رواية «أربع وعشرين ساعة من حياة امرأة» لاستيفان زفايغ: التجربة الحياتية في عين الآخر

هيفا نبي

ما الذي يمكن أن يحصده المرء بتمسكه بشغف ما وسيره الأعمى خلفه؟ سؤال صغير يحتمل أجوبة متعددة لكن هنا في «أربع وعشرين ساعة من حياة امرأة» لكاتبها النمساوي ستيفان زفايغ، للسؤال جواب وحيد .. الحياة.
تحكي الرواية، التي ترجمها للعربية الأسعد بن حسين، والتي صدرت عن دار مسكيلياني 2017، قصة المرأة الإنكليزية الستينية، التي قررت الاعتراف بالشغف الذي قسم حياتها إلى نصفين، فدارت بإصرار حول نقطة واحدة وهي (الحياة) التي تمنحها لنا دقائق من الشغف، أو بكلمات أخرى .. لحظات الحياة الحقيقية التي تمنحنا إياها الحياة الزائفة. لكن الشغف بحد ذاته ليس محور الرواية، بل أوجه الحكم على الآخرين أو نتائج تلقي أحكام الآخرين. ورغم العدد القليل لأبطال الرواية إلا أن المشاركة في إطلاق الحكم تضم إليها القريب والبعيد من الشخصيات، الحاضر والغائب منها. في قضية الحكم على الآخرين هناك جانبان أظهرهما الكاتب، هما الحكم على الآخر/الحكم على صورة الآخر.

مغامرة هنريت

في الحكم على مغامرة هنرييت التي تُفتتح بها الرواية، نلتمس حكم المجتمع غير الواعي على صورة المرأة «المحترمة». فهنرييت هي أم لطفلتين تفر مع شاب يصغرها بسنوات تاركة خلفها زوجاً وطفلتين واندهاشاً يكتسح وجوه كل من يعرفها. فالحكم هنا ينصب مباشرعلى صورة هنرييت التي رسمها المجتمع. لذا فهو حكم عام جداً رغم أنه موجه لسيدة بعينها. ما يدعم هذا القول هو أن لا أحد ممن أطلقوا حكمهم عليها، يعرف عن هنرييت سوى حضورها وسط عائلتها، لكن رغم تلك المعرفة السطحية، فإن الصراع على اتهامها يبلغ أوجه على الطاولة التي ضمت الغرباء المجتهدين في إطلاق الحكم.
القصة الثانية هي قصة امرأة أربعينية، دفعتها الأقدار لتكون منقذة لشاب مقدِم على الانتحار، لتقودها مغامرتها تلك نحو علاقة غير شرعية مع المقامر الغريب. في الحكم على الشاب المقامر ــ الذي يقامر بماله وحياته ــ نلاحظ نقيض الحكم على هنرييت، فهنا نجد حكماً على الإنسان بحد ذاته، لا على صورته، بل إنه حكم خاص وشفيع تشارك فيه بطلة الرواية إلى جانب الكاتب نفسه. وما إسراف الكاتب في وصف فردانية الشاب وحالته التي لا تشبه أية حالة أخرى، إلا وسيلة لجعل أي حكم عليه، حكماً قائماً على فرد. فالشاب هو مقامر بالصدفة والحكم الذي يتلقاه من السيدة الشاهدة عليه ليس حكما على الإنسان المقامر كصورة، بل على هذا الشاب دون غيره. تلك الفردانية والحالة الخاصة جداً يعززها الكاتب بالوصف المطول لكل ما يخص الشاب، بدءاً من وصف يده وحركاتها وهو يخسر رهانه في اللعبة، ومروراً بوصف شكله، براءته، عاطفته، تقاه، ورعه، مبادئه والسحر الطاغي له، حتى لنعتقد أن تلك الأوصاف التي تنقلها لنا السيدة الإنكليزية هي أوصاف مؤلهة لا يمكن أن تُشوه بأي حكمٍ من الأحكام.
بين هذين الشخصين هناك ثالث يستميت خلف حكم ما، إنها السيدة الانكليزية الهرمة التي تروي قصتها مع المقامر على مسمع شخص غريب بعد سنوات طويلة من الحادثة. ما يجعل تلك المغامرة حادثة فريدة في حياتها. فأمام براعة تملص الشاب من وعده للسيدة، رغم كل ما تفعله من أجله، يظهر الوجه الذي لا يمكن إدراكه لرغبات النفس في لحظات ضعفها. ولكن رغم تلك التجربة القاسية فإن كلام المرأة يظهر عيشها بشغف فريد دام يوما واحدا، وهو شغف أن تنطلق نحو رغبة دون الالتفات لحكم الآخرين. لا تنكر المرأة أن حياتها كانت سعيدة مع زوجها وأطفالها، حياة سيدة «محترمة». مع التشديد على كلمة المحترمة في المجتمع الأرستقراطي أو البورجوازي، أو حتى في أي مجتمع محافظ. الاحترام هنا في المغامرة التي ترويها السيدة يناقض الشغف، وبالتالي يناقض الحياة. إن هذه السيدة السعيدة ولدت للمرة الثانية حين التقت بعاطفتها خارج أسوار وحدود كلمة «المحترمة». إذ لا يمكن للشغف أن يظهر في عالم مسوّر بأحكام الآخرين، في عالم متماد في أحكامه المجانية .. «رحل طائعاً دون اي محاولة للتشبث بي، أو للبقاء إلى جانبي، لأنه استجاب بلطف واحترام لأول دعوة مني إلى الانصراف، بدل .. بدل أن يحاول جذبي إليه بعنف .. ولأنه يجلني فحسب، كقديسة ظهرت في طريقه، ولأنه .. لأنه لم يشعر بأنني امرأة». في تلك التجربة لم تكن المرأة الأربعينية تود الحب، بل تود استعادة أنوثتها. شغفها تركز عليها بدل أن يتركز على الحب نفسه. فانتقلت من حاجتها لحب الآخرين إلى حاجتها لحب ذاتها في عيون الآخرين.
هذان الموضوعان المرتبطان في الرواية لا ينجم عنهما إلا وجه من وجوه الألم، وهو (الخيبة)، التي تشكل العقدة الثالثة في الرواية. تلك الخيبة أيضا تولدت من منبعين، أولهما: صد عاطفتها من قبل الشاب الذي كانت مهووسة به. وثانيهما: وقوعها في لحظة الرفض بالذات تحت نظر المئات من الناس في صالة القمار، أي وقوعها تحت رحمة حكمهم عليها. في ذلك المشهد الذي يُنهي قضية العاطفة تلك وينبئنا أن السيدة عادت لكونها سيدة أربعينية و«محترمة» نعود بكل سلاسة للعقدة التي تم افتتاح الرواية بها: الحكم على الآخرين. هذه الخيبة التي ألحقت بها هي خيبة أن «تعتقد نفسك كل شيء وتكون لا شيء». أن تعتقد نفسك قديساً فتسلب حتى أسوأ الأدوار المرضية. في صالة القمار حيث انطفأت المرأة تحت جنون كلمات الشاب واتهاماته، هبطت المرأة من القداسة إلى العهر. فقد كانت تمثل بلا وعي أو معرفة دور المومس بالنسبة للمراقب الخارجي، تتعلق بكتف الشاب وتتلقى تعنيفه ــ الاتهامات الكلامية ورمي أوراقها المالية عليها ــ دون أن يكف الشاب عن استدعاء العيون المتشككة لكل من في صالة القمار عليها .. «هناك، كنت ذليلة ومكللة بالعار، وعرضة لذلك الفضول الهامس المغمغم مثل مومس مُنِحت مالاً. وكانت هناك مئتان، أو ثلاثمئة عين تتملاّني».

الخلاص

لكن لماذا لم تكتف المرأة بأحكام الناس المجانية لتطالب بعد سنوات طويلة بحكم جديد لا يدينها؟ لم تبحث عن الاعتراف، خاصة إذا عرفنا أن هدفها لا يتمثل في طلب العفو والصفح، بل في تلقي حكم غير جائرعلى مغامرتها القديمة؟ إن اعتراف السيدة هو نوع من الخلاص الذاتي، فهي تروي لا لكي تغفر لنفسها، بل لتتلقى حكماً لا يخالف جوهر تجربتها. فالشغف الذي عاشته السيدة كان بشكل أو بآخر انعتاقا مؤقتا من الأحكام التي يطلقها الناس على بعضهم البعض بكل الصور والحالات. وأرادت تكرار تلك التجربة الحرة من خلال قراءتها لماضي لا يحمل معه أية أحكام. ما يمارسه الكاتب بنفسه في كتابة روايته يشبه لحد بعيد الفكرة المفتاحية للرواية، فإذا كنا نصطدم في الكثير من الروايات التي نقرأها بالجملة التالية: ماذا أراد الكاتب أو ماذا قال؟ فإننا هنا بالذات لا نشعر بأن الكاتب أراد شيئا أو اهتم بطريقة أو أخرى بإجراء تحكيم، بل عرض الأشياء وتمسك بكل الأطراف التي يمكنها أن تقيد أو تفلت خيوط روايته .. كالمجتمع، القمار، العاطفة، الجنس، مبتعداً في كل لحظة عن كل حُكمٍ يمكن أن يقيد أبطاله أو يختزلهم بفكرته عنهم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى