معركة الشيطان الريفي مع الكتاب الأجانب في طنجة

الهام الطالبي

لا يمكننا الحديث عن الكاتب المغربي الراحل محمد شكري بدون ذكر طنجة، المدينة الساحرة التي لم تغب عن خياله الإبداعي، لقد سجل نبضها في مختلف أعماله، حتى أضحت مدينة شكري، يعبر عن وجعها ويخبر مختلف فضاءتها، ويطل عليها من نوافذ حاناتها باحثا عن أجوبة لأسئلة رجل ريفي يودع زوارها وينتظر ما يحمل إليه ساعي البريد «بوغالب» من رسائل وشيكات تروي ظمأه، ففي طنجيس كما يحلو له ان يسميها سيتعرف على أهم الكتاب العالميين وستترجم أعماله، لذلك عندما سئل رجل الخبز الحافي عن موضع طنجة في خاطره قال «لو عشت في مدينة أو مدن مغربية أخرى، ولم أعش في طنجة بكثافة لما كتبت ما كتبت»، خاصة أنه التقى بول بولز مترجم «الخبز الحافي» إلى الإنكليزية في شوارع طنجة، الشاهدة على قلقه ورغبته الملحة بأن تنشر سيرته باللغة العربية، ويقرأها المغاربة والطنجاويين على الخصوص، بعدما اختار أن يخاطبهم مخاطبة صريحة بلغتهم ويكشف لهم عن خبايا نفسه، ومعاناة طفل ريفي يبحث عن لقمة العيش ليتحول الى كاتب عالمي يخلد ماضي طنجة المضيء بأبرز الإسهامات الأدبية والفنية العالمية، وليشهد أيضا على مغادرة تينيسي وجين بولوز وبول بولوز بعدما أضحت طنجة غريبة عنهم لا تشبه طنجة التي عهدوها.
ولم يخل كتاب «معجم طنجة» لمحمود عبد الغني الصادر عن دار المتوسط الإيطالية من شهادات كتاب عالميين ومغاربة في حق مدينة طنجة، فالمؤلف يعلن من أول سطر أن روايته هي موعد للقارئ مع طنجة الثقافية، فحسب الطاهر بن جلون «في طنجة يتحول مقهى الحافة إلى مرصد للأحلام وتبعاتها، وكأن قطط المصاطب والمقبرة وفرن الخبز الكبير في مرشان، تجتمع هناك لكي يشاهد العرض الجاري بصمت ولا يخدع أحد شيشات الكيف الطويلة تنقل من طاولة إلى طاولة». لطالما اعتبر محمود عبد الغني أن الكتابات العالمية التي تناولت مدينة طنجة لبول بولز، خوان غويتيسيلو، ويليام بوروز، دانيال روندو، أنها مجرد كتابات سياحية لم تصل إلى طنجة بقلم شكري، عاشقها الوفي الذي رافقته في جميع سطور كتبه، ورافق زوارها من الكتاب في رحلتهم بين دروبها.
و«معجم طنجة» رواية تنقل لنا أحداثا وتعرفنا بكتاب كبار وطأت أقدامهم مدينة طنجة، كما يجول بنا المؤلف من شخصية إلى أخرى فتارة يحدثنا عن جين بولز وعلاقتها بطنجة، وكيف كانت تتجول بين شوارعها تتأمل ملامح سكانها لتزود خزانها الأدبي بمشاهد تعبق بروح أهل طنجة وعمرانها، وتارة أخرى يعرض لنا لقاء شكري بالكاتب المسرحي تينيسي ويليامز.
ويكشف لنا المؤلف عن علاقة الكتاب الأجانب بالكاتب المغربي، وكيف كان شكري يتحمل إهانات بعض الكتاب الأجانب، بسبب رغبته في أن تترجم أعماله، مكتفيا بالمغادرة كرد فعل وتسكع في شوارع طنجة، ليعرض لنا بذلك معركة شكري ضد الكتاب الأجانب قائلا «كلهم يرحلون ويعودون على متن القطارات والطائرات، ما كان يشكل بالنسبة له معضلة وصفها المؤلف بالمعضلة السيزيفية، فحين يذهب تينيسي يقرر شكري العودة إلى ذاته وكتبه الجديدة التي تكتب في ذهنه الواحد تلو الآخر، يأتي بوروز وإن لم يكن بوروز فبول او جين بولز».
الكاتب الغربي كان بالنسبة لشكري حلقة وصل بالغرب، وشيكات قد يحملها له «بوغالب» ساعي البريد، تسعده بعد نشر قصصه القصيرة، كما أن مرافقته إلى قاعة مدام بورت قد تجعله يحتسي كأسا بدون أن يفكر في تسديد الفاتورة، وفي هذا الصدد يذكر المؤلف مشهدا من مشاهد شكري صحبة الكاتب الأجنبي في حانات طنجة، «كان الليليون يكافئون شكري بعبارة ألف سماعها، ها قد وصل شكري رفقة كاتب عظيم آخر لا نعرف ماذا كتب وماذا يقول، وما على شكري سوى أن يكون ماكرا مع طرفين، مع الكاتب يرضيه، ومع السكارى يفعل مثلهم ويتحول فجاة إلى قديس يقنع جليسه بحبهم وقبولهم، لأنهم خليقة الله وبذلك فهم يشبهون أشياء كثيرة خلقها الخالق العظيم».
شكري يطالب طنجة بأن تجيبه بصوتها على أسئلته مع بداية الليل، طنجة أكلت كل شيء فيها ولا تزال جائعة، لم يبق أن يقول كل شيء عنها، هو المطلع على جميع أسرارها والشاهد على زوال عهدها الذهبي، بينما هي تنتظر معه رسائل من زوار غادروها، يقتنع بأن طنجة قادرة على جذب كتاب آخرين. ويعتبر شكري أن كل من جاء إلى طنجة سيعود إليها «جاؤوا إلى طنجة وغادروها بول وجين بولز وتينيسي وليامز، ما هم سوى مجموعة أشخاص لغاتهم مختلفة وسحناتهم مغايرة، سيعودون ذات يوم ليمارسوا ما مارسوه منذ سنين في هذه المدينة الطينية الساحرة، في نسيان تام أنهم يقبلون على حياة سبق أن عاشوها، وعلى كلمات سبق أن تفوهوا بها».
تقربنا الرواية من شكري صاحب الذاكرة القوية الذي لا يفوته إصدار كتاب عن كاتب زار طنجة مثل «جان جونيه في طنجة»، متمكنا بفضل اطلاعه على الأدب العالمي، أن يدخل قلب جان جونيه رغم طباعه الحادة، عبر حديثه معه عن ستاندال وكامو وسارتر، في الوقت الذي كان جونيه يجهل الأدب العربي، لهذا وصف بالشيطان الريف الذي يعجز المرء عن معرفة أفكاره من طرف بولز.
ويعرض لنا محمود عبد الغني علاقة المرابط ببول بولز، وكيف أحب محمد المرابط الحكايات وأضحى يجيد صناعة بنية حكائية، بفضل الدعم الفكري الذي قدمه له بولز، وكيف انتقل من مهمش إلى كاتب عالمي يفرح بوصول شيك مقابل ترجمة سيرته الذاتية «الليمون» إلى الفرنسية.
وكان المرابط يعيش فترة طويلة بين عالم الحكاية والغنــــــاء، دون أن يشك على الاطلاق في أنه حكواتي أو شاعر، كان إنتاجه الحكائي ينتقــل منه إلى بولز، الذي يترجمه، وقد يعيد تأليفه أو يقرن حكاية بأخرى أو يؤلف قصيصة وهكذا يخرج من الحكاية حكايات يعجز المرابط عن الادعاء بأنها له من صميمه وتنتمي إلى روحه وتحمل سرا من أسراره.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى