الروح الفانتازية للحياة كما يراها فيلليني: على أوروبا أن تعترف بموتها!

محمد عبد الرحيم

بدأ فيدريكو فيلليني (20 يناير/كانون الثاني 1920 ــ 31 أكتوبر/تشرين الأول 1993) واقعياً كما هو شائع، وتجاوزاً عن فيلمه الأول «الشيخ الأبيض» يأتي فيلمه «الطريق» 1954، الذي أصبح ضمن تيار الواقعية الإيطالية الجديدة في ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن حتى في هذا الفيلم الذي شهد بدايات فيلليني، يبدو مصطلح الواقعية ليس منضبطاً، كما في «سارق الدراجة» لدي سيكا، أو «روكو وأخوته» لفيسكونتي. فدائماً هناك رؤية ذاتية في أعمال فيلليني ــ بغض النظر عن أعمال السيرة الذاتية ــ يرسم من خلالها تفاصيل الواقع ــ مع افتراض وجود واقع بالأساس ــ هناك حالة من الروح الفانتازية، السخرية السوداء، والحِس السريالي في رسم العديد من المشاهد ــ ليست السريالية المباشرة ــ لا حدود هنا ما بين الوقائع ورؤى صاحبها، التي بالضرورة تمتد إلى الشخصيات وسلوكياتها، التي تتجسد في مبررات أفعالها. لم تغب الرؤية السياسية في كافة أعمال فيلليني، التي عن طريقها نالت السلطة نقداً أشد قسوة من أعمــــــال أخرى، ناقشت مأساة الســـلطة ووجودها في صورة أكثر مباشرة وحدة. هنا إعــادة قراءة لبعض من أفلام فيلليني، متباينة الحكايات والمتحدة في رؤية العالم كما أراد لها صاحبها.

«الطريق» 1954

في الطريق تبدو إرهاصات معظم أعمال فيلليني في ما بعد، وصولاً إلى المنحى الذاتي وعالم الأحلام. رحلة يستعرض خلالها عالم أبطال السيرك المتنقلين، بحثاً عن الرزق، ومحاولة لإسعاد الناس بحركاتهم البهلوانية في الأزقة والحواري الإيطالية في بدايات القرن الفائت. رجل فظ يميل إلى الشراسة (أنتوني كوين) يعمل مهرجاً متنقلاً يكسب قوته من لف سلسلة ضخمة حول صدره، واستعراض قوته في كيفية التخلص منها. يبحث الرجل عن خادمة ومساعدة له يجوب بها الطرقات في عربته المتنقلة، فيلتقي بنقيضه، فتاة صغيرة ساذجة تثير الشفقة (جوليتا ماسينا)، تبحث عن المال لتساعد أسرتها وتعتقد أن ذلك الرجل سيجعل منها نجمة مشهورة، إلا أن حلمها الطفولي الساذج يتحول إلى وهم في ظل الواقع الحقيقي، بعيداً عن ألعاب السيرك وضحكات الجمهور.
فالفيلم يحكي انطباعات فيلليني عن المخلوقات وشراستهم التي فرضها عليهم الواقع وقسوتة، تتلوث أرواحهم بهذه القسوة، حتى لو كانت مهنتهم هي تقديم سعادة زائفة إلى الآخرين/جمهور السيرك. وما بين التناقض الدائم للرجل والفتاة، التي تتحمل دناءاته وتعذيبه لها في محاولة منه لجعلها تتقن عملها كمساعدة له. وهو لا يتورع عن إقامة علاقات متعددة مع فتيات الشوارع أمامها، نافياً وجودها على الإطلاق، ثم يغتصبها ويحاول إجبارها على ممارسة السرقة، إضافة إلى تركها تنام في الشارع في انتظار عودته من الحانات. وهي تتحمل كل ذلك منه لأنه لا يوجد مَن تلجأ إليه، كما أنه هو عائلها الوحيد، وبالطبع لم يكن هذا هو السبب الأوحد، فالطبيعة الإنسانية أكثر غموضاً، ولا يمكن تفسيرها ببساطة، حتى إن كانت شخصية كشخصية فتاة الطريق، لذلك ورغم كل معاملته السيئة لها، تجد نفسها واقعة في غرامه، وتبدأ مشاعر الغيرة تسيطر عليها بسبب علاقاته النسائية. وهكذا تهرب منه، لكنها تضطر للعودة. وإثر مشاجرة يقوم بها تنتهي بقتله أحد الرجال، يتعرض للاعتقال. وهكذا تبقى وحيدة تعاني العذاب، حتى يخرج ويتركها على الطريق، مهجورة في وحدتها تنتظر.

«الحياة حلوة» 1960

لم تعد روما سوى ديكور وهمي يمكن انتقاله من مكان إلى آخر، فتمثال السيد المسيح الذي يعبر فوق المدينة، أصبح مربوطاً في طائرة ليُطالعه الجميع، وقد احتفظ له العصر بإيماءة رأس مرتفعة حفظاً لماء الوجه، هذه الوجوه التي ترتفع لترى أو تلمح التمثال، ويبدو التعاطف الشديد مع المشهد، رغم اختلاف الفئات التي تراه، وقد أصبح لا يستطيع الطيران بمفرده! روما الآن فقدت معجزاتها. وكان لا بد من البحث عن أصحاب معجزات جدد.. صحافي دعائي وباحث عن أية أخبار فضائحية، الهارب من طبقته، والمتعلق بطبقة أخرى يبدو لديها كخادم مطيع ينتظر الفرصة، التي تتمثل في علاقته بامرأة ثرية، تحاول الوصول إلى الحب الحقيقي من خلال الجنس، تبحث ولا تجد، كما صديقها الصحافي، الباحث عن تهدئة لقلقه الطبقي دون أن يجد، هذا القلق يتمثل في عشيقته القريبة من هذه الطبقة التي يود هو نسيانها، عشيقته المنهارة، والخائفة من انتهاء العلاقة بينهما، فتحاول الانتحار، ويتم إنقاذها في اللحظات الأخيرة، لتعود إلى بيتها، وكأنها في حجرة اعتراف، لا تجد ما تقوله أو تعترف به حتى بينها وبين نفسها. وتأتي زيارة الممثلة الأمريكية للمدينة الشهيرة، فيحاول الصحافي التملق والوصول إليها، إضافة إلى مُنتج للأفلام، يحاول الصحافي أن يقنعه بأنه سيقوم بتأليف رواية، فيشجعه المنتج، الذي يعاني هو الآخر من حالة العبث التي يعيشها، فهو يحلم بعالم آخر أكثر هدوءا وسلاما، عالم السينما والفن القديم، ولا يعرف كيف سيأمن على أطفاله وسط هذا العالم المجنون، فيقرر في النهاية وضع حد لهذا القلق الوجودي، بأن يقتل أطفاله وينتحر، فلا يجد الصحافي إلا الكتابة الفعلية لروايته، ومحاولة الحياة مع عشيقته من جديد.
لم يكن فيلليني يعبّر إلا عن أوروبا، حضارة كاملة كان يراها إلى زوال، حضارة رأي حربها ونتائجها، تشيخ وتنهار، ولم تكن إيطاليا إلا المجاز، حضارة هجرها إلهها، ولم يعد في استطاعته إلا النظر إليها ــ كتمثال ــ مقيّد إلى طائرة، وما توتر المنتج السينمائي بين عالمين وزمنين مختلفين إلا توتر أوروبا، وتمثل الحل في رأي فيلليني بالانتحار، حتى يتم التخلص من هذه الحالة المزعجة، وفي مقابل ذلك تأتي الفتاة الشابة ــ الممثلة الأمريكية ــ التي لم تزل تندهش من مشاهدة دجاجة في الطريق، وتشتري زجاجة لبن لجرو جائع، وتصعد سلالم الكنيسة المرتفعة في ثقة وقوة، بخلاف الصحافي مُدّعي الفحولة، الذي بالكاد يلهث من صعوده الدرجات.
يسخر فيلليني من نوايا أبطاله تماماً، كما يسخر من حضارة استمرت زمناً، وآن لها أن تختار حجرة اعترافها بإرادتها، قبل أن تودع مصحات العلاج النفسي. الأمر نفسه يكرره فيلليني في فيلمه المُتقدم «بروفة أوركسترا»، فأصحاب الآلات يستعدون للبروفة، وكل منهم ينتظر المايسترو، الذي يستعد في حجرته، في حالة من الهدوء الشديد، فكان الوقت المتاح لكل عازف أن يفعل ما يحلو له.. من ضبط آلته، إلى سماع الأخبار بالمذياع، وصولاً إلى ممارسة الحب بين رجل وامرأة من الفرقة، حتى تتشقق جدران المبنى العتيق الذي يقومون فيه بالبروفة، فيكاد يتحطم ويسقط فوقهم، هنا يخرج المايسترو الذي حاول الحفاظ والاحتفاظ بهندامه والهدوء الرصين جداً، ليُكلله الغبار المتساقط حوله وحول فرقته، ويصرخ فيهم صائحاً بالألمانية (اصمتوا)، لينتبه الجميع، وتبدأ الفرقة في عزفها مقطوعة في قمة التناغم.

«إنني أتذكر» 1973

هنا تصل السخرية مداها، السخرية من كل شيء، الأفكار والسياسات والزعماء الموهومين، والشعب الأكثر وهماً، ومن النفس. الصبي (تيتا/فيلليني) على أعتاب المراهقة بين أسرته، أب يعمل مُلاحظ عُمال، وأم ربة منزل، وعم عاطل، وجد لا يجد ما يفعله، وأخ أصغر وطفلة. ومن خلال تيتا نكتشف عالم القرية التي يعيش بها، كنموذج مُصغر لإيطاليا، خاصة أن الوقت هو الثلاثينيات، وبداية صعود الفاشية. المبالغة في الشخصيات من سمات أفلام فيلليني، فهو يرسم عالم مجانين، يعيشون طفولتهم حتى إن تجاوزوا السبعين. عالم المراهقة والمدرسة وهلاوس المراهقين الجنسية، فتاة القرية الجميلة التي يحلم بها الجميع ليل نهار، رجل عاطل عن العمل لا يفعل سوى النوم والتأنق والظهور في المحافل الليلية، ليتحول بعد ذلك إلى نموذج مثالي للرجل الفاشي، فالفاشية هنا تكمن في نفسيات الأشخاص، قبل أن تتحول إلى نظام سياسي، أربعيني مريض ــ خال تيتا ــ يودع إحدى المصحات النفسية، ويعاني من الكبت الجنسي، ولا يجد سبيلاً سوى الصعود إلى شجرة عالية ليكون قريباً من الله ويدعوه بأن يرسل له امرأة بأية طريقة، وإلا سيُلقي بنفسه، ثري عربي يأتي للفندق الوحيد القريب من القرية وكأنه إحدى شخصيات ألف ليلة، قزم دميم، وخلفه ما ملكت أيمانه من طابور النساء الطويل، المحبوسات خلف الشرفات، ويُدَلين الملاءات ليصعد أحد الشباب السُذّج إليهن ــ أشبه بحكاية الحمّال والبنات في ألف ليلة ــ عالم كامل من الشخصيات الكاريكاتيرية. كرنفــــال طفولي كبيـــــر، يبدو تيتا في نهايته وقد اكتسبت ملامحه خبرة ما، لترحل فاتنة القرية ــ أحلام الجميع ــ وتتزوج أحد العسكريين، ويُشارك الجميع في حــــفل زفافها، ما بين حزن وسعادة، ويوصون الزوج بها، وقد تمكنت الفاشية تماماً من إيطاليا كلها، لتبدو القرية خالية، ويأتي رجل يظهر خلال الأحداث ليُعلق عليها من الخارج ــ أشبه بالراوي الشعبي ــ ليضع نهاية لأحداث هذا المصح الكبير.
حاول فيلليني خلال معظم أعماله أن يرصد الروح الخربة لإيطاليا/أوروبا من جرّاء تسلط النظم السياسية وبعض رجال الدين على الحياة، وليصل الأمر دوماً إلى سخرية مريرة من كليهما، فهؤلاء دوماً كاذبون، وملفقون، فقط يريدون التسلط والتحكم بحياة الناس، ومواقفهم الأقرب إلى الأحكام العسكرية، وبالتالي لم تنشأ الفاشية في مناخ غريب عنها، بل كانت الظروف أمامها مؤهلة تماماً لصعودها، فلم يأت موسوليني من فراغ، ونتيجة ذلك أصبح الفرد الواقع تحت سيطرة مَن يقومون بتسيير شؤون حياته مجرّد آلة، لا يهمه ما يحدث وما سيكون، فهناك آخرون يرعون مصالحه، ويرتبون له أدق تفاصيل حياته، ليبدو في لاوعيه أنه بدوره يستطيع إن واتته الفرصة أن يصبح مُتسلطاً وسلطوياً أكثر من السُلطة التي تحركه كالدمى. وها هو الأب المتشدد دائم الصراخ والعصبية ــ وإن كان في شكل هزلي ــ بداية من صلواته الصباحية أمام الطعام، وحتى صفع نفسه كلما ضاق بها الحال، لكنه يحافظ دوماً على نظرة التبجيل التي يحاول بثها لجميع الأسرة نحو أخيه الشاب العاطل، بما أنه يمثل القوة والوسامة ــ المُفترضة ــ في الأسرة، هذا الشاب الذي سيتحول في بساطة شديدة إلى أحد مشجعي ورموز الفاشية في القرية.
فهناك آفة السُلطة ــ رغم تنوعها ــ الكامنة في نفوس الجميع، والتي تنتظر فقط الفرصة. يُقابل ذلك فاقدو العقل، الذين لا يشعرون ولا يهتمون إلا بأنفسهم، وهم الأكثر حرية في عالم فيلليني، وهنا يخلق الرجل مفارقة في غاية الروعة، فـ(تيتا) يقابل اثنين من فاقدي العقل .. الخال المسجون في مصحة، وفتاة هائمة في شوارع القرية، وكل منهما يُعاني إما من الكبت أو الهوس الجنسي، الفتاة التي تتعرّى في أي مكان، والرجل الذي يُصر على مخاطبة الله بأن يحل له المشكلة، فلا يأتونه إلا براهبة من الأقزام في غاية الدمامة، تقنعه بالهبوط من فوق الشجرة، إنها هدية الله من دعاته الرسميين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى