العناصر الدرامية في مجموعة «صانع الأحذية» لفاروق الحبالي
كمال القاضي
أن تكتب قصة لها بداية ونهاية ووسط من تفاصيل متناهية الصغر، فهذه قدرة فائقة وتجل للموهبة في أوضح صورها الإبداعية، لأن الكتابة تعتمد في الأصل على زخم التفاصيل والأحداث وليس من تفسير للاقتصاد في العبارة على هذا النحو والاختزال المبهر للمعاني، غير الموهبة التي وهب الله إياها للقاص، الذي اختار من بين أشكال الإبداع أصعبها فبرع في نسج القصة القصيرة من أدق المواقف.
الحديث هنا ليس مطلقاً، ولكنه يختص بالمجموعة القصصية «صانع الأحذية « للكاتب والقاص فاروق الحبالي، ذلك الذي هيأ لنا فرصة اكتشاف عوالم مغايرة ومختلفة عن السائد والمألوف في طرز القصة القصيرة الحديثة والمعاصرة. الكتابة عنده ابتكار جديد ومزاوجة في الشكل والمعنى ما بين الشعبي الدارج والنخبوي المطعم باصطلاحات القاموس العربي بكل دلالاتها.
هو في تكوينه القصصي ينحو نحو التراجيديا ويميل إلى الإيمان بالمصادفة والحظ، كقدر محتوم على البشر. فمن قدر له أن يكون سعيداً كان سعيداً ليس لحسن تدبيره أو اجتهاده، ولكن لوعد رباني وحكمة يعلمها المولى عز وجل وحده. ومن جاء قدرة تعيساً كما هو حال معظم الأبطال، ظلت حياته مرتبكة وغير مستقرة. يقطع الكاتب بذلك قطعاً يقينياً ليس لتمرد منه ولا لكونه متشائماً، وإنما لأنه يعتقد بأن الإنسان مسير في معظم اختياراته، وعلى هذه القاعدة يبني غالبية تصوراته عن الحياة والمصير والبشر والأحلام والتطلعات والاجتهادات، فهو قدري تماماً، لذا فإنك تندهش من تعاطفه مع الأبطال، وربما تختلف معه وترى أن الصواب قد جانبه في كثير من التقديرات.
في قصته الأولى والمعنونة بها مجموعته القصصية «صانع الأحذية» نرى البطل وحيداً يقضي ساعات طويلة في غرفته، يغدو في صمت ويرحل في صمت، يكره الحارة وأهلها وينقم على نفسه، كلما نظر إلى المرآة، لأن شيئاً في ملامحه لا يعجبه، أنفه الطويل أكثر مما ينبغي، أو تلك البثور المنتشرة في وجهه، التي تجعله أقل ثقة في نفسه، فضلاً عن أن حرفته كصانع أحذية لا ترضية فهي الأقل شأناً وسر شقائه في الحياة.
تداعيات كثيرة تشكل أزمته النفسية وتغشي بصرة وبصيرته وتعميه عن إدراك ما حباه الله به من مزايا ونعم لا يراها في ظل تركيزه على المثالب. هو بطل استثنائي يشقى بطموحه وانفصاله عن واقعه كصانع أحذية بسيط لم ينل قسطاً وفيراً من التعليم، وإن كان يتمتع بفطرة سليمة وعقل راجح وقدرة فائقة على الفرز وإصدار الأحكام على الأشياء.
بهذا يستهل فاروق الحبالي قصصه، كأنه يؤكد على خطيئة إغفال جمهور الناس لطبيعة الإنسان واهتمامهم فقط بمنصبة وكينونته الوظيفية، دون اعتبار لما يمكن أن تطويه سريرته وثقافته، إذ يعلن من خلال شخصية البطل رفضه ومقته لجهل من يرون الشخص بعين واحدة، ولم يكتف بهذا القدر، ولكنه يتمادى في لغته القصصية وخطابه الأدبي موغلاً في تفاصيل أخرى عن زيف الواقع وهشاشة ثقافته المرائية المراوغة الدالة على نقصان في الوعي وعمق في الجهالة.
وما إن تنتهي من قراءة القصة الأولى «صانع الأحذية» وتخرج مشحوناً بانفعالات الغضب والاحتجاج والرفض لعالم مادي جاف، حتى تواجهك القصة الثانية «أشجان» فتحسب أنها جزء آخر ووصلة عزف لسيمفونية الحزن، إلى أن تبدأ القراءة فتشعر بنسائم الرومانسية في سطور تحكي عن حب مأمول وغرام افتراضي مع حبيبة تلطف وجه الحياة وتخفف من وطأة اليأس، ولكن سرعان ما تكتشف أنك أمام سراب وحقيقة موجعة، مفادها أن الفقر والجوع والمرض تبدد ملامح الجمال في كل المواطن، حتى وجه المرأة الصبوح، فلا أمان يشعر به المحب الشقي وسط هموم نهاره المليء بالمنغصات وتفاصيل الذهاب والإياب من وإلى، في مشواره اللانهائي بحثاً عن لقمة العيش.. ونلحظ هنا الإلماح إلى شقاء السواد الأعظم من أولئك الذين يعيشون في وهم الحب والرومانسية، وحسب هذه الرؤية ووفق سياق أدبي وقصصي محكم، يأخذ الحبالي في سرد ما يؤرقه من مظاهر الحياة البائسة، فيصف الشوارع والطرقات والمارة والعابرين والأبنية وصفحة النيل المعكرة بصفرة الماء ورواسب النفايات، وأشياء أخرى يزدحم بها رأسه منها ما يصرح به ومنها ما توحي به السطور دون ذكر، حيث امتلاء السماء بالسحب ينذر قطعاً بسقوط المطر، أو اكفهرار الوجوه يشي بالغضب وفساد المزاج العام، وهي إشارات تحدد بلاغة الصورة القصصية وتعطي انطباعاً عن قدرة الكاتب ومستويات أفقه الإبداعي، وكلها معطيات تؤدي إلى براهين على أن الكتابة فعلاً معضلاً لا بد له من موهبة تسهله وتبلوره، وتأخذ بناصية صاحبها فيصيب كبد إبداعه، وتتجلى آيات نصه فيولد مكتمل النمو بغير نقصان أو ابتسار.. تماماً كصانع الأحذية.
(القدس العربي)