أشاد بفاروق حسني وسوزان مبارك… ورفض دعم أحمد ناجي وبارك تناقضات جوائز الدولة

حمزة قناوي

تمهّلت طويلاً قبل أن أكتب عن حلمي النمنم، الوزير الذي تفاءل الكثيرون في مصر يوم استوزر، بأن يكون أفضل أداءً من سابقيه، اعتماداً على تاريخ صحافي راكم فيه رؤاه عن «مدنية مصر» وعلمانيتها، والشخصية المصرية الوسطية والحضارية في مواجهة التشدد الديني والجماعات الإسلامية.. باختصار، تفاءل الكثيرون بأن يحمل حقيبة الوزارة مثقفٌ فاعلٌ آتٍ من المؤسسة الصحافية المصرية العريقة، ومن دار الهلال العريقة تحديداً، غير أن ما فعله النمنم كان هو العكس تماماً، حيث قضى تاريخه الوظيفي في الوزارة على تاريخه الصحافي الثقافي، بعدما طوَّع ما لا يمكن تطويعه من مواقف (كقضية تيران وصنافير) لصالح رؤية وتوجيهات الحكومة، ونعرف جميعنا مآل هذه القضية التي حسمت لصالح مصر/ الشعب والناس، لا النمنم ووزارته، التي وقفت بوجه الرأي العام المصري وتطوّعت بطباعة كتيب يثبت أن الجزيرتين غير مصريتين. لا نعرف أين هذا الكتيب الآن، وإلى أي مرجعيات جغرافية موثقة استند وهو يفكر في إصدار هذا الكتيب.
تمهّلت في الكتابة عن النمنم لأنني أعرف أن هناك اتجاهاً سائداً يروج غالباً بالهجوم على مسؤولي الثقافة، وخاصةً عند تعيين شاعر أو كاتب وزيرا، ولم أرد أن أكون من بين المهاجمين من أجل الهجوم في حد ذاته، بل إنني كلما وجدت ممسكاً يستحق الانتقاد على النمنم، عدت أقرأ مقالاته التنويرية التي ينادي فيها بشخصية مصر ومجتمعها المدني وتاريخها الحديث وطه حسين، وأكبرت فيه المثقف التنويري ودوره التوعوي الذي لا يخطئه أحد، غير إن الأداء الذي قام به النمنم عبر سنة وزارته عكس ضعفاً غريباً في إدراك أهمية وقيمة المنصب الذي تولاّه، والذي كان يمكن من خلاله ترك بصمة للتاريخ عبر موقفٍ منحازٍ لرأي أو فكرةٍ لا تسير في ركاب السلطة، وهو ما لم يفعله أبداً.. والجلي في كل هذا أن دافعه الوحيد لذلك كان هو الاستمرار في المنصب.
حلمي النمنم المدافع عن مدنية الدولة المصرية لم تكن أولى أخطائه نشر (رسائل الجهاد) لحسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان، على موقع الهيئة المصرية للكتاب، قبل أن يتراجع ويعتذر ويحاسب من قام بذلك، إنما بدأت هذه الأخطاء قبل ذلك بكثير، عندما رفض الدفاع عن الكاتب المصري أحمد ناجي الذي سُجِن بسبب روايته «استخدام الحياة»، قائلاً «إن للحرية حدوداً.. ولا يمكننا الدفاع عن الانحراف»، وهو كلام عام يُمكن مناقشته في مستوىً تالٍ من مستويات هذه القضية بعد معالجة جوهرها الأساسي وهو «حبس كاتب بسبب عمل إبداعي»، عوضاً عن أنه مستوىً من الرأي لا يليق بكاتب يتعامل مع النصوص بمستوى من الوعي النقدي، أو هكذا يُفتَرَض، حين يقول إن عملاً إبداعياً ما يدعو إلى الانحراف، لم يتدخل النمنم وتذرَّع بدعوى الحفاظ على الأخلاق وعلى المجتمع «المحافظ»، مصادراً الحق في حرية الإبداع والكتابة، على أن «يُغربل» التاريخ ما يستحق التلقي والمقروئية، وما لن تعترف به أدبياته من أعمالٍ ضعيفة فنياً.. وكانت هذه هي الرؤية التي يفترض بكاتب تقدُّمي حر كالنمنم أن يفكر بمنهجيتها، لا أن يخلط معايير الأخلاق بالإبداع الأدبي دريئةً للهروب من المواجهة.
وإذا تأمّلنا فكرة أن النمنم نفسه قادمٌ من الحقبة التي كان يتولى حقيبة الثقافة في مصر بها فاروق حسني، وهو أحد أسوأ من تولوا هذه الحقيبة في تاريخ مصر إدارةً لها، وأكثر من رسّخوا لسياسات شكلية حصرت الثقافة على نخبة مقربة من أهل الثقة والولاء، لا كفاءة العمل الجماهيري النافع للناس، وقد سمّى وزارة الثقافة بالـ»حظيرة»، مفتخراً بأنه أدخل الكثير من المثقفين إليها بالمنح والامتيازات، فلا نستغرب أن يشيد حلمي النمنم به قائلاً إن فاروق حسني «من أكثر الوزراء الذين أثروا الثقافة المصرية»، وسوزان مبارك لا تُنكر جهودها في الإنجازات الثقافية لمصر. وهو بالمناسبة تصريح غير خارج عن سياق رؤيته لهذه المرحلة من تاريخ مصر، مصر ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني. لقد كان النمنم يعمل في إدارة الترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، ومن بين من يختارون الكتب التي يترجمها المجلس أثناء تولي فاروق حسني الوزارة، وقد جاء منتدباً من دار الهلال، ومنذ ذلك الحين عُدّ ابناً مخلصاً للمؤسسة الثقافية الرسمية ومتبنياً لخطابها، وإن كان ذلك لا ينفي قدراته ككاتب وباحث.
في فترة رئاسة النمنم للوزارة رأينا شواهد بالجملة ترصد التناقض الذي يعيشه الرجل بين شخصيتيْ المفكر والموظف، حينما كان ينادي قبل الوزارة بضرورة «تجديد الخطاب الديني» والفقهي ليتناسب مع العصر الحديث ومتطلباته، قبل أن يتغافل عن كل هذا وهو يرى بعض المثقفين المصريين الذين طالتهم تهمة «ازدراء الأديان» وتعرضوا للسجن، فلا يعاود فتح الأمر مجدداً.. ولو بالإشارة.
النمنم نفسه الذي اخترع مصطلح «العدالة الثقافية» وأنه يعتبر هذه الفكرة أولوية ثقافية لوزارته التي ستسعى إلى أن تصل أعمال وزارة الثقافة من الإسكندرية شمالاً إلى حلايب وشلاتين، ويشعر بها المواطن العادي، لم تتجاوز فكرته العنوان الذي لم يرَ الغبن الثقافي الواقع على مساحات كبيرة من مصر الفقيرة في الجنوب، (الفقيرة من حيث الإمكانيات لا البشر وقدراتهم)، فلا قصور ثقافة مجهزة ولا ميزانيات كبيرة مرصودة للفعل الثقافي في صعيد مصر، ولا اهتمام بمشروع حقيقي للنشر في الأقاليم، ولا رعاية للمبدعين بسيطي الحال، ولم تفلح «القوافل الثقافية» التي أرسلها إلى هذه المحافظات البعيدة عن مركزية العاصمة في تعديل الوضع الذي يحتاج إلى تغييرات جوهرية وجذرية في آلية تعامل الوزارة مع مشكلة توزيع العمل الثقافي في مصر بين المركز والأطراف، إنما كل ما يهتم به الوزير هو المهرجانات المركزية في القاهرة والأوبرا، (ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي) حيث الأضواء والقنوات التلفزيونية والبهرجة والفخامة، والمشاركات الخارجية التي كان بعضها «فضيحة دولية» لمصر بكل ما تمثله الكلمة، مثل معرض الحرف التراثية في الصين الذي شاركت فيه مصر بـ»مستنسخات أثرية» من عشر قطع. مصر التي لديها ثلث آثار العالم تشارك بقطع غير أصلية في معرض أقيم خصيصاً لهذه المناسبة، وكانت النتيجة أن عزف زوّار المعرض عن الجناح المصري.. والغريب أن مسؤولة صندوق التنمية الثقافية نيفين الكيلاني ظلت بعيدةً عن المساءلة بعد هذا الأداء الهزيل غير اللائق باسم مصر. وليست نيفين الكيلاني هي مسؤولة الوزارة الوحيدة التي كانت عُرضةً للانتقاد بسبب أدائها، إنما هناك أيضاً سيد خطَّاب الذي أعاده حلمي النمنم رئيساً لهيئة قصور الثقافة، بعدما أحاله الوزير السابق، جابر عصفور إلى نيابة الأموال العامة للتحقيق في مخالفات جسيمة وشبهات فساد وتربُّح وإضرار بالمال العالم في الجهة التي يعمل فيها، وأقاله من رئاسة هيئة قصور الثقافة.. فلماذا أعاده النمنم إلى منصبه بعدما وضعه جابر عصفور أمام القضاء؟
منذ جاء حلمي النمنم إلى الوزارة ذكر أن أولوياته هي «محاربة الإرهاب بالثقافة، وتجديد الخطاب الديني والثقافي، وتحقيق التنمية الثقافية (خلال شهرين)»، وكلها عناوين نبيلة وأفكار تستحق التقدير، ولكن أي متابعٍ للمشهد الثقافي على الساحة المصرية، يجد أن شيئاً من كل هذه الأولويات لم يتحقق بعد (عامٍ من تولي الوزير)، خاصةً تجديد الخطاب الديني والتنمية الثقافية.
وقد اتخذ الوزير بضع دروعٍ يحتمي بها باستمرار باعتبارها دريئةً تقيه من أي هجومٍ محتمل ضده وضد سياساته، أولاها قوله «إن الإخوان المسلمين هم من ينتقدونني باستمرار». وهذا بالطبع يضع أي مصري وطني له رؤية وموقف من سياسات الوزير في مرمى المعسكر المعادي للدولة وينسبه للإخوان فقط، وبالتالي يصبح الوزير منزهاً فوق النقد المتجرِّد من الهوى، تماماً كقوله إن هناك مثقفين «ضد وجود الدولة»، وهذه أيضاً مقولة غير بريئة تماماً لأنها تضع أي مثقف ينتقد الوزارة باعتبارها جزءاً من النظام في معسكر رفض الدولة وتفكيك النظام، وهو كلام يتناقض مع الموضوعية أو الاحتكام للنزاهة في النقد، قبل أن يُكمل النمنم أعجوباته بتوصيته للمجلس الأعلى للثقافة بألا يحصل على جوائز الدولة (من يناصب الدولة العداء).. وهذه العبارة الفضفاضة القابلة للتأويل والتي تخصخص جوائز الدولة في مصر وفق رؤية الوزير وموقفه ممن يتقدَّم للجوائز، تجعله وصيَّاً بكل معاني الكلمة على جوائز تحمل اسم مصر وتحتكرها وزارته وفق رضاها عنه وعن فكرهِ.. ضاربةً عرض الحائط بالمعايير التقييمية المُرجِّحة للعمل المُرشّح للجائزة، وإن كان يستحقها أم لا، ولا كأن هناك نقاداً وأساتذة جامعيين وكُتَّاباً في لجان الحكم على الأعمال، يضعون تقاريرهم ويُحكِّمون أدواتهم ويعلنون حيثياتٍ للفوز.. هذا القرار السياسي يلغي مبدأ نزاهة التقييم ويُكرِّس مرةً أخرى للمبدأ الذي ساد في عهد (أو عهود) فاروق حسني في إدارة الثقافة، بأن يحصل المقربون من الدولة على جوائزها، وكان يتدخل هو شخصياً- فاروق حسني- بتوصيات جابر عصفور طبعاً ليمنح ويمنع. وما رأيناه مؤخراً في موسم منح جوائز الدولة لأسماء أثار فوزها الجدل والغضب في الوسط الثقافي المصري، ليس إلا بعض انعكاسٍ لذلك، ولن أضرب مثلاً سوى بسلمى فايد عضو لجنة الشعر التي حصلت على جائزة الدولة التشجيعية لهذا العام، والتي لا يعرفها أحد ولم يُسمع لها بمنجزٍ من قبل، حتى لو كان الذيوع ليس معياراً للقيمة، ولكن أين على الأقل حضورها الفاعل في المشهد الثقافي نشراً ومشاركاتٍ ومواكباتٍ نقدية لما تكتب؟ وحتى لو كان هذا متحققاً (ولا أحسبه كذلك، وهذا رأيي الشخصي على الأقل) هل يحق لعضو بلجنة الشعر- يمنح توصيات تحكيمية في جوائز المجلس- أن يحصل على جائزة لجنته؟ الحديث عن جوائز الدولة يحتاج إلى مقال وحده، ولكن لا يمكن تمرير الأمر دون إشارة في سياق أداء الوزير.
لا أحسب أن الأخطاء التي وَقَع فيها حلمي النمنم خلال فترة توليه الوزارة قليلة، ولكني لا أستطيع تحميله أيضاً كل هذه الأخطاء في الوزارة، التي من المعروف عنها أنها لم تستقم لها سياسة بنَّاءَة وفاعِلة منذ أكثر من أربعة عقود، وهو كان «وزيراً عادياً» وليس «وزيراً فوق العادة»، أو أحد عناصر «الكتلة الحرجة» القادرة على خلخلة كل هذه الأخطاء وأن يأخذ موقفاً مختلفاً ممن سبقه من الوزراء، يعيد ترتيب مواقف المثقف من السلطة ومواقع الكُتَّاب من المؤسسات وعلاقة المفكرين بالنظام.. وهو ما لم يفكر أن يخطو تجاهه خطوة واحدةً- ولو خطأ- ليدخل التاريخ من باب المفكر المختلف لا الكاتب المستوزر.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى