حكاية أديب عراقي لاجئ إلى أول مدينة تشرق فيها الشمس

عبد الله مكسور

“هذا كتاب وددت تأليفه قبل هذا الوقت، لكن أموراً عدة كانت تدفعني إلى تأجيله، تأجيل يزيد من نموه في الذاكرة، كتاب يكتب نفسه، وحين بدأت تدوينه وجدته ينثال على شاشة الحاسوب، كتاب أردته أن يعبر عن هواجسي بصفتي لاجئاً، ورؤيتي للجوء أنه ليس الحل الأمثل، وتلك الوصمة التي تبقى تلاحقني بكوني لاجئاً”.

بهذا الشعور الخاص الذي يرفض الكاتب إسقاطه على الآخرين، يستهل الشاعر العراقي باسم فرات مقدمة كتابه “لا عشبة عند ماهوتا” الصادر عن دار السويدي في أبوظبي ودار المتوسط في ميلانو ضمن سلسلة “يوميات عربية” التي تبناها مشروع “ارتياد الآفاق”، الذي أطلق منذ عقد ونصف العقد جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات.
انهمار الذاكرة

تبدأ فصول الكتاب بعنوان “تحت سماء رانغي نِوي” وهو إله السماء والأعالي في الأساطير الماورية، يختار هذا العنوان ليفصِّل في الفروقات بين الأصلي والطارئ، بين لغةِ المُستعمِر والمستَعمَر، يقاربُ بمواجهات عديدة بين الحاضر والتاريخ، الشرق والغرب، إشكالات الهوية وتفرعاتها.
في “انهمار الذاكرة” كما يسميه باسم فرات، يتَّخذ من طائرة الخطوط الجوية الصينية المتجهة نحو أوكلاند في نيوزلندا عتبةً للولوج إلى البلاد الجديدة، التي يذكر القارئ بين حين وآخر أنها آخرُ البلدان في الأرض، وأنها في جنوب الجنوب، وأن تلك الجغرافيا هي أول ما تشرق عليه الشمس في الأرض، إنها أوتارِوَّا الاسم الماوري لنيوزلندا، لينتقل بعدها في الزمن أماماً وخلفاً برشاقة الذكريات التي يقدِّمها كشُبَّاكِ مفتوحٍ للريح، فنراه يعود إلى العراق بعد ثمانية عشر عاماً وخمسة وعشرين يوماً، يروي باختصار عن طفولته، جملٌ شعرية مركَّزة استخدمها لحكايةِ خطواته نحو عالم الشعر، ذلك العالم الذي سحره وهو ابن العشر سنوات، مصادفةً أيضاً عبَر فجر الرابع والعشرين من أبريل لعام 1993 الحدود العراقية الأردنية، ومصادفةً أيضاً غادرَ مطار الملكة علياء الدولي في عمان العاصمة في الواحدة ظهراً من يوم التاسع عشر من مايو لعام 1997، ثم ليعود انتقالاً من نيوزلندا بعد عشر سنوات من وصوله إليها نحو هيروشيما، تجارب مع المكان مرَّ عليها باسم فرات كان عمادُها العاطفة أكثر من الحدث.

مصور فوتوغرافي يصل إلى عمان ليغرق في تفاصيل الحياة وليتخذ من “الشميساني” مقراً له، ولتقوده الأقدار بعد ذلك بعامين نحو المفوضية السامية للاجئين في الأردن حيث قدم طلباً في الثاني والعشرين من شهر يوليو لعام 1996، بعد عشر أيام سيعرف باسم فرات أنه قُبِل لاجئاً بحسب قوانين المفوضية السامية، ينسحبُ هنا الكاتب نحو الجغرافيا المكانية في عمان باعتبارها مكاناً ثابتاً لا هلامياً، هي أرضٌ حمَته وكانت جسر عبورٍ له نحو ما يسميه “فردوس الأوهام”.

بين لحظة الرحيل والاستعداد له ثمة أيام في عمان قضاها الكاتب رفقة الكُتُب والتاريخ باحثاً عن تفاصيل شكَّلت هوية المنطقة، تفاصيل ستُعيد أيضاً إنتاج تجربته الشعرية كشاعرٍ يخافُ من المنفى بوصفه مستنقعاً يقتلُ الإبداع أو يجعل جذوته تخبو، حالاتٌ من اضطراب النفس البشرية واضحة في سياق المبنى والمعنى، وصولاً إلى مركز مَنغري في البلاد الجديدة عبوراً إلى “ولنغتن” عاصمة نيوزلندا، يقول باسم فرات “لم يكن معي سوى نفسي ولجوئي، وهل للاجئ سوى نفسه ولجوئه، إنه عارٍ إلا من غربته ومنفاه، ومواجهة الحياة بلا لغة ولا مال ولا جاه”.

في المجتمع الجديد الذي وجد نفسه فيه يغوص الكاتب في تفاصيل بنائه عن وعي مسبق بضرورة إيراد كل التفاصيل الخاصة بتكوينه، مفارقات عديدة قدَّمتها “لا عشبة عند ماهوتا” كان الثابت من بينها قول الكاتب “أنا غريبٌ ومنفي دون إرادتي، لم أختر البلاد، أشعر بوحدة قاتلة، عرفتُ أهمية العائلة في هذه المدينة التي تعوي الرياح بها، كنتُ أسمعها وهي تقول: أيها الغريب، مضيت على ما مضى عليه سلفك العظيم جلجامش، تبحث عن عشبة الخلود التي لن تجد”.

مفارقات عديدة قدمها كتاب “لا عشبة عند ماهوتا” كان الثابت من بينها قول الكاتب “أنا غريب ومنفي دون إرادتي”

رحلة إلى الريف

انتقالاً بين الكثير من التفاصيل يسافر باسم فرات بين أحياء العاصمة المتنوعة، ليروي مقابلاته التي حدثت غالبيتها بالصدفة مع أشخاصٍ شكَّلوا في مرحلةٍ ما نقاط تحوِّل في حياته الجديدة، ثم ليجري عرضا بانوراميّا لواقع القادمين الجدد، علاقاتهم الداخلية والخارجية، انحيازهم إلى تفاصيل الهوية، يغوص في الروح كثيراً حين يقول مثلاً “عندما تذهب إلى محكمة أو تقف أمام شرطي، أو مديرك في العمل، فتذكر أنك، أيها اللاجئ، بلا وطن يحميك، وإن لكنتَكَ وباء عليك”.

يأخذنا باسم فرات في كتابه نحو مضارب الريف النيوزلندي، يطوف في الغابات والأنهار، يحكي عن مراحل مختلفة من علاقاته الإنسانية في البلاد التي يُذكِّر القارئ دوماً أنه وصل إليها مصادفة، حياةٌ يقر بأنها لا تصلح إلا له، داعياً الجميع إلى قراءة تاريخ العراق، ذلك التاريخ الذي يضم حضارات عديدة قامَ على أنقاضها مجتمع تغوَّل فيه التفكك اليوم، التفكُّك الذي يحيلُه الكاتب إلى فساد النخبة.

يختم كتابه “لا عشبة عند ماهوتا” بسؤال مفتوح على الاحتمالات العديدة، “هل سيتحقق حلمي بعراق، تشع فيه المحبة والاعتزاز بوعي وعلمية بتنوعه

وعروبته؟ وهذه العروبة التي صنعتها شعوب المنطقة كلها، لا يتحسس منها ضحايا الاستبداد، ولا غير العرب في العراق، لأن لهم دورهم المشهود هم وأسلافهم، في بنائها”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى