هنا كريت … منارات وقلاع وأشرعة تلوح في الأفق الأزرق

هاشم شفيق

حلم كريت ظل يراودني فترة طويلة، منذ إقامتي في ثمانينات القرن المنصرم في نيقوسيا القبرصية، ذات اللسان الإغريقي. كريت الشاطئ المعجون بطحين الزمرد وشظايا الفيروز، كلما تذكرته يحضر فوراً نيكوس كازنتزاكس وبطله زوربا، جائلَين في ذاكرتي وواقفَين قريباً من الشغاف.
قبل شهور وبعد لأي زرتها، كي أتقصَّى ملامح زوربا في الحجر وأقتفي آثار كازنتزاكس على الصخور العملاقة، خاضعاً في جولتي للمصادفات والمفاجآت التي سأراها في هذا المكان الاستثنائي. كانت الصخور في كريت مغسولة بالشمس، والأفق معطراً برائحة الأزهار، ثمة طلل مقدوني يواجهني وأنا أنفق الخطوات في الجهة التي عُرِفَتْ بـ «هيراكليون» أي أني متموضع في أرض هرقل، حيث الطلل المرمري المائل إلى السكري، تداعبه الأمواج، وترشقه بين لحظة وأخرى، بتيارها الكحلي، هذا التيّار المُستخلِص رغوةً بيضاء، ذات طعم ملحيٍّ مُبهج، فيه شيء من زيت الأسماك، وعالمها الفضيِّ السابح بين حقول المرجان وغابات الإسفنج، إذ أضحى يمس مساحات من ملابسي الخفيفة، ويلمس بشرتي وشَعرَ سمتي.
أكاد ألمس المرجان، وغصونه الماسية الملتفَّة على كومة من الصدفيَّات السارحة في القاع الشفّاف، المتماهي مع رقَّة للحصى والرمال الذهبية التي تشبه حبات السكر المُستنزح من ملاسة القصب.
كريت المطلة جنوبًا على بحر إيجه، حيث الرذاذ اللزج بدأ يداعب حاجبيَّ، ثمة همس يأتي من الآخيِّين والطرواديِّين، ليؤالف بين هذه المَشاهد النيلية، كأنَّ أفراساً هوميرية، تقفز من الإلياذة، لتعبر هذه الصخور الجانحة إلى النعيم، حيث ضياء أوبولو يملأ الأرجاء، كأن كروم دينوزوس صانع المِتع الأرضية، تتدلى وتقطر فوق الصخور لتلوِّنها بالأحمر القاني، هنا فوق تربة زيتية تلمع بالزيتون الذي يضيء حاضر اليونان.
إنه حاضر متسق مع السموّ والكمال والسلاسة، أفق يترنَّح في العسل، حانياً على شجيرات سرو كريمة وشامخة، مع صنوبر زاهد، منتقع بظلاله، ومنكفئ على بساط من نسيج إبَره الصنوبريّة، هذه الإبر التي تَخِزُ الأفق، ليحمرَّ قليلاً، وتنتفخ أوداجه، مثل ناسك بيزنطيّ.
مساءً أجولُ في «هيراكليون» صحبة رفيقتي في السفر، صديقة الأسفار هذه أحياناً لا أستطيع السفر من دونها، معها يكتمل المشوار، لكن في باريس حين أكون هناك، في الغالب أودّ السفر من دون رفيق، الرفيق في باريس يُفسد الرحلة، فباريس تغار من أيّة امرأة غيرها، ولا تحتمل أن تصاحب عليها، فهي كافية عليك، تُدلك من دون دليل، تأخذ بلبابِك وتقشِّره وتعطيه إليك، لتتمتَّع بسرِّ تكوينها وطعمها الفردوسي، لكنْ هنا وأنا بين الصخور الحنونة والأمواج المسالمة، والتيارات التي تشبه الأراجيح الفضية، فأني أشارك رفيقة السفر، هذا الطيران في الأراجيح المجدولة من الرذاذ والفضة.
نُصعِّد ونحن نقترب من أصغر موجة تُقبِّل الكورنيش، نُصعِّد باتجاه الأعلى، حيث المدينة تبدأ بإرسال إشاراتها من أضواء الحوانيت والمقاهي والشرفات العالية، ونحن في الأسافل قرب صبايا الموج اللاهيات، نراقب أشكال المراسي، وحبال السفائن، ودلع الزوارق الصغيرة المربوطة بموجة.
نُصعِّد إذاً باتجاه المجرّات، وهي تطحن النور في الأعالي، حتى نصل إلى ساحة بهيجة تتوزعها المقاهي والمقاصف والمطاعم الخفيفة. في وسط الساحة نافورة من رياش وشجرة توت كبيرة، تتجمهر فيها العصافير لتصنع تلك الجمهورية التي تبث الاضطراب المتواتر، من السقسقات التي لا تتوقف وسط المدينة الملمومة، والمختصرة على شكل نسمات وأشجار ومصاطب حجرية.
نتوقف عند مقهىً تُجَمِّله طاولة خشبية، وأريكة يتمدَّد عليها بساط شرقي، ووسائد من حنان ليِّنة ومريحة. حين نجلس نتكئ على هذا الحنان الليِّن، ونسرح لنتابع مسامراتنا حول شؤون العالم، حتى نصل إلى شأننا الخاص، حتى نصل إلى هذا المرتفع من المدينة في هيراكليون، متتبعين حركة الناس، متلصِّصين على مسار خطواتهم، كيف تسير وإلى أين ستمضي، وكيف ستنتهي ليلة هذه الخطى؟ في مرقص ومطعم، أم في حان ليلي، يشرف على البحر؟ وما أكثرها هناك الحانات الليلية التي يغسلها في الظلام موج كريت المرتغي والفوار كشلال من ضياء.
نخرج من محل إقامتنا المرهف والذي تؤنسه وتهدهده مويجات بحر إيجة، هذا البحر الآتي من مرمريس التركية وطرنج الجزيرة الصغيرة العالقة على كتف جبل مرمري، يدفع بالتيارات تجاه فنارات كريت والسواحل اليونانية.
في الجانب الأيمن من حيث نقيم ثمة ضاحية هيروكسونيسوس، حفظنا اسمها سريعاً كون حروفها قريبة من كلمة «بطل» بالإنكليزية واسم الشاعر اليوناني الفذ يانيس ريتسوس. موقف الحافلة التي ستقلنا إليها قريب من النزل الذي حللنا فيه. الموقف مظلل بشجيرات الدفلى، والطريق تلتف عليه شجرات البرتقال والنارنج والزيتون والليمون المتساقط من الأفنان اللماعة، يبهرني الشارع القروي المزدان بمراوح القصب الطويلة التي تتمايل في الريح الخفيفة. كل شيء هنا هادئ ومريح وساكن، لا ضوضاء في القرى الإغريقية، سوى القطط التي تداعب الحشائش والشبابيك الخشبية الزرقاء، المنتسبة إلى روح الشرق القديم، وإلى الطابع التركي المضوَّأ بالشرفات البحرية، ذات الروائح الخشبية التي تشبه رائحة الصندل.
نصل إلى هيروكسونيسوس، التي لم تكن تبعد سوى أربعين دقيقة عن مكاننا. المدينة ذات طابع بحري، وفيها لمسة من الحداثة تقريباً، بنوك ومخازن حديثة، ودوائر دولة، ومقاه مدنية، أنا بطبيعتي لست ميّالاً إلى هذه الطرز المعمارية المتشابهة في كل مركز أوروبي، وفي لندن منها الكثير، وحين حاولت العدول عنها والاكتفاء بمشاهدتها السريعة، بغتة انفتح أمامي طريق بحري في هيئة الصعود، وحركة راجلة لزائرين ورواد يصعدون نحو الأعالي، دلفنا إليه، ومشينا فيه قليلاً حتى تكشّف عن واقع آخر، واقع مبهر لمكان يوناني خبيء بين موجتين، تسطع فيه دكاكين صغيرة لبيع المشغولات اليدوية، ذات التاريخ الإغريقي، تماثيل صغيرة من الجبس والصلصال تجسد الآلهات التي لا تعد في الأسطورة اليونانية، جمال أخاذ يكمن في هذا التاريخ، تاريخ تدعمه لحية سقراط وأفلاطون، والجدل البيزَنطي للتلامذة المنغمسين بأفكار هيراقليدس وديموكراطيس وأبقراط وإشارات آلهة الأولمب، وبخاصة أوبولو الذي بدأ يرسل ذبذباته، وتهويماته، وسحر خياله إلى هذا المكان، حيث أقطعه ورفيقة السفر التي ظلت مندهشة، لجمال المقاهي البحرية التي تفنّن اليونانيون في زخرفتها، وتشكيلها، وبلورتها، كما يليق بتاريخ جبار، حافل بالرؤى واليوتوبيات، إنها مقاه ساحلية، منغمسة كلياً بتعاليم البحر، وما يجود به عليها من لقى تداعب حافات المقاهي الخشبية، المُملحة، والمغشية بزيت المحار والأصداف الملونة. يكاد المرء ينعس بين هذه المواقع الأنيسة، ويغفو وهو سائر في المكان، تحركه الرؤيا الشاعرية للإله دينوزوس، أما أديسوس فهو قريب من هنا، وربما قد مرَّ بهذه الصخور العملاقة، وهو يطوف بمركبه المدعوم من الآلهة، بينما بينلوب بانتظاره، هي وأبرتها والخيط الموصول بالأبدية.
نتخيَّر مقهى ناعماً، هاجعاً في النعيم، رفيقتي أحبَّته، التقطت لنا صورة سيلفي، أنا البعيد أشد البعد عن التقنيات الجديدة التي أفسدتْ جماليات العالم، ونكَّلتْ بالبراءة، والخيال، والروح الرومانتيكية.
كل مقهى هنا ينافس الآخر، كل موطئ يقول أنا الأجمل والأحلى فلتمكث عندي، سأريك السحر من على مقربة من هذا المكان.
فنارات وقلاع وقلوع تلوح في الأفق، وتمسح بأضوائها شرفات المقاهي المبللة بالزَّبَد، لتضيء المكان أكثر، وتمنح بُعَيْد ذلك النبل والجلال والمعنى الوجودي لمن يكون فيه ويراه.
كل لحظة وأنا هناك أتحسس وجودي، وأنظر إلى السواحل لعلي أجد زوربا، يذرع السواحل، لكي يؤدي رقصته الأثيرية الأخيرة، أو لعلِّي أعثر على سيزيف، وهو دائر بين الصخور، يجمعها وينسِّقها ومن ثم يحملها بين هذا الجبل وذاك، بين ساحل وآخر، لا ينوء بثقلها فهو قد اعتاد الولوغ في الصبر واخترقه، ليتركه مثل قشر من البطيخ الأحمر المنتشر بكثرة في كريت، البلد الساخن يحتاج إلى أكثر من سيزيف، كي يحمل عناء البلاد، ويحتاج كذلك إلى» الكربوزي» واللب الأحمر، اليانع الذي تحمله هذه الثمرة الكبيرة والأسطورية.
في جزيرة كريت، تكبر الأحلام وتستطيل، والقلب يتفتح على أكثر من موجة، وعلى أكثر من قصيدة، والروح تبدأ برسم رقصتها في لوحة البحر الليلكية، لوحة موادها شظايا المحار والأصداف والأحجار الكريمة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى