الإفلاس والتكرار والتوظيف السياسي أفقدت ‘باب الحارة’ بريقه

ناهد خزام

انتقادات كثيرة طالت المسلسل السوري الشهير “باب الحارة”، خاصة في ما يتعلق بأجزائه الأخيرة ومنها الجزء التاسع الذي عرض في رمضان المنقضي، فهناك من يرى أنه قد استنفد طاقته الفنية وما عاد يأتي بالجديد وغرق في دائرة التكرار، كما أن تحميله برسائل سياسية قد ساهم في إضعافه.

ويرى المدافعون عن المسلسل أن مجرد استمراره وتقبله جماهيريا مؤشر على نجاحه وتميزه رغم كل هذه الانتقادات التي طالته، ورغم كم الجدل المثار حوله، وتسربت أخيرا بعض الأخبار حول الاستعدادات لإنتاج الجزء العاشر من المسلسل.

بداية علينا التفريق بين الانتشار الجماهيري والقيمة الفنية لأي عمل فني، فهما سمتان ليستا متلازمتين بالضرورة، وهناك العديد من النماذج والشواهد في مجال السينما والدراما العربية تثبت ذلك، فما هي الأسباب وراء هذه الاستمرارية التي حظي بها مسلسل “باب الحارة”؟ وما سر ارتباط المشاهد العربي بعمل يجتر نجاحات أجزائه السابقة على هذا النحو؟ لعل أول هذه الأسباب وأهمها يكمن في طبيعة المسلسل كأحد أعمال البيئة الشامية التي تلقى رواجا لدى الجمهور السوري ويتقبلها الجمهور العربي بصدر رحب، ويجد فيها الجميع إشباعا لمشاعر “نُستالجية” كامنة تتوق إلى كل ما هو قديم.

وتدور أحداث المسلسل خلال النصف الأول من القرن العشرين، تحديدا في العشرينات والثلاثينات، وفي أجواء شعبية تتميز بالدفء والعلاقات العائلية الحميمة، ومشحونة كذلك بالكثير من أسباب الصراع الدرامي. الحارة الشامية هنا تمثل رمزا لقيم الترابط الأسري والعائلي والعادات والتقاليد العربية الأصيلة، فالمشاهد العربي يتوق إلى هذه القيم التي يرى البعض أنها قد غابت وتراجعت أمام سطوة الاستهلاك والعادات المستجلبة والعلاقات الاجتماعية التي تغلب عليها الهشاشة في مجتمعاتنا العربية المعاصرة.

ويميل المشاهد العربي إلى استحضار هذا الماضي، ويداعب فيه المسلسل هذه الرغبة ويقدم له توليفة نموذجية بإنتاج سخي من هذه الملامح الماضوية التي يحن إليها، توليفة تنطوي على الكثير من الإسقاطات على حاضرنا الشائك والمتشعب، ولكن المفارقة هنا أن هذا الإسقاط على الحاضر الذي تبناه المسلسل منذ البداية وكان أحد نقاط جذبه خلال الأجزاء الأولى منه تحول إلى نقمة عليه عبر أجزائه الأخيرة التي لامست بفجاجة غاشمة وغير محسوبة ما يدور على الساحة العربية اليوم من أحداث.

الانتشار الجماهيري والقيمة الفنية لأي عمل فني كحال “باب الحارة” بجميع أجزائه، سمتان ليستا متلازمتين بالضرورة
أما السبب الآخر فيرجع إلى ما يمكن أن نسميه الذكاء الإخراجي الذي حافظ على قدر لا بأس به من الإثارة بين أجزاء المسلسل المختلفة، مع توظيف جيد لخواتيم الحلقات، ما دفع المشاهد إلى الارتباط بهذا السياق الدرامي في انتظار ما ستسفر عنه الأحداث اللاحقة، وهي وتيرة حافظ عليها المخرج بسام الملا خلال الأجزاء الأولى التي تولى خلالها مهمة إخراج المسلسل.

وبعيدا عن مداعبة مشاعر الجمهور يمكن التمييز بين مرحلتين فنيتين من مراحل مسلسل “باب الحارة” تنتهي الأولى منهما بانتهاء الجزء الخامس منه، والذي عرض في 2010، لتعقبها فترة انقطاع دامت حوالي أربع سنوات، أما المرحلة الأخرى فتبدأ بعودة المسلسل من جديد في عام 2014 في جزئه السادس.

عاد المسلسل خلال هذه المرحلة بعد عاصفة من الأحداث، تبدلت خلالها الكثير من الأمور والثوابت، وجرت مياه أخرى في سياق الواقع السياسي والاجتماعي العربي اجتاحت المنطقة بأسرها، ليُتهم المسلسل بمحاباة النظام السوري وبث رسائل سياسية تصب في صالح هذا النظام، وتعمّد القائمين عليه إقحام شخصيات ليست لها علاقة بالسياق العام للمسلسل، لا لشيء سوى محاولة تفسير ما يحدث الآن على الساحة السورية بتبني وجهة نظر النظام ورؤية الموالين له لما آلت إليه الأمور في سوريا والمنطقة العربية.

والمتابع للمسلسل يمكنه أن يلتقط بقليل من الجهد هذه الرسائل السياسية التي تم إقحامها بفجاجة وسطحية ممزوجة بحالة وعظية ساهمت بلا شك في الحط من قيمة العمل فنيا على الأقل، غير أن الأمر الأبرز قد تمثل في اجترار المسلسل لنجاحات المرحلة السابقة، في تكرار واضح للأحداث، بل أيضا للحوارات بين الشخصيات.

أما عن الأخطاء الأخرى التي كانت مثارا للعديد من الانتقادات، فقد تمثلت في تغير أدوار ممثلين خلال الأجزاء، وظهور آخرين بعد إعلان وفاتهم أو مقتلهم في أدوار أخرى، كظهور الفنان عبدالهادي الصباغ على سبيل المثال في الجزء الثامن من المسلسل رغم تأديته لدور شيخ ضرير في الجزء السادس، كما كانت هناك العديد من الملاحظات حول التسلسل التاريخي لبعض الوقائع التاريخية المعاصرة لأحداث المسلسل.

وفي ما يتعلق بتبديل الشخصيات أو اختفائها ثم ظهورها مرة أخرى فهو أمر ليس من الجسامة إلى الحد الذي اعتبره البعض سقطة كارثية للعمل، فهو سلوك يمكن تقبله في عمل متعدد الأجزاء كهذا المسلسل، إذ نحن أمام حالة تمثيلية تعالج الواقع ولا تحاكيه، ويتوقف الأمر على التوظيف الجيد لدور الممثل وقدرته على القيام بهذا الدور، ولكن السقطة الكارثية تكمن هنا في الإفلاس والتكرار والتوظيف السياسي للعمل، وكذلك عدم الرغبة في الاعتراف بأن المسلسل قد انتهى فنيا واستنفد طاقته بانتهاء الجزء الخامس منه، أما ما تلاه من أجزاء فليس سوى صورة غائمة ومشوشة لما سبق.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى