‘سيد المرصد الأخير’ .. المكان وامتداد الوجود

كه يلان محمد
يذكرُ الناقد العراقي ياسين النصير بأنَّ “أُمراء فرنسا في القرن الثامن عشر كان يتصورون بأنَّ الأرض التي يملكونها إمتداداً لأجسادهم” الأمرُ الذي يوضحُ دور الملكية في تحديد المنزلة الإجتماعية بالنسبة لكل فرد، كلما اتسعت رقعة أراضيه تزداد مواردهُ، فبالتالي يكونُ أكثر نفوذاً في وسطه وبين جماعته، من هنا يتخذُ الموضوع دلالة صيانية، إذ يَختزنُ البعدُ المكاني وفقاً لهذا التصور طابعاً مُقدساً لا تتوقف عليه فقط سلطة العائلة وموقعها الإجتماعي بل يتماهى مع هوية الذات فإنَّ أي مساس بطبيعة المكان الديموغرافية له ارتدادت على تكوينات اجتماعية وقد تصلُ الأحوال إلى مستوى تتلاشى معها كيانات قديمة بما لها من خصوصياتِ دينية وإقتصادية وسياسية وتغزو الفضاء المكاني أشكال وتركيبات جديدة من العلاقات.

هذه المُعادلة بين الذات والمكان تتحول إلى التيمة الأساسية في رواية (سيد المرصد الأخير) الصادرة من دار أنطوان 2015 للكاتب اللبناني المقيم في فرنسا شريف مجدلاني الذي يتناولُ من خلال رصد ما يطرأُ على أحد أحياء بيروت من التحولات وتَبدياتها على أسرة آل خطار وجيلها الثالث خصوصاً، جانباً من تاريخ المدينة الذي يمتدُ من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى إلى مشارف العقد التاسع من القرن المنصرم، إضافة إلى ذلك يتوقف عند ظاهرة الثراء الفاحش التي ترافق الحروب سواء ما اشتعلت خارج البلد أو داخله، وهذا بدوره يعمقُ الفروقات الطبقية كما يُشير في السياق نفسه إلى موجات النزوح التي أصبحتْ قدراً لمجتمعات المنطقة بأطيافها المختلفة وتراكيبها المتنوعة.

• رواية الخصم

يُسندُ الكاتبُ وظيفة رواية سيرة عائلة آل خطار إلى شخصية ليست من سلالة العائلة، بل الراوي هو مجردُ شاهد لما رآه وناقل لما سمعه من حميد الذي هويته ملتبسة في الوقت ذاته، ويظلُ موضوع انتسابه إلى آل خطار مُتشحةً بالغموض حتى آخر الرواية.

يبداُ خيط الأسرة بشكيب الأول الذي كان رسام أيقونات وتاجر خشب تمكن من تعزيز موقعه الإجتماعي بعلاقة مُصاهرة مع عائلة آل صباغ وذلك بعدما يمتدُ شكيبُ يدَ المساعدة لإبن صباغ حين نزلت به نكبة أوشك على الإفلاس وبذلك قايض خطار الأول الوجاهة بالأموال.

وقفزَ على كل الحواجز بما فيها الحاجز المذهبي فهو من الروم الأرثوذكس بينما زوجته من الروم الكاثوليك، ناهيك عن الاختلاف بين الاثنين على المستوى الإجتماعي المُرتبط بمكان الإقامة، يَتِمُ تثبيت دعائم أسرة آل خطار بحيثُ يصبحُ سيدها أحد أبرز وجهاء المنطقة في عهد مخايل الذي يتخلى عن مهنة والده ليتحول إلى تجارة الرخام، وجنى أموال طائلة خلال سنوات الحرب عن طريق مضاربة بالقمح.

وأضاف ما إمتلكه الوالدُ من الأراضي في كفر عيسى رصيداً إلى الإبن إذ شجع الأخيرُ أهالي دير حنوش للإستيطان في كفر عيسى، ولم يبق في الموقع القديم غير الكنيسة المهجورة، وبذلك لا يكون مخايل صاحب مهنة وعقارات واسعة فحسب إنما يتربعُ على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، هذه الواجهة الأرستقراطية تفتحُ له بوابة العمل السياسي فهو من الذين يستقبلون الملك الفيصل والجنرال غورو.

وذلك يوميء إلى التداخل بين المال والسياسة في هذا البلد الناشيء خصوصاً أنَّ مراسم الإستقبال تأتي متزامنةَ مع بناء الكيان اللبناني، هذا يعني أنَّ مصير عائلة خطار لا ينفصلُ عما يشهدهُ لبنان على الصعيد السياسي، كما أنَّ الكاتبَ لا يفوته الإلتفات إلى التطور العمراني لمدينة بيروت.

يَصعبُ في هذا الإطار تجاهل تأثيرات شخصية عبدالله شاهين وابنه حميد في إعطاء مزيد من الزخم لحركة السرد، وذلك يتبين أكثر عندما تكون الأسرة في عهدة شكيب الثاني إذا كان مخايل وصل بالأسرة إلى القمة في الثراء والنفوذ فاستمر الأمر على هذا المنوال في عهد شكيب، فالأخير أدخل بصهره في مجلس النواب وتفوق على خصمه من آل مطر، وفتحت أمامه أسواق بغداد ودمشق، وانتزع من مديوينه أملاكهم فوالدُ الراوي من بين الذين تنازل عن محلاته التجارية مقابل ما كان عليه من الدَين.

• الحُب المُحرم

على الرغم من نجاح شكيب على المستوى المالي والسياسي لكن ما كان ينغص حياته هو غياب من يكون جديراً بتسلم المسؤولية من بين بنيه فكان ابنه البكر زير النساء وإلياس الذي عقد عليه الأمل انخرط في المنظمات اليسارية ولكن ما زاد من توتر وقلق شكيب أكثر هو هروب ابنته سيمون مع حميد ابن وكيل أعماله.

يُذكر أن علاقة لمياء زوجة عبدالله شاهين بشكيب قد أثارت الشكوك في بلدة كفر عيسى، ومع توالي وحدات الرواية يحيلُ موقف شكيب المتشدد وانفراده بسيمون لإقناعها بضرورة عدم معاودة الإتصال بحميد إلى ما يبلغك الرواي مُسبقاً بأن الإثنين يبصران النور في توقيت واحد، ومن ثُمَّ يبحثُ سيد المرصد عن وريث لأملاكه بعدما يفقد الأمل بولديه وصهره وابنته التي اختارت الإقامة في إنكلترا فالأخيرة تُحاول إستعاضة فشلها في الحب بعلاقات حرة كما أن حبيبها حميد يتجه إلى السعودية عقب إخفاق خطفه ابنة سيده، دون أن يتلقى القاريء إشارةً تُفيدُ بأنَّ حميد قد كشف سبب عدم موافقة شكيب خطار ليزوجه ابنته، لكن ما ينقلهُ الراوي عن الحوار المتبادل بين لمياء وشكيب يضع المُتلقي أمام صورة واضحة.

هكذا تتشابك الخيوط وتتعدد التيمات داخل فضاء الرواية من الهوية إلى الحب المحرم والتباين في سلوكيات الأجيال، ولعل الأخيرة هي ما يريدهُ المؤلف أن يبقيه في واجهة العمل.

وهنا تستشفُ طيف آراء ابن خلدون في حلقات العمل إذ أن الأجيال التي تأتي بعد الجيل المؤسس تركنُ إلى الدعة والترف والتبذير ولاتهمها الوجاهة والمكانة الإجتماعية. ضف على كل ما سبق فإن موضوعة الحرب تُشكل محوراً أساسياً أيضاً في بنيان هذا العمل إذ يشخصُ النصُ ظواهر مقيتة تتوالد في مناخات الحرب ويأتي في مقدمتها الإستغلال.

• أفول الأسياد

عالجت أعمال روائية كثيرة الحرب الأهلية في لبنان ونشيرُ على سبيل المثال لا الحصر إلى (التائهون) لأمين معلوف، ولا يتركُ شريف مجدلاني أيضاً هذه المرحلة من تاريخ بلده بل يُفردُ مساحة واسعة من عمله لإبانة ما تعرَّض له لبنان من تقلبات وتدخلات من كل حدب وصوب إذ لا تغادرُ عدسة الراوي منطقة المشهد ويتبعُها المتلقي في تغطيتها لما بين المصنع وقصر سيد المرصد إذ يُفصلُ الراوي في الحديث حول ما يواجهه شكيب من المُضايقات والإستفزار والإغراءات لإخلاء منزله وبيع أملاكه من جهات مجهولة.

كما نجدُ أنفسنا أمام مُفارقة موقف صاحب المصنع مع ابن خصمه رمزي مطر حين يتخذُ الأخير قرار الإستسلام وبيع أملاك أبيه ليقيمَ في الرابية يتألم ويحاول أن يُثني ابن جورج عن قراره، وهو ليس أول من يبادر إلى مُغادرة المرصد بل مع إحتدام المعارك تستمرُ عملية النزوح والتهجير من منطقة إلى أخرى بحيث تختفي الإمكانية لعيش مشترك بين الطوائف داخل منطقة واحدة.

وتنضمُ أفراد أسرة خطار بالمُغادرين ومن ضمنهم إيفلين زوجة شكيب لكن سيد المرصد يُفضلُ أن يذكره التاريخ كمن دفع حياته ثمناً لتمسكه بالأرض التي تُمثلُ امتداداً وجودياً للإنسان ولهويته الدينية.

يُشارُ إلى أن هذا العمل يقتربُ من نمط الروايات الأسرية ويتتبعُ مصائر مكون واحد ضمن مكونات المجتمع اللبناني مع المواقع التي يسكنون فيها.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى