد أبيات كيفورك إمين:
أنا أرمني… قديم… قدم أرارات، قدماي… لا تزال رطبتين من مياه الطوفان» (ص31).
وعلى رغم ذلك حاولت كل من هيلا وميساك شقيقتي مائير ونوفا الحؤول دون ارتباطهما، إلا أن الأمر انتهى بزواج مدني بسيط جمع الحبيبين وأثمر طفلًا متنازعًا على هويته بخاصة بعد وفاة الأبوين بظروف غامضة. فإن كانت هيلا تقول إن شقيقها قد أعدِم على يد الحرس القومي بسبب انتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي وتُرِكت زوجته حتى تضع مولودها ثم اقتيدت إلى الإعدام من بعده، تبقى لميساك رواية أخرى فهي تنفي أن تكون لشقيقتها نوفا ميول يسارية وتلقي باللوم على مائير الذي – وفق ميساك – هجرها مغادرًا إلى إسرائيل وانتحرت نوفا من بعده.
بين هاتين الروايتين تقبع حقيقة الطفل أمل، موشي أو خاجيك الذي عجزت كل من عمته هيلا وخالته ميساك نظرًا للظروف الدينية والعرقية والمجتمعية آنذاك عن الاحتفاظ به وتربيته فما كان إلا أن تبناه الممثلان جمال وحنان اللذان كانا قد فقدا أطفالهما وهم حديثو الولادة، ليتربى في كنف عائلة مسلمة.
وهكذا نشأ أمل طفلًا متنازعًا عليه تحاول كل من خالته وعمته ترسيخ تعاليم دينها في نفسه فيما تجهد الأم على تربيته على قواعد الدين الإسلامي وهنا يتوقف الكاتب عند التطرف الذي كانت تعاني منه كل من العمة والخالة إذ يقول إن في رأسيهما «هولوكوست فظيع» (ص32).
تعتبر هذه الرواية تحليلًا يسبر أغوار المجتمع العراقي آنذاك والحالة السياسية والاجتماعية طوال الفترة الممتدة من مرحلة الديكتاتورية وصولًا إلى ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق مع ما حصل في تلك الحقبة الطويلة من عمر البلاد. هذا وتتناول الرواية في شكل عميق وغير مسبوق مسألة الأقليات والمجتمعات والطوائف في قالب قصصي سردي لا يخلو من السيكولوجيا المعقدة للشخصيات. فقصة الحب هذه التي عاشها الرجل اليهودي مائير مع السيدة الأرمينية نوفا في خمسينات القرن الماضي لها رمزية ودلالة واضحة يحاول الكاتب إظهار حيثياتها على امتداد صفحات روايته في الوقت الذي كانت تنشط كل من مؤسسات الهجرة المسيحية السرية إلى أرمينيا والوكالة اليهودية للهجرة إلى إسرائيل.
شاء القدر أن ترزق العائلة التي تبنت أمل بعد خمسة أعوام بطفلة هي نسرين اخته بالرضاعة ليتربى أمل معها وتنشأ بينهما علاقة أخوة غريبة لا تلبث أن تشوبها الشهوة بعد ذلك فيفضّ بكارتها مغتصبًا إياها حينما كان مراهقًا ثملًا في إحدى محاولاته لتقليد أسد بابل الأسطوري (ص 73).
وبعد ذلك، ومع مرور الوقت، راحت نسرين تغرم بأمل الذي كان دائمًا ما يصدها إلى درجة أنها كانت تكره أمها والثديين اللذين أرضعاها الحليب نفسه فبات أمل محرمًا عليها. ومن هنا يطرح الكاتب في شكل غير مباشر جدلية التبني وشرعيته بحيث اختار أن يُنشِب علاقة شهوانية بين الطفل المتبنى أمل وأخته في الرضاعة نسرين.
وتتوالى الوقائع من دون انتظام لترسم لنا شخصية أمل المركبة، فتارة يطالعنا الكاتب بتصوير أمل المهووس جنسيًا الذي كان يراسل ممثلة إباحية شهيرة وطورًا يخاطب أمل الكاتب العالمي الشهير ماريو فاراغاس يوسا افتراضيًا ليعرض عليه كتابة قصة حياته التي لعبت فيها نسرين دورًا محوريًا بحيث لم تتوانَ عن إغوائه وحضّه على الافتتان بها ولم يتردد هو في رفض هذه المعصية واللجوء إلى هوسه المعتاد بالمواد الإباحية.
وفي خضمّ هذه الوقائع يحار القارئ فهو أمام الكثير من المعطيات في رواية تحاول أن تختزل عقودًا كثيرة من الزمن والعديد من الأحداث على الصعيدين الوطني والشخصي. فلعلّ أبرز ما تفتقده رواية «أسد البصرة» هو تلك الحبكة الدرامية المحكمة التي تربط هذا الكم الكبير من الوقائع بحيث تبدو أحيانًا متراصة من دون انسجام في ما بينها كبنيان متين يفتقر إلى هوية عمرانية محددة.
ويمعن الكاتب بعدها ليظهر وضع المرأة العراقية في تلك الفترة من الزمن، فهي كبش الفداء في كل المراحل. ولعل حنان التي كانت تلعب دور أم الشهيد في المسرحيات الوطنية المبجّلة للحكم لتجد مصدر رزق لها ولأولادها خير دليل على ذلك، إلا أن المفارقة التي حصلت هي عندما أوتي بأمل على اعتبار أنه جثة هامدة بينما اتضّح في ما بعد أنه كان لايزال على قيد الحياة؛ وهنا لعبت حنان دور أم الشهيد في الواقع، أما نسرين فما كان منها إلا أن ازدادت إصرارًا على الهروب مع وليد بعيدًا عن تلك الفاجعة فتزوجت منه.
عاد أمل من الحرب إلى السكن في بيت عائلته بالتبني وباشر عمله بالتدريس إلى أن طرقت نسرين باب المنزل ذات يوم خائرة القوى مريضة منهارة بالكامل لتقصّ عليه ما حدث معها بعد زواجها من وليد وما تعرضت له من تنكيل واغتصاب بعد اختفائه في ظروف غامضة فباتت لقمة سائغة.
وهنا خصّ الكاتب المرأة العراقية بتصوير معاناتها في ظلّ الدكتاتورية القائمة وصولًا إلى الاحتلال الأميركي للعراق من خلال نقل دقيق لحالتها المزرية بدءًا من حنان وحتى نسرين فبهما اختصر معاناة النساء في تلك الآونة من الزمن. إلا أنّه لم يغفل إظهار الرأي الآخر بحيث تحدث عن مصادر وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية التي كانت تنفي تعرّض نساء عراقيات للاغتصاب من قبل جنود أميركيين مما جعل أمل بعد قراءته الخبر يشكك في ما قصته عليه نسرين من تعرضها للاغتصاب على يد الجنود الأميركيين معتبرًا أنها ربما كانت تمثل كل ذلك الحزن.
وفي النهاية، أصرّ أمل على البقاء في العراق رافضًا عروض خالته بالهجرة إلى أرمينيا وغير مستجيب لإصرار عمته باصطحابه معها إلى إسرائيل مفضلًا أن يذهب إلى ماريو ليقصّ عليه حكايته فيكتب له قصة حياته وكأنه يرغب في توجيه رسالة إلى العالم بأسره حول معاناته وآلام شعبه وذاك الصراع الذي يتخبط فيه المجتمع العراقي على اختلاف طوائفه وإثنياته؛ فيقول لعمته هيلا في نهاية حوراهما: «أغوح على ماريو هو الوحيد يفهمني» ( ص 238).
لا يقف ضياء جبيلي في روايته هذه موقف المدافع عن جهة معينة ديكتاتورية كانت أم محتلة إنما يمسرح التاريخ لخدمة عقدته الروائية بكثير من الحياد الإيجابي، فهو لا يسعى إلى إظهار أحقية فكرة على حساب الأخرى بقدر ما يجهد إلى تطويع الوقائع التاريخية في خدمة عمله الدرامي.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى