سلوى البنّا تسترجع تقنية «الليالي» سردياً

محمد علي شمس الدين

قرأت في الاّونة الأخيرة عدداً من الروايات والقصص المختارة دفعة واحدة، وهي «الضفادع» لمويان، و «حفلة التيس» لماريو فارغاس يوسا و «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ و «حجر الصبر» لعتيق رحيمي، وأضفت اليها بعض الروايات الأخرى. والقصد الاقتراب أكثر من حقيقة السرد أو الرواية الحديثة، ومعرفة الفرق بينها وبين الحقيقة الشعرية، ومن ثم المقارنة بين روايات من أزمنة ولغات مختلفة.
وتبيّن أن الرواية قائمة على المناورة والالتباس بين الواقع والمتخيل، وأنها بالنتيجة بنت الخيال الذي قال فيه ابن عربي في «الفتوحات المكية» انه به يبتكر الشاعر أشياء غير موجودة وبالتالي فهو قوة الله في الإنسان. والحقيقة الروائية قائمة على الاستعارة، لا بمعناها اللفظي بل الاستبدالي.
وبهذا تكون الحقيقة الروائية قريبة من الحقيقة الشعرية. لكن الفرق الجوهري بينهما هو في الطريقة الموصلة الى الغاية. فطريقة السرد قائمة على تفريع السبل والأشخاص والحكايات وعلى القص الذي هو الأساس. والسرد نثري بالضرورة وتحيط به منزلقات من أهمها الاستطراد غير المدرب الذي قد يحول السرد الى ثرثرة، لاسيما أن الكثير من الروايات مثل «أولاد حارتنا» لمحفوظ و «حفلة التيس» ليوسا ورواية جديدة كنت قد قرأتها ضمن القراءات الأخيرة بعنوان «ست الحسن في ليلتها الأخيرة» لسلوى البنا، التي تعتمد ايضاً طريقة الأواني المستطرقة والتفريع وجمع حكايات كثيرة في الرواية الواحدة، بأسلوب سمّاه يوسا في كتابه «رسائل الى روائي شاب» طريقة العلبة الصينية، وهي علبة داخل علبة داخل علبة، أو مثل «ألف ليلة وليلة»، ليلة تسلم الى ليلة تسلم الى ليلة.

جلسة المحاكمة
أما الحقيقة الشعرية فهي حقيقة البرق الشعري والخطف اللغوي الصوري والإيقاعي القائم على تكثيف المعنى في التباساته واختزاله في كلمات معدودات.
وفي الحديث عن رواية الفلسطينية سلوى البنا «ست الحسن في ليلتها الأخيرة» (دار الفارابي، 2017)، نجد أن ثمة نزعة أدبية سابقة كانت هي التمهيد للوصول للسرد الروائي . فهي في أكثر من موقع تضع على لسان الراوي أو الشاهد ما يشبه قصيدة صغيرة أو قطعة أدبية أو خطابية. من ذلك شهادات الشهود الذين يستدعيهم القاضي لسماع افاداتهم في جلسة محاكمة ست الحسن أو وردة، المتهمة بقتل الشيخ فواز، بعد عجزه عن الدخول بها ليلةً بعد ليلة بعد ليلة.
تقول الشاهدة حليمة بنت رواق المهتدي، داية القصر، في وصف وردة: «… قريبة بعيدة مشتهاة مرغوبة ممنوعة من حضنها تشرق الشمس وتغيب وعلى صدرها القمر…. صرخ كبير القضاة بغضب: لم أطلب منك قصائد غزل أيتها العجوز» (ص 170). كذلك سائر الشهادات، سرعان ما تتحول في المحاكمة الى مرافعات أدبية. لكنّ السطح الأدبي للرواية لا يقف عند شهادات الشهود بل يتعداه الى كلام القضاة أنفسهم بحيث تظهر المحاكمة، في جانب منها، وكأنما يدخلها شيء من الكاريكاتور وطاولة القضاة كأنها طاولة سريالية، يُغمى فيها على القاضي وينقل من الجلسة على محفة.
تظهر السطوح الأدبية للرواية أيضاً من خلال تسميات الأشخاص. ولعلّ قص سلوى البنا، صاحبة «عشاق نجمة»، في هذه الناحية تقترب من جبران خليل جبران في «الأجنحة المتكسرة» و «وردة الهاني»، بحيث يخترق القص أو السياق القصصي الكثير من النقد الاجتماعي أو الطبقي والعقائدي.
والغالب على السطوح الأدبية لرواية البنا هو التوريات السياسية، فهي تعلن عن نفسها من خلال تسميات الأشخاص وأوصافهم: وردة (ست الحسن)، حسن، الشيخ فواز، نائلة، حجل، ميمون…
القاع الروائي لرواية «ست الحسن» في بعض من مواقعه هو قاع خصب وجديد، فيه تتجلى القدرة الروائية لسلوى البنا، وهي تبدأ من الصفحة الأولى للمحاكمة. ويقودنا التدقيق في المحاكمة الى ملاحظة طريفة، بحيث ان تاريخ جلسة المحاكمة هو تاريخ غير موجود في التقويم. جاء في السطر الأول من الرواية «في مثل هذا اليوم الواقع في الواحد والثلاثين من شباط 2016 عقدت الجلسة الأولى للبتّ في قضية ست الحسن» (ص9). كما أن الجملة التي يرددها كبير القضاة على امتداد جلسات المحاكمة هي جملة ملتبسة، فهو يسأل: «هل دخل الشيخ فواز بست الحسن قبل أن تقتله أو بعد؟».
والمفاجأة هي ضياع القاتل في نهاية الرواية وادعاء أشخاص متعددين- أمواتاً وأحياء- أنهم هم الذين قتلوا الشيخ فواز. فالأساس الروائي لرواية «ست الحسن»، قائم على سؤال القاضي والمحاكمة. اما تقنية «الليالي» فمُوظفة بصورة ذكية ومشوقة: «كان ياما كان، في ذات مكان وذات زمان، أن الشيخ فواز شيخ القبيلة وسيد القصر اشترى بماله أثناء الحرب جارية جميلة اسمها وردة وغلب عليها لقب «ست الحسن» لجمالها، عثر عليها معروضة وخائفة في نفق مظلم أو ماخور…».

صيد الغزلان
«ست الحسن» رواية مليئة بالدلالات الجنسية. رمز الفحولة، باعتباره المؤشر إلى القوة والسيطرة، فإنه في الحروب تسيطر لغة جنسية خالصة (فتح، اغتصب، دخل)، والطقوس الجنسية في الرواية متعددة. من ذلك احتفال الشيخ مقبل ببلوغ ابنه فواز سن البلوغ. يروي فواز لستّ الحسن ما أعده له والده في القصر من احتفال في تلك الليلة. فعلى وقع رقص الخيل ودربكة النساء، راحت الجواري الراقصات تدور حول فواز وتناوش عضوه وسط صراخ يشبه صفير ريح رملية صفراء. ثمة مشاهد أخرى اروتيكية تفترش قاع الرواية: مشهد طباخة القصر الحبشية حين يختلي بها الشيخ مقبل في زريبة القش ليتمرغ في ثنايا جسدها ويلعق ككلب مسعور حبات العرق النابت في خلاياها.
والفصل المدهش (من ص 97 الى ص 102 ) عبارة عن ست صفحات، وهو الفصل الذي تتدخل فيه طقوس السحر مع طقوس الجنس، بحيث تدخل مزيونة على وردة تشق ثوبها، تتحجر عيناها على الصدر المرمري الناعم الأملس. كان شرطها على فواز لكي تطوعها له، أن تكون ضيفة على الوليمة. تأخذ معها ميمون العبد المخصي، كشاهد، وتستعين بقارورة زيت الكاهنة وميل المكحلة. «تدلك شعرها بين يديها، وتقرأ التعاويذ وتمسح بين الحاجب والعينين ثم تأمر العبد ميمون أن يخلع ثيابه كلها ويعبر عاريا كما ولدته أمه من فوق وردة. فينصاع ويعبر سبع مرات. (…) ثم مسحت بكفيها وجهها وهللت وكبرت: « قل لسيدك أبشر، الليلة يدخل بست الحسن». التوظيف الجنسي في الرواية المعاصرة ليس جديداً. فالجنس يملأ التاريخ، كما يقول نجيب محفوظ في إحدى مقابلاته. وهو يختلف من رواية الى أخرى، ويتسطّح أحياناً ليغدو منفراً أو بذاءة روائية. لكنه قي رواية «ست الحسن» يغدو رافعة روائية من ناحية، وبديلاً رمزياً عن الكلام في السياسة أو المجتمع أو العادات.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى