‘الدولة والمذهب’ .. ليس ضـربًا من النكوص باتجاه إشكاليات الماضـي السحيق

حينما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في عام 2000، صادف مؤلفه د. غسان إسماعيل عبدالخالق كثيرًا من الاستحسان لدى المشتغلين في الفكر العربي والإسلامي، فيما تصدّى لها بعض الأدعياء بالنقد، انطلاقًا من زعمهم بأن الوطن العربي – آنذاك – كان يتهيّأ للقيام بقفزة كبيرة باتجاه الحداثة والديمقراطية وتكنولوجيات الاتصال، وقد بدا لهم هذا الكتاب – في ذلك الوقت – ضـربًا من النكوص باتجاه إشكاليات الماضـي السحيق التي لم تعد مؤهَّلة للحضور أو للفعل في الواقع العربي!

ومع ضـرورة التذكير بأن هؤلاء الأدعياء، كانوا يديرون أسطوانة لا يفقهون مفرداتها، بدليل أنهم سلّموا بأن الكتاب ينتمي إلى الماضـي السحيق لمجرّد أنه يحاور عددًا من إشكاليات وثنائيات القرن الثاني والثالث الهجريين بوجه خاص – دون أن يلمّوا بتفاصـيلها طبعًا – فقد فاتتهم حقيقة أن هذه الإشكاليات والثنائيات ظلّت تُنْتَج ويُعاد إنتاجها بصورة أو بأخرى على امتداد الوطن العربي، إلى الحد الذي يمكن الزعم معه بأن الوطن العربي هو الحاضنة المثلى لتلك المقولة العتيدة (التاريخ يعيد نفسه)؛ وهذا ليس بالمستغرب في ظل سـرديّة نمطية يمكن التنبؤ سلفًا بدوراتها التاريخيّة وما يصاحب هذه الدورات من أفعال وردود أفعال.

والحق أن ما تلا فاجعة الاحتلال الأميركي للعراق من صـراعات مذهبية دموية، بدءًا من عام 2006، رشّح ثنائية (الدولة والمذهب) للحضور بقوة في الواقع العربي الذي راح يتصادى قُطْريًا مع هذه الثنائية بصور عديدة، أكّدت أيضًا حقيقة أن مأساة (السلطة والسلطة الموازية) أو (الدولة والدولة الموازية)، ما زالت مرشّحة للحضور بقوة في المجتمعات العربية.

وجاء الربيع العربي – بدءًا من عام 2010- ليزيد هذه الثنائية تصاعدًا في العديد من الأقطار العربية التي طالها هذا الإعصار، فإذا بالمذهب السنّي الأشعري ممثلاً بالإخوان المسلمين ومن لفّ لفّهم ينطلق بسـرعة مذهلة، بدءًا من المغرب مرورًا بتونس وليبيا ومصـر واليمن والأردن وسوريا، بالعًا في طريقه – بتفاوت ملحوظ – الدولة والمجتمع والتاريخ في آن واحد.

ثم إذا بهذا المذهب يتقهقر تقهقرًا جليًّا خلال عام واحد فقط، في ضوء تحالف غير مسبوق بين ما تبقّى من مكوّنات الدولة الحديثة في معظم هذه الأقطار من جهة وقوى المجتمع الديمقراطية، فيما راح المذهب الشـيعي يتمدّد في العراق وسوريا واليمن بدعم مادي ومعنوي غير مسبوق من إيران، كما راح المذهب السُّنّي السَّلَفي المُتشدِّد ممثّلاً بفلول تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية الصاعد (داعش) يحاول ملء الفراغ السـياسـي في العراق وسوريا، ولا يدّخر وسعًا لزعزعة الأمن والاستقرار في العديد من أقطار الوطن العربي.

ومن البديهي القول إن ثنائية الدولة والذهب – أو ثنائية السُّلْطة والسُّلْطة الموازية- كما حاول هذا الكتاب أن يسلّط الضوء عليها منذ عام 2000، من خلال استحضار نموذجين تاريخيين تجسّدا في محنة تيار السنّة أو أهل الحديث على يد المأمون والمعتزلة من جهة وفي محنة تيار المعتزلة أو المَسَـرِّيّة على يد عبدالرحمن الناصـر وفقهاء المالكية من جهة ثانية، قد لا تكون حاضـرة حرفيًا وبحذافيرها الدقيقة، لكنها تمثّل مختبرًا تاريخيًا وفكريًا استثنائيًا لآليات الفعل ورد الفعل السـياسـي والأيديولوجي من جانب الدولة العربية من جهة ومن جانب الدولة الموازية من جهة ثانية، من شأنه أن يمدّنا بالعديد من التجارب والخبرات والمعارف النوعية.

وحتى لا تبدو هذه الطبعة الجديدة من كتاب “الدولة والمذهب”، مجرّد استعادة حرفية للطبعة الأولى، فقد رفدها المؤلف بمبحث عن التصوّف في العصـر العبّاسي، من خلال استقراء وتأويل تجربة وعبارات أبي يزيد البسطامي الصوفية. ومع أنه يعترف سلفًا بأن إيقاع الصراع قد خفت في هذا المبحث خفوتًا شديدًا – مقارنة بسائر مباحث الكتاب- إلا أن حرصه على استيفاء المشهد المذهبي في العالم العربي الإسلامي، قد أملى عليه ضرورة ملء هذا الفراغ؛ فليس من العدل أن تشتمل الطبعة الأولى على مقاربات – بنسب متفاوتة – للسُّنَّة والشِّيعة من جهة، ولمذاهب الأوزاعية والخوارج والمالكية والحنابلة من جهة ثانية، ولمذاهب المعتزلة والأِشاعرة والظاهرية من جهة ثالثة، ثم لا تشتمل الطبعة الجديدة على مقاربة للتيار الصوفي الذي مثَّل – وما زال يمثِّل- طيفًا إشكاليًا رئيسًا في الواقع العربي.

كما رفد المؤلف المبحث الخاص بمحنة المعتزلة وبفكر الدكتور فهمي جدعان باستدراك ضروري في ضوء كتاب “تحرير الإسلام” الذي يجسّـر الفجوة التاريخية القائمة بين القرن الثالث الهجري والقرن الواحد والعشرين.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى