شاعر جعلته شوارع الجزائر ويومياتها روائيا

لا يحمل الكاتب والإعلامي الجزائري عبدالرزاق بوكبة، في كتابه الجديد “يدان لثلاث بنات- ويليه: بوصلة التيه”، فقط الجرأة التي عُرف بها، أو صراحته المعهودة في مقالاته ونصوصه الإبداعية بقدر ما يكشف فيه عن قدرته على تحمل المتاعب والعراقيل التي واجهته في بدايات دخوله إلى العاصمة الجزائر عام 2002، قبل أن يفرض اسمه وحضوره كاتبا وإعلاميا وناشطا ثقافيا.

يرصد بوكبة في القسم الأوّل من الكتاب، الصادر حديثا عن منشورات “الجزائر تقرأ”، اليوميات الرمضانية التي عاشها مع بناته الثلاث علياء ونجمة ومريم، وسبق له أن نشرها في جداره على الفيسبوك خلال أعوام 2015 و2016 و2017، ولاقت تجاوبا كبيرا من طرف القراء، وهي نفسها لا تخلو من مغامرات بوكبة، لكن في زمن الطفولة، قياسا على طفولة بناته، لتكون تجربة سباقة إلى “أدب البيت” في الجزائر.

يعترف بوكبة في القسم الثاني بأنه ترك غرفته الجامعية في جامعة سطيف عام 2002، ودخل إلى الجزائر العاصمة رفقة الشاعرين رابح ظريف وجمال رميلي، اللذين عادا بعد أيام ورفض هو العودة، رغم أنه لم يكن على معرفة إلا بوجوه محدودة. وقد أحاله هذا الوضع على الشارع مباشرة، قبل أن تتوطد علاقته بالشاعر الطيب لسلوس الذي كان يشرف على معرض لبيع الكتب في مقر اتحاد الكتاب الجزائريين.

ويلفت عبدالرزاق بوكبة إلى أنّه تعرّف في الشارع على وجوه ونفوس “استفزّت السّارد في داخلي، أنا الذي كان خاضعًا للشّاعر وحده”.

وهذه الوجوه، كما يشير، لا علاقة لها بالكتابة أصلا، لكنها من النوع الذي يلهم الحكايات، وقد وجد معها ضالته السردية، مثل ما حدث له مع الشاب قادة الغليزاني القادم من الغرب الجزائري بحثا عن حبيبته التي دخلت العاصمة بعد أن حملت منه، لكن ما جعل الحكاية أكثر تشويقا أنّ بوكبة صُدم باختفاء قادة فجأة، وبظهور حبيبته زهرة مع طفلها الصغير، وهي رسامة بورتريهات، فعرضت عليه أن تترجم كل نص يكتبه إلى رسم ليصدرا كتابا مشتركا. ولأنها اختفت هي أيضا، فقد قام بوكبة برسم لوحات طفولية ونشرها في كتابه الأول “من دس خف سيبويه في الرمل؟”.

يسافر بوكبة بالقارئ في “بوصلة التيه” إلى شوارع الجزائر العاصمة وحدائقها وفنادقها الباردة، واتحاد الكتاب الجزائريين، والمكتبة الوطنية التي استقال منها عام 2004، والإذاعة الوطنية والتلفزيون الجزائري الذي طُرد منه في عهد عبدالقادر العلمي، فشنّ إضرابا عن الطعام عام 2010، وقد أبدع في سرد تفاصيل هذه التجارب الإنسانية، دون أن يتحدث عن الأحقاد والخصومات والتشنجات التي التقى بها في هذه المسيرة الصعبة، فلم يذكر إلا الجوانب التي أحالته على الكتابة السّردية.

ومن خلال هذه الميزة التي يختص بها يجعل بوكبة القارئ يعرف بعض الخفايا المتعلقة بكتبه السردية التي كتبها ونشرها لاحقا، من ذلك أنه كفر بالراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن شخوص الرواية، من خلال سهرة جمعته في وهران عام 2007 مع عشرة شبّان في حي شعبي، كانوا جميعا يتحدثون معه دفعة واحدة، وأنه كان يقيم في حمّام بستان الجنوب في باب عزّون، في غرفة كان هو الثابت فيها فيما يطلع عليه يوما نزيل آخر، كان يتعامل معه على أنه حكاية جديدة، وهي التجربة التي علمته كيف يحضر في نصوصه السردية بصفته شخصا من الشخوص لا راويا عليما.

يقول الناقد مخلوف عامر حول الكتاب “لأنَّ عبدالرزاق بدأ شاعراً، فإن القارئ يجد في هذا النص متعة الشعر ومتعة السرد معاً. مزيج من السيرة الذاتية والكتابة الروائية وإن هو صنَّفها من نوع السيرة. كتابة تمتح من الواقع أحياناً وتعلو عليه أحياناً أخرى”.

ويلفت عامر إلى أن الكاتب قد اختار طريقة خاصة في الكتابة حيث تستوْقفك عناوين فرعية قد يمثل كل منها استراحة لانطلاقة جديدة تتماوج بيْن الحاضر والماضي، ويرسم بلغته القوية الشفَّافة، والتي هي ضد الثرثرة والتقعُّر والزوائد المُملَّة، صُوراً تبقى عالقة في الذهن وتلتئم لتشكل لوحة متناغمة بخلفية وطنية جليّة.

ويشدد الناقد على أن ما يستحق التقدير حقا هو أن عبدالرزاق بوكبة قد واجه الكثير من متاعب الحياة، وثبت بالرغم من ذلك على الكتابة وصار قلماً مميَّزا من خلال سائر ما كتب.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى