في مؤانسة القراءة

 

*صالح لبريني

إن القراءة الفاعلة هي التي تخلق الجسور بين النص والقارئ حتى تحصل فاعلية بينهما، ويتفاعل القارئ مع النص، على اعتبار أن العلاقة بينهما لابد أن تكون منبنية على المشترك ثقافة، لغة وشيفرات تمثل إحالات خارجية تحقق التواصل الفعال، هذه الفاعلية في القراءة تسمح بالغوص في أعماق النص، ومن ثم القدرة على التأويل ، فالنص عبارة عن تراكمات معرفية حياتية، تجربة، مصقولة برؤية للعالم هي التي تحدد الكيفية التي ينبغي بها قراءة النص حتى يتحقق الـتأويل المنتج، بل يمكن عَدُّهُ طبقات متراكمة لابد من أن يقوم القارئ بنحت مستحثاتها بإزميل الخلفية الثقافية المشكلة المنطلق في المقاربة بالنسبة إليه، والآليات المنهجية التي يمُكْنِهَا الولوج إلى صلب النص.
هذه العدة الثقافية المستقاة من الينابيع المعرفية والفكرية والفلسفية المختلفة والثرية، والآليات المنهجية هي التي نستطيع بواسطتها الوصول إلى القراءة التفاعلية. فالقراءة التفاعلية هي التي تضيف إضافات نوعية إلى النص المقروء، وتلعب دور النبراس الذي يضيء عتمات النص، بل أكثر من هذا تثريه وتغنيه، وتحوله إلى مجال حي، يتنفس أوكسجين المعرفة الناضحة بعمق التجربة كتابة وحياة.
والنص، بقول كهذا حمَّال لأوجه تأويلية منطلقها زوايا النظر المفتوحة على تصورات في القراءة، وعلى الخلفيات المعرفية والفكرية المتحكمة في هذه الزوايا أثناء القراءة. هذا التعدد في مقاربة النص تجعله أكثر حيوية ودينامية تُوَسِّعُ الدلالات وتفتح نوافذ جديدة لمقاربات قراءاتية مفعمة بحياة النص. والنص الحي هو الذي يحفز القارئ على إعادة القراءة بشكل متواتر ومستطرد، فالقراءة التواترية والاستطرادية تمكن من الكشف والإضاءة، وتحفز على مغامرة ارتياد آفاق تأويلية لم تكن في الحسبان أثناء القراءة الأولى، لكون النص الحي زئبقيا منفلتا ومراوغا لكل قراءة أحادية النظر وضيقة التصور.
إن النص المشبع بالرؤى العميقة يستدعي القراءة المنصتة لخفقات النص الداخلية، ذلك أن الفاعلية القراءاتية تتحقق بفعل القراءة المتأملة والمصغية لدبيب الهزات الباطنية المعتمة والمضاءة في اللحظة نفسها لكينونة النص. وبالتالي نستشف عبرها المعاني الدفينة والصامتة والمغيبة والمستنبتة في أرض النص، والمكتومة الخرساء. لكن فعل القراءة يحول الصامت إلى متكلم، والمغيب حاضرا، والمستنبت زهورا وأشجارا وارفة بظلال حيوية النص. إن هذه القراءة إضاءة لما يعتمل في النص من الأحاسيس والمشاعر والعواطف المتوارية بين الثنايا النصية المنزوية في العتمات.
هكذا يمكن القول إن على القارئ أن يكون مدركا أن عملية القراءة الناجعة ليست بالسهلة، بقدر ما تفرض عليه بذل مجهودات جبارة وإعمال كافة الحواس الظاهرة والباطنة لإعطاء النص فاعلية وحركية، وإشعاعية دلالية مفتوحة على الإدراك المستغور للمجاهيل المظلمة. والكاشف لحياة النص المتجددة والمدهشة والمغرية للإبحار في لجج الأعماق.
إن النص مفعم بالظلال المستكينة والرابضة في القعر، والغائرة في الغامض والملتبس، ولن يتم الكشف عن هذه الظلال إلا عن طريق تنشيط الخيال الذي يضفي جماليات على الفعل القرائي، ويقود القارئ إلى ملء الفراغات المتروكة للتأويل، وتقليص الفجوات التي لا يمكن الحد منها إذا كانت القراءة مبتسرة ومقيدة بقيود منهجية محنطة، ترفض استلهام أدوات من مناهج نقدية لها شأن في المقاربة النصية. إن فعل القراءة فعل إنتاجي ومضيء لكل ما هو ملتبس وهارب، فهو يحاول القبض على هذا النص المراوغ والملتوي واللولبي، فبه نستطيع أن ننتج نصا آخر انطلاقا من النص الكائن، وتحقيق الممكن النصي، أي خلق إبداعية جديدة متجددة للنص. هذا الأخير هو عبارة عن علامات لابد من الكشف فيها عن الدال والمدلول في علاقتهما الاعتباطية – كما حددها دوسوسير- عبر الشيفرات والسنن التي تشكل عصب الحصول على القراءة الفاعلة والمتفاعل، بل أكثر من ذلك فهو محمَّل بالرموز والإحالات فما على القارئ إلا أن يحفر ويحفر في هذه الأراضي العميقة ليصل إلى مائية النص، أي خصوبته وفاعليته وحياته.
إن قراءة النص الإبداعي تفرض على القارئ عينا بصيرة ثالثة، تستطيع الكشف عن الأبعاد الدلالية المتعددة والمختلفة التي يحبل بها النص، هذه العين البصيرة تستدعي استحضار رؤية عميقة للعالم واستثمار تجربة المتلقي في التناول النصي، كل هذا يسهم في إغناء المنتج النصي وجعله أكثر ثراء، فسلطة القارئ على النص هي سلطة معنوية عبرها يتم توجيه نوعية القراءة التي تسم النص بالتوهج الدلالي والانفتاح التأويلي.
لقد عرف التاريخ النقدي في قراءة النص المبدَع منعطفات على مستوى المقاربات النقدية ، فالمقاربة التاريخية والاجتماعية كانت ترى في النص الخارج النصي من دون العناية بالداخل النصي، الشيء الذي فرط كثيرا في إبداعية النص، وحوله إلى وثيقة تعتني بالحياة الخاصة للكاتب والانغماس في الجنس والعصر كمحددين من محددات أدبية النص الإبداعي، غير أن هذا لم يدم طويلا، نظرا لتحول المدارك المعرفية، تحول الاهتمام إلى قراءة النص من الداخل كبنية مغلقة غير قابلة للانفتاح على معطيات الواقع، وذلك مع الطرح البنيوي، هذه النظرة لا يمكن إنكار دورها في خلق حركية قراءاتية للمنتوج الإبداعي، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا بل تعداه إلى المزاوجة بين المعطى الخارجي والداخلي، الذي جسدته البنيوية التكوينية التي تجاوزت الرؤية البنيوية، على اعتبار النص الإبداعي حمَّالا للبعدين معا. وسيزداد الاهتمام بالنص مع مدارس نقدية أعطت جماليات جديدة في المقاربة النصية، إذ أعادت الاعتبار للمتلقي كأساس في عملية إنتاج النص.
إن علاقة القارئ بالنص شبيهة بعلاقة الأم بوليدها، هذه العلاقة لابد أن يكون محتِدها المحبة والرعاية التي تشكل الزاد العاطفي أولا في مصاحبة النص، هذا الزاد هو الرابط الوثيق الذي لابد منه من أجل منح النص البهاء والإشعاع ، ثم بعد هذا تأتي العلاقة النقدية المنبنية على قراءة النص بآليات منهجية، التي بمستطاعها تسليط الضوء على الأغوار، أي أن القارئ ما عليه سوى أن يمسك بتلابيب النص بروية وتؤدة حتى يتمكن من القبض ولو اليسير مما يثويه، على دلالاته التي تبقى في حكم الانفلات، وهذا ما يعطي لفعل القراءة صبغة التفاعل البناء والانسجام الفعّال، وتلك الحميمية المتواشجة بين القارئ والمقروء.
إن ما يحقق لذة النص – بتعبير رولان بارت- هو الإنصات المتأني والإصغاء المرهف للذبذبات الداخلية للمقروء والإبحار الحذر في عبابه حتى لا يسقط القارئ في الفهم المؤدي إلى اغتيال حياة النص، وعليه تضيع الغاية من فعل القراءة. القراءة المستغورة للمقروء تستلزم تسلح القارئ بالعدة المعرفية والخلفيات الثقافية التي تستطيع استنطاق النص، وجعله أكثر فاعلية حتى يتحقق التفاعل القرائي المنشود. ولعل سياحة متأنية في وهاد المقروء توصل إلى الوقوف على مدى أهمية القراءة المتفاعلة البعيدة عن كل انفعال قد يجني على النص ويلات التأويل المجاني السطحي، ويحكم عليه بالموت. هذا النوع من القراءة يضيء العتمات المنسدلة على المقروء، بالكشف عما يحويه من خطابات ذات أبعاد جمالية وطروحات غاية في التأمل العميق، القراءة العميقة هي التي تستجيب لنداء النص برهافة الإنصات وحسيته المفرطة في الأناقة الغوصية للأعماق، وهذا الأمر كفيل ببذر الحياة في النص المقروء، وتحويله إلى كائن يتمتع بحصانة الاستمرارية و الديمومة، ويكون منفتحا على كافة التآويل الممكنة. إن وجود النص لا يتحقق بعيدا عن القراءة المدركة للشروط المحيطة به، سواء كانت اجتماعية أو سياسية، ثقافية أو فكرية، فهذا الغنى في تنوع الينابيع هو ما يحقق للمقروء فعاليته وجدواه. ولا عجب في كون نصوص دائمة الحضور لها من البهاء والتوهج ما بَصَمَهَا بِسِمَاتِ القابلية للتعدد القرائي نظرا لما تتميز به من ثراء، سواء على المستوى المباني أو على نطاق المعاني الحية والمتجددة مع كل قراءة، وهذا دليل على العمق الجمالي للمقروء.

٭ شاعر من المغرب


عن : القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى