مكي حداد .. تاريخ حافل تفتخر به ميسان والعراق

كاظم اللامي
العقيدة المسرحية القابضة على المعرفة والانسلاخ الكامل عن العقائد الجاهلة تتمثل في أن الممثل هو المرتكز والعلامة الكاملة في تأصيل عقيدة المخرج إبداعيا بتواشج مع كل التقنيات المسرحية الأخرى التي تصب جميعها في خدمة الممثل وكأن المسرح خلق من أجله وله، وهنا تتجلى وتتمحور ذهنية الممثل في كيفية التعامل مع هذه الطاقات المختلفة، كيف له أن يجمعها بتناغم كبير ليعكس جهد المخرج وجهد العاملين بطريقة تجعل المتفرج يتيقن أن ما يراه إبداع جماعي أتى بوعي مضطرد، وعي تقف فوق هضباته ومضات من صنع أناس اخلصوا للمسرح والفن عموما، ومرد ذلك لأنه الأمين على تجارب المخرج والكاتب وبقية وسائل العرض المسرحي فضلا عن أمانته بخصوص تجربة الإنسان ككيان له دوره الفاعل في وجود الممثل أصلا بطرائق الوجود المعروفة، الإنسان الخالد الذي يجد نفسه على الخشبة والذي يأتي بصوره المتعددة العالقة في الضمير والذهن والقلب .. ربما الأب ربما الأم او الصديق او البقال وسائق التاكسي كل أولئك كان الممثل الواعي حريص على عكس تجاربهم في أعماله لذا عرف بإخلاصه لهم.

ومن هذا المنطلق كان علينا تسليط الضوء على سيرة وتاريخ ممثل كبير أغنى التمثيل العراقي بمختلف مسمياته على كافة الصعد وبمختلف الاتجاهات والنظريات وهذا الممثل أو الفنان نتيجة طبيعية لحركة حضارية ثقافية خلاقة شهدتها ميسان السومرية، وربما انه لم يخالفني احدهم يعتبر اهم اسم تمثيلي أنجبته ميسان منذ ان تقمص فيها ممثل لشيء اسمه الدور التمثيلي. إنه الفنان الخالد مكي حداد. وهنا نحاول الإحاطة بالفنان مكي حداد ولو اقترابا لا ولوجا لخبايا ذاته المبدعة من خلال الفحص والتمحيص والتحليل والتقييم.

مكي حداد حالة نادرة في عالم التمثيل لامتلاكه ذاك الإحساس الشعري بالكلمة حيث يتدرج بها من سفح المعنى حتى الذروة الدرامية الفلسفية للعرض من خلال تقنية مقننة للجهد بانفعال مهيمن ديناميكي تراتبي وكأنه ملتزم بخطوات بعضها يتلو بعض بنظام داخلي متقن الصنع لا يعتوره الزلل والخطأ وكل ذلك هو في أصله ومنبعه ترتيب إيجابي لأفكار المتلقي وانطباعاته وهو ما يؤكد جمالية العرض الناجح في ذهنه ليضعنا مكي حداد عموما في سجن من نسج خياله ومن خلال حواراته وحركة جسده وانفعالاته وصورها حيث يرمي عليك بعض هباته بشكل منتظم من الغذاء كتشبيه مجازي وغيره من الخدمات الواجب منحها بتقنين ذكي ليحافظ عليك أسيرا بين جدران إبداعه دون أن تكون لك القدرة على التمرد والهرب والانفلات، لا زمنيا ولا مكانيا ولا بغيرهن من الأبعاد الحادثة من خلال العرض.

مكي حداد لديه وعي متجسم يأخذ أشكالا متعددة بمعانٍ مضيئة، وعي ولود لأحلام برؤى فلسفية نشطة غير متراخية في الانفعال في ذهن المشاهد يشتغل عليها بطرائق وأساليب غاية في الدقة والبراعة، مثلت بل عكست في كل حالاته الإبداعية هوية مكي حداد الجمالية بجلاء واضح، كما أرخت لدى المتلقي مصادر جمالية يكتشفها مع كل عرض آخر لممثل آخر في زمن ومكان آخر بمعنى انه أصبح نموذجا ومثالا لدى المتلقي يقيس ويقارن وفقا له ويقرر على ضوئه نجاح العروض الأخرى وفاعلية الممثل فيها.

عندما تراقبه بدقة وهو يتقافز صوتيا وجسديا وروحيا فوق الخشبة او في المستطيل الفضي بنشاط بالغ يدعوك للتشكيك بعمره الذي تجاوز الثالثة والستين، كل ذلك لأنه يفهم العالم بتأمل قلبي وقبلي (قبل العرض وأثناء التمارين) وآني (أثناء العرض) وبعدي (بفض جمع المشاهدين) نعم بتأمل قلبي، لكنه مشكك في كل شيء يقف عنده يشك حتى في مشاعره ومصدر كل ذلك هو القلق الناشئ من تيقنه بعظم المسؤولية الكبيرة التي تحتله سابقا في عديد مشاهداته لأساتذته وهم يصولون ويجولون على خشبات المسرح، وكأنه نوع من الوراثة التي ألقت بظلالها على حقيقته كفنان ملتزم بقضية الإنسان.

قلنا هذا القلق منحدر عن الماضي أما عن المستقبل المتحول والحاضر المتجذر فالقلق لدى مكي حداد عنصر فاعل في إنضاج الطبخة التمثيلية قلق بالفطرة وبرغبة ملحة في بلوغ الكمال، قلق إيجابي يدعو للحركة والفاعلية والنشاط لا قلق سلبي يؤخر ويبعد ويقصي ويدعو للتحجيم وتناول قرص مهدئ أو منوم يشل التفكير؟، ومثل هكذا قلق إيجابي هو في أصله وفي نتائجه باعث للحياة في أوصال العرض وديناميكي نشط لدى بقية أفراد العمل.

منذ أن عرفته فارسا للخشبة المسرحية ومهندسا في المستطيل الفضي كان ولا يزال يتمتع بنقاء تغمره العفوية الواعية الواثقة بنزعة أرستقراطية معتدة كبيرة لأنها هكذا بإيمان صادق بعلو وسمو ما يضطلع به من إشراق خلاق اسمه المسرح نعم فهذا الإيمان بخطورة المسرح وقابلياته على التأثير لدى المتلقي جعل مكي حداد يجتهد كثيرا مترفعا عن السفاسف لبلوغ رسالته الواعية في تأصيل الجمال لدى من يتابعه.

يتميز مكي حداد عن غيره من الممثلين بالإحساس الشعري بالكلمة كما قلنا آنفا لكنه يمتلك إحساسا آخرَ مهما في عالم التمثيل ألا وهو الإحساس بالمحيط وعدم الانفصال عنه، المحيط المادي المتمثل بالخشبة والديكور وبقية الممثلين والأصوات المختلفة والجمهور وشكل القاعة ومقاعدها وحتى ألوان ملابس المتفرجين وكذلك المحيط الروحي المتمثل بالهواجس والأفكار والغايات وأشباح تتجول في الصالة وفضاء العرض من غير سنخ البشر، هو يراها تتابع إبداعه بشغف مما يؤكد على جزئية مهمة، ان الممثل الواعي يرى ويسمع ويستشعر كل شيء أمامه حتى نبضات قلب المتفرج وهي تتسارع باندماج كلي معه فضلا عن حوارياته التي يسمعها الراسخون في السيميائية وهي حواريات مع الديكور والفضاء العام كل ذلك نتيجة لوعي حاد يمتلكه مكي حداد، وعي أمثله بوعي الأم التي تعاني المخاض ورغم وجعها وألمها ورغم عديد الناس حولها ورغم إشارات الموت الماثلة صوره فوق رأسها، إلا أنها تبقى مشدودة لشيء معين هو عالمها الوحيد عند تلك اللحظة، وهو سلامة طفلها الذي تركته تسعة أشهر يتغذى على روحها، كل ذلك يقفز في الأذهان بشكل شوق عارم وغامر برؤية هذا الطفل، وهذا ما نجده في وعي مكي حداد وهو يتقلب أمامنا ممثلا مبدعا بتفكير عميق راسخ بجمهوره وكيف له ان يدخل السعادة ويفرض المتعة عليه من خلال أدواته الجمالية.

الدهشة الرعب المفاجأة هذه العوامل الثلاث استقيتها من نهر إبداع مكي حداد عندما يعتلي الخشبة او يتربع وسط الشاشة الفضية كرابعة النهار، أراه يتفجر متشظيا كزجاج نافذة تمنح الأوكسجين النقي بقدر معين لا يخطئ أهدافه. يدهشني بحضوره الواثق يرعبني بشخصياته النافذة في الواقع والنابعة من تجربتنا الجمعية يفاجئني بتلون وتعدد طرائقه في الأداء الصوتي الممتع وطاقته التي لا تنضب وحيويته التي لا تهدأ كماكينة ألمانية لا تعرف التوقف عن إرسال رسائلها الصوتية والصورية الخلاقة بانها باقية لا تزول.

الجميل في هذا الفنان الممثل أنه يجبرك على تبني القدرة الثابتة والدائمة على تصديق ما تراه حادثا منه وان بدا متناقضا في لحظة واحد وفقا لفكرة أصولية مفادها عدم اجتماع النقيضين في زمن ومكان واحد لكنه جمعهما في عديد أدواره الخالدة تراه فقيرا غنيا مثقفا جاهلا أنانيا مشاعا يحب ويكره يغضب ويرضى يصالح ويسالم يغدر يفجر ويتنسك ويتعبد يعود مصلحا نبيا بثوب شيطان كل ذلك نراه فنصدق ما نراه وهو يخبرنا في جميع تحولاته وتناقضاته: أنا مكي حداد واحد غير مجزأ آمنوا بي وبما أقدمه لكم لا انسلخ عن كل ذلك لأني إنسان زرعت فيه المتناقضات منذ ان خلقه الله من طين لازب وهي حقيقتكم فأنا لم أتأت شيئا جديدا إنها مشاعركم صفاتكم حقيقتكم التي تريدون الهروب من الاعتراف بها أضعها بين أيديكم حتى لا يصيبكم النسيان وفصم عرى تواصلكم مع الحقائق.

حينما اجلس قبالته متفرجا يتلبسني شعور طاغ بان مكي حداد يمثل من أجلى، لوحدي انا الذي اشعر به وكان الخشبة لا تقل غيره لذا لا أرى سواه حتى اني أراه يجاورني يمينا وشمالا ولا أجد رأس أحدهم يتقدمني حاجبا المنظر المسرحي حتى اني لا اشعر بشخص آخر يتذيل ظلي في مقعد خلفي كنت أنانيا بحجب الصورة عنه بجسدي ورأسي هكذا هو الممثل المحترف الذي له القدرة العالية على السيطرة والاستئثار بمشاعر الجمهور لوحده ليصنع مثابات معينة هو رائدها ندب مكثفة، تمور وتغلي بدون توقف ليعطي الحق بالظن بتلاشي القدرة على العطاء لدى غيره، انه يشل ذاكرتنا عن تذكر غيره.

مكي حداد يمتلك جسدا يبدو ضخما لكنه يحمل دلالات لغوية باذخة في الرمزية بإحالات فلسفية تعمق المعنى في حقيقة الشخصية المؤداة بمرونة جسدية تتسم بجمال معين مميز لا نجده عند الآخرين مطلقا بل في حالات نادرة كان لنا معها إشادات بشهادات تستحقها على مستوى النقد والتحليل، وما أشرناه لدى مكي حداد من إبداع هو لأدوات داخلية يستعملها بتفرد يعرف كيف يكون صادقا بها مع جمهوره، نرى كل ذلك واضحا برشاقة ومرونة حركة الرأس والجذع والقدمين وحركة اليد وصولا لتجزئة الحركة عند حدود الأصابع الى ان نقف عند متاهات الأنامل وعقلة الأصابع، كل له تفسيره الخاص وتوليد دلالات صورية غاية في الجمال.

التنوع شيء مهم وجدناه في مكي حداد باستخدامه وسائله التعبيرية فبعضهم ينشغل بصوته وإلقائه متناسيا جسده وانفعالاته الداخلية أو العكس لكن مكي حداد نراه يهتم بالأمرين بلا تقصير في أحدهما مع اندماج كلي مع الحدث والشخصية المماثلة له بالحوار بانتباه عالي الدقة يعكس الغياب في الشخصية والعرض عموما.

مكي حداد يتسم بالهدوء الذي يعطي للمخرج مساحة من التفكير الإبداعي والثقة المطلقة من خلال تقبله لملاحظات المخرجين والتي يؤديها باحترام كبير وان كان المخرج او الكاتب أصغر منه عمرا وهذا ديدن من يحترم المقابل لفنه وإبداعه لذا كان في كل أعماله تكامليا مع زملائه يحثهم للانبعاث جماليا.

تخرج من كلية الفنون الجميلة/بغداد قسم المسرح سنة 1980 فخبر طريق الإبداع بصقل موهبته أكاديميا وتتلمذ على يد كبار الأساتذة الذين كان لهم الدور الفاعل في زجه فارسا وملكا للخشبة العراقية واسما لامعا في التلفزيون والسينما.

انطلق محلقا في فضاء الفن وإبداعه في عام 1968 ومسرحية “الفيلسوف جحا” ممثلا ثم تلتها الأعمال المميزة التي بلورت وأفرزت قدرات الفذ مكي حداد من خلال نوعيتها وقيمتها الفكرية ومدى اتصالها بالهم اليومي الإنساني والاجتماعي العراقي والعربي والعالمي كمسرحية “قراقاش محاكمة الرجل الذي لم يحارب” وغيرها العشرات من الأعمال التي لا يسع المجال لذكرها ليسطر اسمه بجوار الكبار ممن شغف عشقا بالخشبة وما ذكر مجال إبداعي رائده الفن الا وذكر بجنبه مكي حداد بأحرف من نور يستحقها بجدارة لاجتهاده الكبير في تطوير ذاته الإبداعية بالعلم والمعرفة والخيال الخصب.

وفي فترة مهمة انتقل بنفسه وهواجسه ورؤاه الى منطقة أخرى إبداعية على مستوى العروض فكان الصراع، مجرد نفايات، جمال الليل، هل تسمعني اجب، اللوح الثاني عشر حيث كانت التقنية تختلف كلية بتوهج اكبر ونضوج اعمق وخبرة ادق فتحقق من خلاله جزء من الحقيقة الجمالية لوظيفة المسرح العالمية.

أما التلفزيون فله صولات كبيرة وكثيرة تعكس مدى جدارته لمواجهة الكاميرا وتطويعها أمامه وهي متواضعة دون ان تترفع فوقه ليجعلها صديقة له تحترمه تحبه تعشقه فكانت هذه الاعمال الخالدة والمحترمة والناجحة. عالم الست وهيبة، مسعود العمارتلي، صمود الابطال، سواد الليل، أشهى الموائد في مدينة القواعد، ابو جعفر المنصور، الشافعي أيام لا تنسى، رهين المحبسين حفيظ… حيث شهد لهذه الاعمال وللفنان مكي حداد القاصي بالنجاح والرقي والثيمة والقيمة الرائعتين حيث ترجم فيها الفنان مدى قدرته على كسب لب المشاهد وتركه لرسالة كبيرة تعنيه وتعني ذاته الإنسانية.

كما شارك ممثلا في العديد من الأفلام السينمائية المهمة ومنها: أحلام ممكنة، لا، أحلام، الجرس، وآخرها فيلم حر من انتاج سنة 2016. وكان في جميعها متفردا من كسب ود الكاميرا والجمهور ليضيف الكثير للمكتبة السينمائية العراقية التي تفتخر باسمه.

اما على مستوى الإخراج المسرحي فكانت له أعمال كبيرة مهمة كانت نتيجة طبيعية لعمله مشرفا تربويا مسرحيا في وزارة التربية ومنها: أنا ضمير المتكلم، أيها المشاهد جد عنوان لهذه المسرحية، هو العراق، سلاما وطني، رجل وسيف ومحراب وغيرها الكثير.

وقد كان بكل ما أخرجه للمسرح صاحب رؤية بخيال واسع ادلج مسرحا مهما دعم فيه التوجه العام لصناعة شبيبة يواجهون الحياة بقلب وفكر قويين مع معالجة فنية بداوات إبداعية راقية تعكس خبرة السنين بجمعه لعدة وظائف إبداعية في العرض وهو شيء رائع ومميز للمخرج بشكل عام.

كذلك كانت له بصمة مهمة في مجال الاوبريت فحقق به طفرة مهمة في إدارة المجاميع المسرحية مع توفر أذن موسيقية مهمة تعرف لعبة الاوبريت بحرفنة غاية في الدقة، فضلا عن جسد راقص متحرك بكل الاتجاهات مما خلق جيلا من الفنانين المهمين على صعيد الحركة والغناء والرقص: أوبريت جرح الشمس، عراقيون، بغداد حاضرة المجد، مسيرة الخلود.

تاريخ حافل لهذا المبدع الذي اسمه الفنان مكي حداد تفتخر به ميسان والعراق لانه يعكس مسيرة مهمة من حضارة العراق في العصر الحديث ومدى احترام واهتمام الناس بالفن عموما والمسرح خصوصا.

(ميدل ايست اونلاين )

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى