مقصدية تغلغل الشر في «أيام الزهللة» لهدية حسين

نادية هناوي

للذات تحولات وتموجات وهذا ما يجعلها كيانا فاعلا، لكنه مخاتل لا يستكين، فهو المهادن والمراوغ الذي يحوم ولا يبادر ويصول ولا يتجاوز، وبهذا يغدو اصطياد توصيف دلالي تتمظهر فيه الذات أمرا شبه محال.
وقد اختلفت التنظيرات وتفاوتت الرؤى وتغايرت، وهي تحاول إعطاء تدليل لتمظهرات الذات وتلوناتها، وبما يشيد صرح نظرية ذاتية تطرح التقليدية جانبا مهتمة بجوانب غائرة غير مكشوفة، متحدية منهجيات الدرس النقدي بسبب تعددها وعدم الوثوق بواحدة منها.
ومن الجوانب الغائرة نظريا ما يتصل بنزعة الشر وتأصلها في الذات الإنسانية، فكيف يتم ذلك؟ وأين تكمن نزعة الشر أفي الصمت أم الكلام؟ وهل الشر نشاط مترف؟ أم هو أزمة شك وعدم استواء؟
هذه الأسئلة وغيرها تساق في إطار التوظيف الأدبي الذي يجسد أبدية الشر المتغلغلة في الذات والمهيمنة على فكرها، كقوة ضاغطة وهدامة تدفعها نحو الانحراف، وهذا ما وقف عنده المفكرون والفلاسفة، فسارتر مثلا رأى في معرض تفسير ديالكتيك العواطف «أن الشر ليس صورة ظاهرية وأن معرفة الأسباب لا تبدده، وأنه لا يعارض الخير، كما تعارض الفكرة الغامضة الفكرة الواضحة.. فنتيجة ضلال عابر يمكن ان نجد له عذرا، نتيجة جهل يمكن ان ننيره، ولا يمكن أن نحوله ونرجعه ونوحده بالمذهب الإنساني المثالي».
وهذا يعني أن الشر متغلغل في الذات الإنسانية كنزعة بقاء طبيعية تتولد بهدف الديمومة والاستمرار، وبهذا يتجه الإنسان صوب الشر وهو محمل بطاقة الوجود ومتذرع بالمنطقية والأخلاقية التي قد لا تؤذي الذات وحدها بل تدمر الآخر وتستبد به.
ليغدو الشر وجهة نظر ارتدادية تعود إلى منطقة بوهيمية ما تخلص الإنسان منها إلا بعد أن اجتاز مراحل من صراع مرير وعنيف عبّر من خلالها عن كينونة تتحمل وزر أخطائها بنفسها، متسيدة على نزعاتها آمرة لا مأمورة وواعية لا مسيرة، بحسب أهواء تتفانى في سبيلها حتى إن تطلب منها ذلك أن تنفي الآخر.
والذات التي ترى في ذوائها بقاء الآخر، إنما تنطلق من الكره كغريزة غائرة في غياهب الروح لا يهذبها إلا الدين والأخلاق. وإذا كانت نزعة الخير تحرر الذات من أدرانها، فإن نزعة الشر تقيدها بتلك الأدران، ولهذا كان النضال ضد قيود الشر والرغبة في التحرر عسيرا ومريرا، حتى قال الجواهري :
لثورة الفكر تاريخ يذكرنا بأن ألف مسيح دونها صلبا
فالحرية مشاعة، بينما الشر راهني والحرية ضرورة والشر تهافت والحرية التزام والشر إلزام، ومن هنا غدا الصراع بين الحرية والشر صراعا سرمديا بسيرورة لا مناص منها ولا نهاية لها. وللشر ديالكتيك داخلي ذو تركيبة انفعالية تكشف عن ضعف جانب الخير في الذات، كما تعكس هول الكره الذي تكتنزه في داخلها، أفرادا أو جماعات، أحزابا أو دولا وما كانت النازية أو الداعشية أو الفاشية أو العدمية أو الديكتاتورية إلا صورا تؤكد استبدادية الشر الذي يهدد الخير بصوره جميعها. وفي الأدب نلمح التوصيف عينه، فالشر تكنيك فكري غائر يهدد الخير بمسلكية برانية طافية، تحاول انتزاع الروح الإنسانية الحرة وتعد الرواية واحدة من الأجناس الأدبية القادرة على تجسيد هذا المنزع السلوكي، ناقلة إياه من إطاره الفلسفي النظري إلى واقع نصي بمقصدية أكثر قربا وإفهاما.
وهذا ما راهنت عليه الروائية هدية حسين في روايتها «أيام الزهللة» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2015، وفيها تظهر شخصية حيران جبار جامعة للصفات السلبية، مؤدية دور البطل الواقعي الذي يستقطبه الاستغوار في الشر بوعي موهوم، بحثا عن حياة أفضل مستخفا بحياة الآخرين مستهينا بها ومنفلتا في الوقت نفسه من فطرة حب الحياة وحميمة البقاء والاستمرار. وهذا ما يجعل الشخصية مهزوزة من الداخل ومرعوبة من الخارج هدفها التخريب ومذهبها الإفساد وهي تسقط في هوة الخيانة والإغواء وتتشبث بالقوة والشهوة مدمرة ذاتها والآخر بفوضوية وبوهيمية.
وقد جعل السارد العليم من المكانين (مدينة النور/ مركز الشرطة) بؤرة السرد المركزية، بدءا من استهلال الرواية الذي يعكس اليوتوبيا التي تعيش فيها المدينة، فالأمان يسود بلا قوانين وأهلها طيبون كأرضها، بينما بدا مركز الشرطة مخيفا مغلقا وسريا غريبا عن المدينة حديث البناء.
وإذ حاز السارد الهيمنة على الرواية بصوت الشخص الثالث، إلا إن المقاطع الوصفية عملت على خلخلة هذه الهيمنة بين الفينة والأخرى، بمنظور خارجي يصف تفاصيل المكان سطوحا وباحات وشوارع وممرات. وتظل مدينة النور المكان الأليف والمسالم المضاد للمكان العدواني الذي لا يقبل بفكرة أن تكون مدينة النور يوتوبيا مكانية تفرض على المكينين فيها خيرها بلا جرائم ولا خروقات ومن دون قوانين ملزمة أو شروط مفروضة مع سيادة تامة لكل مظاهر الحرية. وقد عكس المفوض حيران جبار بوجهه وهيئته وتلفتاته وتساؤلاته، النزوع الشرير الذي يقف وراء إقامة مركز الشرطة في المدينة، وقد مكنه استنهاض هذه النزعة في داخله من تمرير دسائسه ومخططاته، فارضا على أبناء مدينة النور الخروج من جنة الخير إلى جحيم الشر، غير مؤمن بيوتوبيا المدينة لأنها بالنسبة اليه مجرد حلم عودة مستحيل، وأن التفكير بإمكانية وجودها واقعا هو فرضية متهافتة وخائبة «لا شيء يفعله تمر الأيام والسجلات نظيفة يفتحها صفحة ويغلقها ثانية، لاشيء يحدث في مدينة النور لكي يسجله لا جنح ولا جرائم لا معارك كبيرة ولا خصومات».
وبسبب طيبة أبناء المدينة لذلك ينطلي عليهم هذا النزوع الشرير فنجدهم يبررون لحيران شكوكه، ويتجاوبون مع سوء ظنونه واهتمامه بالأسماء والبيوت وتدقيق السجلات، باحثا عن جريمة تؤكد له صدق فرضياته وصحة توجساته. ويحول تجاوبهم النقي مع المفوض دون أن يرى الناس فظاعته متعاملين مع صرامته بمحبة. أما هو فكان يداري مشاعر الكبت والحرمان والعقاب والندم، بتحطيم المعنويات وتهشيم الآمال والتطلعات مقابلا الخير بالشر مصادرا الإنسانية بالواجب.
ويؤدي توظيف الصمت على مستوى الشخصيات الطيبة إلى توكيد لحظة الشر عاكسا مظهريتها ليكون خيارها السكوت والتسليم، بينما اختارت الشخصية الشريرة في سريرتها الكلام تارة والسكوت أخرى، تعبيرا عن عدم قدرتها على تحقيق هدفها. ولهذا تأزمت شخصية حيران، في حين ظلت الشخصيات الخيرة محافظة على وقارها وثباتها، وهي إذ وقعت تحت طائلة البؤس الجماعي إلا إن فردية كل شخصية ظلت متحصنة من حدة غلواء الشر.
وأسهم توظيف المونولوجات الداخلية في توكيد راهنية الصراع الذي طال الشخصية الشريرة عاكسا كمية الشك والارتياب اللذين أيقظا في دواخلها التساؤلات والاستفهامات، فهي غريبة عن المكان وليست من أبنائه ولهذا يغدو الشر صنيعتها «كيف لا تحدث جرائم؟ هل جئتم من مجرات لا نعرفها؟». ويبلغ التأزم ذروته حين يتصور حيران الوهم حقيقة والفضول مهارة، وبذلك يتعزز ازدراؤها لواقعها وتحتدم نظرتها لذاتها أيضا.
وهذا ما يجعل حيران جبار يتفنن في إشاعة الشر عبر هندسية مخطط رهيب يشتغل على تفاصيل المكان/المدينة، مستبيحا اطمئنانها بالاغتيال والتشريد والإرهاب، متفقدا تفاصيلها ليعيد هندستها من جديد (المركز الصحي والبيوت المزدانة بالحدائق وحي التنك والعوائل القاطنة فيه) لتتحول من أماكن مفتوحة ذات تفاصيل كثيرة إلى مناف مغلقة بلا تفاصيل والليل تغير.
وإن الأفراح والمناسبات ما عادت تنيره بالحيوية والنماء، بل عمه الظلام مضفيا على أجوائه الجفاء والخواء، وعملت الاستباقات على توجيه القارئ بمقصدية نحو هندسية المكان الروائي «هذا الحي الذي سيكون له كلام آخر في حكايتنا هذه». ولأن الراوي عليم، لذلك لا يتوانى عن مكاشفة القارئ ببعض التصورات كقوله: «بعض الوعود.. وعود براقة لن تجد طريقها إلى التنفيذ في قابل الأيام». وإذا كان مركز الشرطة هو المركز/ السلطة العليا التي لا ترى الناس سوى سجلات وأرقام، فإن حي التنك سيغدو هو الهامش الذي يعكس تضاد المكين مع المكان، ليدمر بعضهما بعضا، وكأن المركز لن يكون كذلك إلا بهامش يسايره، وأن الشيء لا يعرف إلا بضده. وتتصاعد دراماتيكية الرواية، حين يتمكن الشر من خلخلة الخير واختراقه بالفتنة وزعزعة الأمن. وتتضح سخرية المفارقة حين يتمظهر المفوض في صورتين متضادتين، الأولى تود إدامة الخير والأخرى تريد خلخلته.. وبالإمكان تفسير هذه المفارقة في إطار نظرية جمالية مؤداها أن لمركزية الشر قبحا، يكمن في هامشية الخير وأن الحياة ما بنيت إلا على الأضداد.
ولقد انتقد كروتشة أولئك الذين يجعلون للفن غاية توجه الإنسان نحو الخير وتبث فيه كره الشر كي يصلح من عاداته ويقوم أخلاقه، وما ذلك إلا لأن الفن وسيلة للوعي وفهم الواقع ولذلك قال كاسيرر: «إن الفن يحول كل الآلام والهياجات وكل ضروب الجور والمفزعات إلى وسيلة لتحرير الذات وبذلك يعطينا حرية داخلية لا نبلغها بوسيلة أخرى» (اللغة والاسطورة).
وبذلك تتجسد في رواية «أيام الزهللة» واقعية تنضوي تحت لواء التزامية الأدب، فالإحساس بحاجة الحياة إلى قانون ينظم حياتها ويضمن لأبنائها السعادة والرجاء ليس حتميا دائما.. وعن ذلك يعبر سارتر»إننا لا نخلد بالركض وراء الخلود.. بل لأننا حاربنا بتفان في عصرنا ولأننا أحببناه بتفان وقبلنا أن نفنى كليا معه».

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى