‘من أغنية لأغنية’ ينتقل تيرنس ماليك باحثا عن السعادة

أمير العمري

بلغ المخرج الأميركي تيرنس ماليك ذروة التعبير عن أفكاره الفلسفية ورؤيته الفنية المدهشة في فيلم “شجرة الحياة” (2011) الذي نرى بطله بعد أن أصبح في الخمسين من عمره، يتأمل في ماضيه، ويعود بذاكرته إلى نشأته صبيا في خمسينات القرن الماضي، ليطرح ماليك من خلاله الكثير من التساؤلات الصعبة عن معنى الوجود، ومغزى تلك الحياة وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وما يفعله بنا فراق الأحباء بالموت، بل ومغزى الموت نفسه.

بعد “شجرة الحياة” أخرج ماليك ثلاثة أفلام هي “إلى الأعجوبة” (2013)، “فارس الكؤوس” (2015) و”رحلة الزمن” (2016)، غير أنه لم يرتفع أبدا في هذه الأفلام الثلاثة إلى ما حققه في “شجرة الحياة” (الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان)، بل بدا أنه يكرر نفسه بعض الشيء، يتعجل في اختيار موضوعات أفلامه، يبتعد أكثر فأكثر عن الاهتمام بالتغلغل في دواخل الشخصيات، ويجعل مساحة الغموض أكبر كثيرا مما يكشف عنه الفيلم، وكلها مشاكل تبرز بوضوح في فيلمه الجديد “من أغنية لأغنية” Song to Song.
رؤية دينية

تشيع في فيلم “من أغنية لأغنية” أفكار تيرنس ماليك المعروف: الصور الخلابة، الاهتمام بالطبيعة، بعالم الحيوان والحشرات والطيور، ببحث الإنسان الشاق عن التحقق، عن الوصول للحب، عن تحقيق الانسجام الداخلي، لكنه يجد نفسه في غمرة انشغاله بالبحث عن المادي: الشهرة والثراء، وحيدا داخل عزلته، يفقد الحب، يعجز عن التواصل مع الحبيب أو الحبيبة، يجد نفسه حبيسا داخل نفسه المرهقة المعذبة، وكلما أراد أن يقبض على الروح، وأن يصل إلى جوهرها ومكنونها، يجد نفسه واقعا في هوة الإغواء بالسقوط.

هذه المفاهيم التي ترتبط بنظرة ماليك “الدينية”، موجودة بشكل أو آخر في هذا الفيلم كما توجد نفس العناصر الفنية السينمائية التي تتجسد من خلال التصوير والمونتاج والاهتمام الكبير بالموسيقى، هو يعمل هنا مع المصور نفسه، إيمانويل لوبيزكي، الذي عمل معه في أفلامه الشهيرة، بتكويناته البديعة في مشاهد الداخل والخارج، كاميرا لا تكف عن الحركة وكأنها قد أصبحت إحدى شخصيات الفيلم القلقة المعذبة التي تبحث عن الحقيقة عبر التنقيب الدائم في الماضي.

ولدينا أيضا الطريقة المألوفة في استخدام شريط الصوت الذي يمتلئ بالموسيقى من خلال الانتقال المباشر إلى الحفلات الموسيقية التي تقام في قاعات فسيحة، وباستخدام فرق حقيقية، يظهر بعض نجومها يتحدثون أمام الكاميرا مباشرة، ثم يبرز بوجه خاص دور التعليق الصوتي من خارج الصورة، بأصوات الممثلين في تساؤلاتهم الحائرة المستمرة، التي تدور حول محاولة فهم الذات، فهم طبيعة المشاعر واضطرابها واختلاطها من جهة، وإدانة الذات بقسوة وصب اللعنات عليها من جهة أخرى.

ويدور الفيلم في مدينة أوستن بولاية تكساس (موطن ماليك).. هناك ثلاث شخصيات رئيسية: “فاي” (روني مارا) وهي مغنية جاءت إلى المدينة بحثا عن فرصة للصعود، و”ب ف” (ريان غوسلنغ) وهو مؤلف أغانٍ شاب يعمل لحساب الشخصية الثالثة، وهو المنتج الثري العابث “كوك” (مايكل فاسبندر) الذي يستغل الاثنين، فهو يقيم علاقة جنسية مع فاي، ويتلاعب بأحلام “ب ف”. وفي إحدى الحفلات التي يقيمها المنتج الكبير نشاهد أجواء البذخ والفجور أو التدهور الأخلاقي، على غرار ما سبق أن شاهدناه في تصوير ماليك لنمط حياة النجوم في هوليوود في فيلم “فارس الكؤوس”، أما هنا فنشاهد أجساد النساء وقد أصبحت معروضة على مائدة الطعام مغطاة بالأطعمة وسط ضحكات الحاضرين الصاخبة.. تقف ثلاث فتيات فاتنات يطلب كوك من “ب ف” أن يختار منهن من يشاء، فكل شيء للبيع وكل شيء له ثمن، لكن الشاب يبتعد ليقترب من فتاة تقف وحيدة حائرة تبدو منفصلة بفكرها عما يحدث من حولها، وهذه هي “فاي”.
قصة حب

يقع “ب ف” في حب “فاي” التي تجد نفسها تدريجيا واقعة في حبه أيضا، لكن ترهقها فكرة الخيانة والاعتراف، فهي مستمرة في الوقت ذاته، في علاقتها الانتهازية الجسدية بالمنتج “كوك”.. وهي تردد دائما أنها تريد أن تشعر بالتحرر، وعندما تتطلع إلى وجه حبيبها الجديد تطلب منه أن يفتح فمه وتنظر داخله فيسألها عم تبحثين؟ إنها تريد أن تصل إلى الروح، إلى الجوهر لكنها في الوقت نفسه عاجزة عن الإحساس بالتحرر، ورغم أنه يقول لها بوضوح إنه سيقبل منها أي شيء، تقول له “حتى لو كذبت عليك”، إلاّ أنه يشعر بالخذلان عندما تعترف له صراحة باستمرار علاقتها مع كوك.

أما كوك فهو يلتقط فتاة تعمل ساقية في أحد المطاعم هي “روندا” (ناتالي بورتمان)، يقيم معها علاقة جنسية، بل ويشركها في الفراش مع فاي التي ترضخ بعد أن “باعت روحها للشيطان”.. ولكن العذاب يمتد ويستمر.

والفيلم بأكمله يقوم على الانتقال الدائم بين الحاضر والماضي، بل ويبدو كما لو كان صادرا من تداعيات في أذهان الشخصيات الثلاث، مع التساؤلات الدائمة التي تأتي عبر شريط الصوت تعبر عن المشاعر المتضاربة. تقول فاي مثلا في البداية إن فترة مضت في حياتها في المدينة “أصبح فيها الجنس عنيفا”، وفيما بعد نعود إليها وهي تتأمل في الزجاج الفاصل بين غرف المنزل الفسيح الذي يقيم فيه كوك وتقول “أحب الشعور بالألم الناتج عنه.. ألم الحياة”.

كوك يقيم علاقات جنسية مع العاهرات، يضعهن في فراش واحد، يتقلب إلى أن يسقط على الأرض، لكنه مازال يحب فاي طبقا لمفهومه الحسي عن الحب، ولكنه مرتبط أيضا بروندا التي التقطها من المطعم ليخوض معها مغامرات جنسية تذهب إلى القاع.

وبعد أن تعترف فاي لحبيبها “ب ف” بخيانتها له، تنقطع علاقتهما دون أن تنتهي تماما، وتقيم هي علاقة شاذة مع فتاة باريسية حضرت إلى أوستن، هي “زوي” (بيرنيس مارلو)، لكنها تبدو في حالة استكشاف أكثر منها اقتناع، ويحاول “ب ف” إقامة علاقة مع امرأة ثرية جذابة تكبره في العمر هي “أماندا” (كيت بلانشيت).
براءة الأطفال

يستمر ماليك في إظهار عدد من الشخصيات الثانوية مثل والد “ب ف” ووالدة فاي وأبطال فرقة موسيقية غالبا لن يتعرف عليهم سوى المشاهد الأميركي القريب من موسيقى السبعينات، مثل باتي سميث التي تظهر بشخصيتها الحقيقية، تروي لفاي كيف شعرت بالصدمة بعد وفاة زوجها فريد سميث بنوبة قلبية، وكلها استطرادات لا تضيف إلى الفيلم، بل تساهم في خلق مزيد من الارتباك في بنائه. ومما يزيد من الارتباك التغيير الدائم المستمر من مشهد لآخر، في لون وشكل شعر روني مارا (المستعار) دون أي ضرورة فنية، بحيث يصعب أحيانا التعرف عليها، أو يختلط الأمر بينها وبين ناتالي بورتمان (فالاثنتان تشتركان في الجسد النحيل، والشعر الأشقر..)، إضافة إلى المونتاج العصبي بانتقالاته السريعة جدا، بحيث لا تستغرق بعض المشاهد على الشاشة سوى ثوان معدودة.

عنوان الفيلم “من أغنية لأغنية” يأتي من عبارة ترددها فاي في القسم الأول من الفيلم وهي تصف علاقتها مع حبيبها بقولها “كنا نعتقد أننا يمكن أن نمضي من قبلة لقبلة ومن أغنية لأغنية”، لكن هناك أيضا معنى ديني للعبارة مستمد من التوراة يشير إلى الاحتفال بالحب الجسدي بين الرجل والمرأة.

إنه فيلم يدور عن الحب المستحيل التحقق، بسبب فقدان البراءة، وغياب اليقين، والرغبة في التحرر ولو عن طريق الجنس، وكيف يتحول البالغون إلى أطفال أشقياء عندما يقعون في الحب.

الملحوظة الأساسية التي تتعلق ببناء الفيلم هي أن النوايا الحسنة لا تكفل دائما نجاح المخرج في توصيل أفكاره، فالسيناريو لا ينجح في دفع “القصة” (تجاوزا) إلى الأمام أو التعمق في الشخصيات، بحيث يبدو ما تعبر عنه بالحديث، بالصوت، من خارج الصورة، منسجما مع وجودها المادي على الشاشة وطبيعة تصرفاتها وعلاقاتها، بل تبدو الشخصيات سطحية فارغة، وتبدو مواقف كثيرة شبه مرتجلة، والحوار مصنوعا بقصدية كما لو كان صادرا من عقل تيرنس ماليك نفسه، مفروضا على الفيلم من خارجه.

ويعيب الفيلم أيضا تكرار الفكرة والدوران المستمر حول “الإيروتيكي”، واللقطات الكثيرة الشكلانية المجردة التي سبق أن رأينا مثيلا لها في أفلام ماليك السابقة. ونتيجة غياب التطور الدرامي والتكرار والاستطراد، إضافة إلى الفشل في التوفيق عضويا ودراميا وحتى شكلانيا، بين المساحة الكبيرة المخصصة للفرق الموسيقية في أوستن، وبين موضوع الفيلم نفسه، يسقط الفيلم في الطول المفرط (128 دقيقة) في حين كان يمكن أن ينضبط أكثر لو تم اختصاره قليلا، ولكننا ملتزمون بالقياس على ما شاهدناه بالطبع!

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى