قصاصو أيرلندا يعيدون الاتصال بالقيم الجمالية المبكرة

محمد الحمامصي
يقدم هذا الكتاب “حقائق ملتوية.. أنطولوجية القصة الأيرلندية الحديثة” رؤية لاتساع وتنوع وثراء المشهد القصصي الإيرلندي ما بعد الحداثي الذي اعتمد في معالجاته على الفولكلور المحلي ليحقق خصوصية فريدة ابتداء من السريالية وحتى الواقعية السحرية مرورا بكل شيء بينهما.

وقد تنوعت موضوعات القصص بين الحب والكراهية والموت والحياة وكثيرا ما تلبث في مكان ما بينهما، متراوحة بين المأساة العميقة والكوميديا السوداء ممزوجة بغرائبية لها أصداء من الحكايات الفلكلورية الإيرلندية.

ومن أبرز الأسماء التي ضمتها الانطولوجيا: شون ماكماثونا، آيليش ني غيني، أنجيلا بورك، ميخال أو روريك، دار أو كونولا، ميشيل أو كونيل، ديردرا برينن، داهي أو موري، جابرييل روزنستوك، شيموس ماك آنياده، فيونتين دي برين، داهي سبراول، آلان تيتلي.

قدم للأنطوبوجيا ناقدان متخصصان في الأدب الأيرلندي الأول كولُم توبين، والثاني برين أو كاهْنوكور أستاذ مساعد للغة والأدب الآيرلندي في جامعة نوتردام، رأى الأول أن قصصها تبحث عن الصوت الكامن تحت الصوت، الشيء الخارق للطبيعة الذي يحلق فوق الطبيعي، الإيقاع اللامع في الجملة العادية، الصلة الغريبة بين القصة المحلية وجذورها في الأسطورة والحكاية الفلكلورية، وفكرة الزمن كشيء يتم اللعب به أكثر من قبوله كقاعدة.

وأضاف كولم في مقدمته للأنطولوجيا الصادرة عن دار صفصافة للنشر وترجمة عبدالرحيم يوسف “لا توجد قصة من هذه القصص تأخذ العالم كأمر مُسلَّم به، أو تأخذ مجتمعا معروفا وفقا لشروطه. هكذا يصر الأدب القصصي على سلطانه الخاص، ويُبنى عالمه بقواعد جديدة. لا يستطيع أحد أن يأخذ الزمان أو المكان كأمر مُسلَّم به، والجسد ذاته – كما في قصة “ديردرا برينِن” (بانانا بانشي) – هو مساحة تخييلية مفتوحة للإيحاء. في قصة “داهي أو موري” (كبير وصغير) تمنح الطبيعة نفسها وأصغر الأشياء أبعادا إنسانية ومشاعر إنسانية، ويتأرجح الصوت السارد بين الواقعي والسيريالي كما لو أن كلا منهما مساوٍ للآخر.

العالم الاجتماعي هنا محدود ومؤطَّر؛ هناك الكثير من الأشخاص المنعزلين والغرباء في هذه القصص مثل جامع التحف في قصة “جابرييل روزينستوك” (حذاء خروتشوف) أو الرجل في الحمَّام في قصة “ميشيل أو كونيل” (المتقاعد في المرحاض).

وقال “في بعض القصص تتم السخرية واللعب بمفهوم القصة نفسه منذ البداية. الفقرة الثانية من قصة “شيموس ماك آنياده” (الإكليشيهات الثلاثة) تبدأ: ستستمتع بهذه القصة، لأنه صدِّق أو لا تصدِّق، هذه قصة قصيرة حقيقية مليئة بالدم مثيرة للجدل ما بعد حكائية، أو بكلمات أخرى هذا عمل فني مبتدع تماما مصطنع تم تجميعه عن قصد، إنه فخم، واعٍ بذاته ووسطي ولا يدور عن أي شيء مطلقا باستثناء نفسه. سيلاحظ القارئ المفارقة في كلمة “حقيقية”. عنوان قصة “فيونتين دي برين” (كيف مات المؤلف) وتبدأ بتقرير أن “تتوقف ساعات الحائط واليد عن أن يكون لها أي فائدة”.

وأشار كولم إلى أنه في كل قصص الأنطولوجيا “هناك غرابة تحيط بالحياة المحلية، بالمكان المحلي. المكان نفسه يتم نقله بعيدا عن العادي. لذلك عندما تفتتح قصة “داهي سبراول” (ثمة شخص آخر يعيش هنا) باثنين يشاهدان التليفزيون في منزل هادئ في شارع هادئ، فإنه من الواضح أن الدراما لن تنشأ من المحلي، بل من مكان يجرى تشويشه. الأمر نفسه يحدث مع المكان المدني الذي لن يمتلئ بالمواطنين في قصة “آلان تيتلي” (الحساب) بل بالملائكة. وإذا كان هناك ملائكة فستظهر بالتالي “مجموعة متنوعة من الجثث الهزيلة، والأجساد المتعفنة، والهياكل العظمية، والجيف والرمم”.

وأكد أن ما يتعامل معه كل كاتب وكاتبة في هذا الكتاب هو الحرية أكثر من القيود، وأضاف “إنهم يبحثون عن الهجائن أكثر من بحثهم عن التقاليد النقية، إنهم في حالة لعب في خيالهم القصصي كما هم في حالة لعب في عملهم. ربما تمتلك اللغة التي يستخدمونها جذورا نبيلة وقديمة، لكن ما يهم هؤلاء الكُتَّاب هو كيف انكسرت هذه الجذور وكيف نمت حولها الأعشاب والحشائش.

في مقالة له بعنوان “العقل المنقسم” تأمل الشاعر “توماس كينسيلا” في ما يعنيه أن تكون كاتبا آيرلنديا وتكتب باللغة الإنجليزية “أعتقد أن الصمت – بشكل عام – هو الشرط الحقيقي للأدب الآيرلندي في القرن التاسع عشر … ما وراء القرن التاسع عشر هناك ضباب ثقافي هائل”.

وتساءل عمّا إذا كان هناك فضيلة بالنسبة للأدب، بالنسبة للشعر في “استمرار التقليد”، وآمن أنه لا يوجد. “لكن بالنسبة للحاضر..” كتب: يبدو أنه على كل كاتب أن يصنع لذاته الفهم الخيالي للهوية، وإذا لم يستطع أن يجد وسيلة في تراثه تناسبه، فسيكون عليه أن يبدأ من نقطة الصفر.

وخلص كولم مؤكدا أن الأنطولوجيا “عرض غامض لفضائل هذه البداية بواسطة كُتَّاب على وعي أيضا بأصداء التقليد القديم، والحرية التي يقدمها هذا المزج، والقصة التي يحكيها”.

أما الناقد برين أو كاهْنوكور ففي مقدمته التي جاءت تحت عنوان “القصة القصيرة ما بعد الحداثية المكتوبة باللغة الآيرلندية” فرأى أن القصة القصيرة ما بعد الحداثية المكتوبة باللغة الآيرلندية تبدو منبتة الصلة تماما بالنتاج الثقافي الذي أنتجه الإحيائيون الأوائل. لكن صراعها مع الميتا – سردي، ورفضها للخطاب السائد، وللواقعية، والعقلانية، واحتضانها للبذاءات والتدنيس ليست إثبات أصالة راديكالي للذات بقدر ما هو عودة للأصول.

ينبغي أن يتم إدراك هذا التيار في سياق أوسع وأن يتم الإقرار به كإعادة اتصال بالقيم الجمالية المبكرة ما قبل الإحيائية أكثر من كونه هجرا لما هو راسخ حتى ولو كان جديدا بشكل نسبي.

إن الممتع والفانتازي، الغريب والمدهش، السحري والخارق يعودون كموضة مرة أخرى في أدب معاصر مكتوب باللغة الآيرلندية، تماما كما كانوا منذ زمن طويلٍ طويل في مكان قصي بعيد.

وقال “إذا كانت الحداثة قد حلت محل الفولكلور كأسلوب أدبي وجمالي سائد، فإن سلطانها مع ذلك كان قصير العمر نسبيا. ميَّز ظهور اللاواقعية كأسلوب مهيمن في خطاب اللغة الآيرلندية ثمانينيات القرن العشرين (ني أنراشاين 1994). هذه التطورات اللاواقعية – الانطواء، الهاجس الذاتي، المزاج الكئيب، والميل إلى الخيالي – ارتبطت بقَدَر اللغة الآيرلندية كلغة أقلية في عالم يتحدث الإنجليزية وبالتهديد المحسوس والمتزايد بالتجانس الثقافي مع عضوية آيرلندا الحديثة في السوق الأوروبية المشتركة (والتي أصبحت الاتحاد الأوروبي فيما بعد).

اعتبر النقاد الأدبيون هذه التطورات نتيجة لعجز الكُتَّاب عن إبداع أدب قصصي مديني واقعي ناجح، ودليلا إضافيا على العلاقة التكافلية بين اللغة بجذورها القروية الريفية وعدم التوافق مع قوى التحديث (ماك جيولا ليث 1991، نيك إيوين 2005). مثل هذه التأويلات مغرية: جزئيا بسبب الحالة اللغوية الهامشية للغة الآيرلندية وجزئيا بسبب تطابقها مع احتجاجية الثقافة المضادة. هذه القراءة تفسر مثل هذه المظاهر كانعكاس للحالة الثقافية والسوسيوثقافية الغامضة والهامشية للغة ومتحدثيها في آيرلندا الحديثة.

وأضاف كاهْنوكور “مع ذلك ربما يكون الواقع مختلفا إلى حد بعيد. هذه القصص – أكثر من كونها تمثل نفورًا أو مقاومة للتعامل مع الواقع المديني – ربما لا تمثل فقط مشاركة استباقية واعتناقا طوعيا لحساسية وأسلوب ما بعد حداثي، لكن كذلك عودة جزئية لجمالية فولكلورية (ني أنراشاين 1999).

إن اختزال الزمن والمسافة والمكان بواسطة التطورات في وسائل الاتصال الإليكترونية، والتمدين، وفيما بعد العولمة – لآيرلندا – وسهولة وسيولة العلاقات السوسيو- اقتصادية قد خلقوا أزمة في التمثيل والهوية، ليس فقط بين المتحدثين بالآيرلندية، لكن في العالم كله. إن السرديات التقليدية الكبرى والميتاحكايات – والتي ظلت لفترة طويلة حجر الزاوية لمعارفنا الشائعة – يجرى تجريسها أو تشويه سمعتها أو تجاهلها.

هذا التحرر من سحر سرديات الماضي المهيمنة والفشل في استبدالها بسرديات كبرى جديدة قد أدى إلى التركيز على السرديات الصغرى، لكن الأسئلة والاهتمامات الرئيسية تظل كقصص “ماكماثونا” و”تيتلي” في هذه المختارات ظاهرة بوضوح. إن تناقض هذا الوضع ما بعد الحداثي هو أنه بتفحصه لكل المذاهب والمبادئ بشك شديد، فإن الأمر ينتهي به إلى إظهار عيوبه هو نفسه، كما يوضح كل من “ني غيني” و”ماكماثونا” و”تيتلي” بشكل مُوسَّع. إن رفض الدين أو حتى قتل الله – كما يتصور “تيتلي” – لا يحل مشاكل الوجود الإنساني. إنه ببساطة ينقل المسئولية ويعيد تعيين الحِمل. لا تختفي المشكلات والمعضلات، لكنها تعاود الظهور. لا التنوير ولا الحداثة قد قدَّما إجابات مُرضية للأسئلة القديمة التي حاول الفولكلور أن يتعهدها”.

وأشار إلى أن البراعة الفنية وتكنيك وأسلوب هذه القصص ربما يتطلب تقديرًا جماليًا مشابهًا لذلك الذي كان لدى قرويّ أميّ من القرن التاسع عشر أكثر من تقدير مواطن حديث “متعلم”. إن القصص ما بعد الحداثية ليست مريحة أبدًا ونادرًا ما تكون طيبة المذاق بالمعنى التقليدي للكلمة. في الحقيقة هي النقيض عينه لتلك القصص التي قدَّمت صورة مثالية لآيرلندا: المقاطعة الطاهرة والمتكلمون الطيبون بالآيرلندية – المحرومون من الأسباب المادية، لكنهم أثرياء بثقافتهم الدارجة – أتقياء وشجعان، وطنيون وهانئون. هذه القصص لن تشوّق هؤلاء الذين يشعرون بالارتياح أو الرضا عن الثقافة الآيرلندية لأنها تتحدى الكثير من البقرات المقدسة وتتجنب التأويلات القياسية.

أما القراء ذوو الألفة بما بعد الحداثة فسيميزون موتيفاتها الأسلوبية المعروفة: الاختلاف (برينِن، ني غيني)، التكرار (سبراول، روزنستوك)، استخدام الواقع المفرط (بورك، أو كونولا، أو موري) لتقويض وزعزعة استقرار الهويات، التقدم التاريخي (تيتلي) واليقين المعرفي (دي برين، أو روريك).

تخلق هذه القصص مساحة ووعيًا بالعديد من المعاني والالتباسات والتناقضات وكذلك مقاربة خبيثة ولعوبة للغة غير قياسية لكي تنقد وتستقصي وتسائل وتتحدى. كما ينبغي للأدب ما بعد الحداثي عامًة، تعتمد هذه القصص بشكل كبير على التشظي، والمفارقة، والرواة غير الموثوق بهم، والمعارضة الأدبية لنقد فكرة التنوير المتضمَنة في الحداثة ومفهوم الحقيقة المطلقة.

تحاول هذه القصص – وهي تُواجَه بآيرلندا متشظية بشكل متزايد – اجتماعيا ولغويا وسياسيا واقتصاديا، وحيث قد انهار تدريجيا النظام الاجتماعي الهيراركي والطبقي في ضوء الفضائح والمحاكمات والنزاعات – أن تتعامل ليس فقط مع دور اللغة الآيرلندية والمتحدثين بها، لكن مع الخبرة الإنسانية كذلك.

بسعيها لهذا فإنها تحقق صوتا عالميا وجاذبية تمتد لما وراء لغة إبداعها وتخاطب جمهورا أوسع ومتعدد اللغات. إن العالم المطروح في هذه القصص واقع تحت هيمنة العابر والمتقطع والفوضوي – وكلها خبرات مألوفة للغاية ليس فقط بالنسبة للمتحدثين بالآيرلندية في العالم الثقافي واللغوي ذي النزعة الأنجلو – أميريكية المعولمة، لكن أيضا بالنسبة للمجموعات والأفراد المهمشين على مستوى العالم، بغض النظر عن اللغة أو التراث أو العِرق أو اللون”.

ولفت كاهْنوكور إلى أن هذه القصص ما بعد محلية وعالمية في جاذبيتها و – بعيدا عن اعتناقها للفولكلور الآيرلندي كمنصة انطلاق – ليست محلية ولا إقليمية. إنها تتحدانا بمرح وتسامح لنواجه الموضوعات الآنية لزمنها، والحاجة الأبدية لإجابة أسئلة عمَّن نكون وعمَّا نؤمن به ولماذا.

هناك ارتياب عميق الغور وحالة من النفور متأصلان في هذه القصص تجاه السلطة، خاصة في أي شكل شمولي. بتواجدها في عالم لا عقلاني، وبكونها مسكونة برواة غير موثوق بهم وذوي روايات متنافسة ومتناقضة للأحداث، فإن هذه القصص تتجنب الاختيارات السهلة والتعارضات الثنائية والتصنيفات الثابتة.

إن استخدام المعارضة الأدبية والكولاج (ماك آنياده) ومزج الثقافة الرفيعة والمتدنية، العناصر المحلية والأجنبية، الأساسيات النقية وغير النقية، اللغتين الإنجليزية والآيرلندية (ني غيني، تيتلي) بل واستخدام أشكال اللغة الهجينة والمنقولة تساهم في المساءلة المتنامية على مستويات عديدة لذات التصور الخاص بحقيقة واحدة مُعرَّفة ومحميَّة.

هناك في النهاية – كما تقترح تلك القصص – العديد من الحقائق المتنافسة، ومستويات متنوعة من المعاني المتناقضة، ولا توجد إجابة واحدة مُرضية؛ بل روايات متعددة، ووقائع متصارعة، وحقائق متناقضة: حقائق قد نلويها ونثنيها ونشكلها كي تعطي معنىً وعزاءً وأملا لأنفسنا وللآخرين كما تتطلب المناسبات والظروف.

ونبه كاهْنوكور إن المؤلفين يعيشون في مقاطعات آيرلندية ومولودون في مقاطعات آيرلندية، حاملو تقاليد، متحدثون بالتراث ومتعلمو لغة، لكنهم جميعا يتشاركون في رؤية عامة. هذه الرؤية لا تجد سياقها في جيتو لغات الأقلية والآداب الصغرى، لكن في الظاهرة الأدبية العالمية لما بعد الحداثة.

بدلا من اعتبار أن تفضيل توظيف مثل هذه الاستراتيجيات السردية بمثابة إثبات للانقطاع أو الانعزالية الأدبية، يمكن أن يُنظر للأمر على أنه اختيار واعٍ للبحث عن الصلة الروحية والأرضية المشتركة مع الكُتَّاب في كل العالم في سبيل التصالح مع الوجود المعاصر في عالم – يهيمن عليه تليفزيون الواقع، ودُوَار الميديا، والتغريد التافه (على تويتر)، والإشباع اللحظي – حيث لم تعد نظم الاعتقاد السائدة تسيطر، وأصبح الحنين للماضي غير كافٍ.

تُقر هذه القصص بفهم للواقع كبنية – بنية متفق عليها ومقبولة بالتبادل – ولكن لكل بناء يمكننا أن نقدم وقائعنا الخاصة والشخصية وحقائقنا الملتوية.

(ميدل ايست أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى