عصمت داوستاشي المستنير الذي لا يكف عن المحاولة

ناهد خزام
يرتبط الفنان المصري عصمت داوستاشي بصلة قرابة مع إحدى طوائف الصوفية التي اختار أفرادها الانعزال والابتعاد بأنفسهم خارج نطاق المدينة، هؤلاء الذين طالما تأمل أحوالهم في شبابه متسائلاً: هل يستطيع هؤلاء المتصوفة العودة مرة أخرى إلى الناس؟ وكيف يكون حالهم حينها إذن؟

ومن هنا تولدت لديه فكرة “المستنير دادا”، ذلك الرمز البصري الذي كان عنواناً لمجموعة كبيرة من أعماله في تسعينيات القرن الماضي.

والمستنير هنا، وبعيداً عن تلك الأسباب المباشرة لوجوده في أعمال داوستاشي ليس مجرد رمز أو محض فكرة تحمل ما تحمل من أيقونات الشكل واللون، فقد مثّل حالة من الوجد الصوفي تلبست الفنان السكندري لسنوات، حالة من الكشف أسكنت ذلك الفراغ الممتد ما بين فناني المنمنمات العظام وفناني اليوم بسيل من العناصر والمفردات والدلالات والرموز.

لكن المستنير كما ظهر رحل، وما بين ظهوره ورحيله ثمة احتراق. رحل المستنير دادا مهزوماً، تاركاً لنا ذلك العالم العبثي.. وتاركاً داوستاشي نفسه في وحدته المخيفة، وشعوره الخانق باللاجدوى.

فها هو الفنان يخرج علينا بعد إعلانه المفاجئ عن رحيل المستنير دادا بذلك الكتاب الذي جاء تحت عنوان “إبداعات في لون أسود” والذي تلقاه متابعوه حينها ببالغ الدهشة؛ إذ فوجئ الجميع بأن صفحات الكتاب لا تحمل أياً من لوحات الفنان أو كتاباته، فلم تكن تحمل سوى السواد.

ترك الفنان كل صفحات الكتاب فارغة إلا من اللون الأسود الذي خيم حتى على تقديمه له على الغلاف الخلفي، معلناً لجمهوره أن ذلك ليس سوى رد فعل طبيعي لشعوره الكارثي الذي يحس شواهده ودلالاته، ذلك الشعور الذي تمثلت شواهده في تصاعد وتيرة العنف والصراع حول العالم، والذي أتاح الفرصة لصعود العديد من الأفكار والرؤى المريضة كي تتحكم في مقدّرات الشعوب، إضافة إلى أجواء السلبية التي باتت تخيم على المجتمع والحياة الفنية والنقدية بشكل خاص.

لم تكن هذه المرة الأولى التي يفاجئ فيها داوستاشي جمهوره بمشاعر الرفض وعلامات الإحباط، فقبلها بشهور قليلة أقام معرضاً آخر مثيراً للجدل عرض فيه أعماله “مقلوبة” على الحائط.

داوستاشي ينحاز هنا لنبض الأشياء العضوية مقابل طغيان الخيال وتكرار الثيمات المجردة، وكما في معظم أعماله لا تنفصل الذات عنده عن الموضوع، كما أن الهدف الجمالي لا يفارق الوسيلة.

وحين سُئل عن السبب رد قائلا “لم أجد غير هذه الطريقة للتعبير عن شعوري بقسوة الواقع وفهمي لهذا المصطلح الضبابي المسمّى بالعولمة، إذ كيف أضع لوحاتي معتدلة في عالم كل ما فيه معكوس ومتقهقر؟ نحن مهددون بمحو ثقافتنا وملامحنا وتاريخنا، حتى وجودنا مهدد في ظل واقع مجنون تحركه أفكار ورؤى همجية ومصطلحات مبهمة كالشرق الأوسط الكبير والعولمة وغيرها من المصطلحات الأخرى”.

وثمة مشهد آخر لا ينسى عرضه داوستاشي في القاعة المجاورة لتكتمل أمامنا تلك الحالة الدرامية للمشهد السابق حيث عرض فيها خمسة وعشرين وجهاً منحوتاً وضعت على حوامل خشبية إلى جوار بعضها البعض في حجرة لا تضيئها سوى بعض شموع ذابلة تلقي على الوجوه المعروضة مزيداً من الحزن والأسى، وتغلّف المكان بحالة شديدة الشجن.

إنها وجوهنا المعاصرة والمنسحقة من الألم والإحباط. ورغم كونها مصنوعة من البازلت الصلب إلا أنها تبدو ضعيفة مسلوبة الإرادة لا تملك سوى المشاهدة والتأثر.

فهذه المتابعة اليومية – كما يقول داوستاشي – لمشاهد القتل والدماء، والتي لم تكن متاحة من قبل لا بد أن تترك آثارها على ملامحنا.. هذه الصور الرقمية التي نطالعها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي تتسلل إلى عقولنا، تصيبنا بالقلق والتوتر وعدم الأمان، فبين لحظة وأخرى قد نتذوق مرارتها في حلوقنا. لذا كان لا بد لهذه الصور والمشاهد أن تغير طريقة تفكيرنا ونظرتنا إلى العالم، ولا بد لها كذلك أن تنعكس على أعمال الفنان واختياراته لمضامينه الإبداعية.

• فنان متصوف وملحمي

يحتفي الفنان عصمت داوستاشي اليوم بعامه الرابع والسبعين على طريقته الخاصة، فهو يعرض عددا كبيرا من أعماله حالياً في قاعة “توخلا” بمدينة أمستردام، ومن المنتظر أن يطوف المعرض بعدد من قاعات العرض في المدينة الهولندية خلال الأشهر القادمة.

يمثل المعرض تجربة مشتركة له مع الفنان شوقي عزت في مجال الغرافيك، يعرضانها تحت عنوان “شيء من عالمي وشيء من عالمنا”، وهي من وحي تجربتين إبداعيتين إحداهما هولندية، وهي تجربة بيتر بروجيل، أحد أهم رواد الفن الغربي في القرن السادس عشر، أما التجربة الثانية فهي تجربة الفنانة المصرية عفت ناجي، وهي واحدة من فنانات الرعيل الأول للفن المصري الذي تشكلت ملامحه منذ بدايات القرن العشرين.

توقف كل من داوستاشي وعزت تحديداً أمام عملين شهيرين للفنان الهولندي والفنانة المصرية. العمل الأول هو “الأمثال الشعبية” لبيتر بروجيل.

تأمل كلا الفنانين اللوحة بمنظوره البصري والفكري، بما فيها من ثراء تراثي لا يتعلق بشمال أوروبا وحدها بل بالثقافة الإنسانية على نحو عام.

وتعد اللوحة أحد أشهر أعمال بروجيل على الإطلاق، وكان قد رسمها “يان بروجيل” الأب، ثم أعاد صياغتها من جديد ابنه بيتر بروجيل باستخدام الألوان الزيتية على الخشب، وهي تعبر كما في معظم أعمال بروجيل عن حماقة الإنسان وتناقضاته المثيرة.

في هذه التجربة الأخيرة تفاعل كل من الفنانين داوستاشي وعزت مع لوحتي بروجيل وناجي بالتبادل، إذ تناول داوستاشي لوحة بروجيل بينما تناول شوقي عزت لوحة الفنانة عفت ناجي.

وفي تناوله للوحة بروجيل استبدل داوستاشي الأمثال الشعبية الهولندية بأخرى عربية مستلهماً كصاحب اللوحة الأصلية التجليات البصرية لهذه الأمثال في تشكيل بصري باللونين الأبيض والأسود. مستحضراً روح المومياوات المصرية القديمة بأعين شاخصة كبيرة واسعة وملامح منحوتة راسخة محملة بالكثير من الرموز الشعبية، ومطعمة بمزيج من تأثيرات الرسوم البدائية على جدران الكهوف والأيقونات القبطية والنقوش والزخارف الإسلامية. فتحوّل كل ذلك إلى دلالات أشبه بالأسطورة أو الملاحم الشعبية.

ينحاز داوستاشي هنا لنبض الأشياء العضوية مقابل طغيان الخيال وتكرار الثيمات المجردة، وكما في معظم أعماله لا تنفصل الذات عنده عن الموضوع، كما أن الهدف الجمالي لا يفارق الوسيلة. وهو يرى أن هناك لغة كامنة خلف كل الأشياء التي تحيط بنا، لغة عصية لا يدرك المتلقي أسرارها ولا يفكّ رموزها بسهولة ويسر، هذه الرموز التي ظل الفنان عبر تجاربه السابقة متصدياً لمحاولة فكّ طلاسمها، وهو يعلم أن في هذه المحاولة يكمن فشله، كما يكمن عذابه وعبقريته.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى