أمين معلوف يوثق تاريخ الأكاديمية الفرنسية

كه يلان مُحَمَد
إن وصول أمين معلوف إلى الأكاديمية الفرنسية حيث يشغل المقعد التاسع والعشرين بعدما غيب الموت سلفه كلود ليفي شتراوس نهاية 2009 دليل على أن الأفكار النابعة من المبادىء الإنسانية تسمو على الإنتماءات الفرعية وتجدُ مقامها في المحافل التي تسعى لإيجاد أفق أرحب لتطلعات البشرية، وبما أنَّ أمين معلوف شغوف بالبحث عن الجذور لذلك فهو يروي في كتابه الجديد الصادر من دار الفارابي 2017 “مقعد على ضفاف السين” مضيفاً إليه عنواناً توضيحياً أربعة قرون من تاريخ فرنسا، جانباً من حياة أسلافه الذين تعاقبوا على المقعد الذي يشغله الآن ويُلقي الضوء على ما أضافه هؤلاء المفكرون والفلاسفة بأعمالهم الأدبية والعلمية إلى دروب المعرفة.

كما يضعُ القاريء في التحولات العاصفة التي مرت بها فرنسا وتداعياتها الجسيمة على مسار التطور الفكري، زدْ على ذلك ما يكشفه من خلال هذا الكتاب عن تشابك بين الحقول المعرفية والتيارات السياسية إذ تتباين المواقف بهذا الشأن ثمة من لا يرى ضيراً أن يجمعَ بين اهتماماته المعرفية والإشتغال في كواليس السياسة كما هو شأن الشخص السادس الذي يشغلُ المقعد التاسع والعشرين أندريه هرقل كاردينال دو فلوري، فالأخير كان من رجال الدين ومدرساً للملك وصاحب عقلية سياسية مُحنكة إضافة إلى عضويته في الأكاديمية الفرنسية حيثُ يفتتح أمين معلوف القسم المخصص في كتابه للحديث عن هذه الشخصية بجملة معبرة عن شخصية دوفلوري (ذاك الذي يهمسُ في أذن الملك).

من جانب آخر يَذكر الكاتبُ السبب وراء استبعاد صاحب مسرحية “السيد” كورناي من الأكاديمية مشيراً إلى ما كان يكنهُ الكاردينال ريشويلو من الكراهية للمؤلف المسرحي ما دفع بالقائمين على شؤون الأكاديمية إلى عدم انتخابه حتى لا يُفسر ذلك كإساءة إلى من يُعدُ راعياً لتك المؤسسة العتيدة، وبذلك يتضحُ دور العامل السياسي في انتخاب بعض الشخصيات وإقصاء غيرها.

• إنحسار دور رجال الدين

مع انحسار نفوذ رجال الدين تحت قبة الأكاديمية يبدو أنَّ أصحاب القرار السياسي لم يَعُدْ لهم ما يُمارسون من خلاله السلطة على اختيار الأعضاء الأربعين في الأكاديمية، كما يُقر اللاحقون بجدارة بعض من سبقهم في الأكاديمية وفسر أمر وصولهم إليها آنذاك كنتيجة لتدخلات السلطة السياسية، وهذا ما يحصلُ بالنسبة لدو كاليير خامس شخص يشغل المقعد التاسع والعشرين إذ على رغم ما ذهب إليه البعض بأنه أصبح عضواً للأكاديمية عقب إطرائه للويس الرابع عشر بيد أن سان سيمون يغدق على دو كاليير المديح واصفاً إياه برجل طيب وبالغ الحصافة.

كذلك يتمُ الإعتراف بموهبة “فليب كيتو” في كتابة النصوص الأوبرالية مع أنَّ إنتخابه عضواً في الأكاديمية ما راق لأُدباء عصره بما فيهم بوالو كما طاله نقد رجال الدين متهما مؤلف لون جديد من النصوص الشعرية بالمُفسد، لكن الآراء ستتغيرُ بعد عقود ويجدُ كيتو نصيراً لأعماله ومن ضمنهم فيلسوف التنوير الفرنسي فولتير.

هكذا كان الإعتراض والسخط مُصاحباً لقرارات اختيار الأعضاء الجدد، وعندما كان يُفَضَل فرانسو هنري سالامون على كورناي يُعلق الفيلسوف “دالاميير” على ذالك الموقف بكلمات قاسية قائلاً “لقد تعهر عضو الأكاديمية”، لا تنقطع الصلةُ بين سلطة الملك والأكاديمية وكان يستجيبُ الملكُ لما يملي عليه رجال الإكليروس فيما يتعلقُ بالمرشحين لنيل مقاعد الأكاديمية إلى أن رجحت الكفة لصالح الفلاسفة والمفكرين بفضل السيدة دو بومبادور التي ستصبح فلعيا ملكة فرنسا، فالأخيرة من أشد المعجبين بالفلاسفة، وتقنعُ الملك لويس الخامس عشر من أن لا يمنع دخول فولتير إلى الأكاديمية.

• الإختلاف حول الموسيقى

ما يإشار إليه في هذا السياق أن فرنسا كانت منقسمة قبل قيام الثورة ليس بين حزبين سياسيين، إنَّما بين الملحن الألماني كريستوف غلوك ونيكولو بيتشيني، وصلت الخصومة بين أنصار هذين اللونين من الموسيقى إلى درجة لا أحدَ يرضى بأن يقابلك قبل التأكد إن كنت من مؤيدي لوغوك أو بيتشيني حسبما ينقله صاحب الكتاب على لسان زائر إنكليزي إلى باريس.

وهذا ما يذكرنا بما يقدمه جورج قرم في كتابه “تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب” عن دور الموسيقى في النهوض بالشعوب الأوروبية، صحيح ليس كل من صار عضواً في الأكاديمية تركَ وراءه إرثاً سواء على المستوى العلمي والأدبي لكن يوجدُ بين من شغل المقعد التاسع والعشرين أسماء لا تزالُ مؤلفاتهم تُدرسُ على أرقى مستويات أكاديمية (فرانسو دوكاليير) هو واحد من هؤلاء بعدما يقرأُ “جون كينث غالبريث” وهو أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين كتاب (دوكاليير) المعنون بـ “أسلوب التفاوض” يعقبُ بقوله “يتساءلُ المرءُ ماذا يمكنُ أن يقال بعد بهذا الشأن”.

يضاف بيير فلورانس أيضاً إلى النخبة التي ساهمت في الدفع بعجلة العلم نحو مرحلة جديدة إذ يُعدُ فلورانس من طليعة الباحثين الذين فطن إلى خصائص الكلوروفوم بل يعزى إليه إكتشاف التخدير وإنتشاره في المجال الطبي، هنا لا ينقلُ لك أمين معلوف عما أنجزه فلورنس فقط بل يقارن بين مسار التطور العلمي المتدرج وما أبدعه الإنسان على الصعيد الأدبي والفني، ويكشف بأنَّه يصعب انتساب أي مكسب على الصعيد العلمي إلى شخص بعينه إنَّما ما يتوصلُ إليه الإنسان من تطورات علمية ليس إلا نتيجة لتراكمات سابقة كما لا تأتي نظرية جديدة إلا لتنقض ماسبقها من أفكار ونظريات أخرى بينما الأمر في عالم الأدب يختلف إذ مهما تقادمت الأزمان على النصوص الأدبية أو على المنحوتات التي أنجزتها الحضارات السابقة لا تغيب أبعادها الجمالية، كما لا يمكن أن نجد لها بديلاً فيما يقدومه الأدباء الجدد والفنانون المعاصرون.

يُدونُ أمين معلوف بجانب توثيقه لتجربة الأعضاء الذين شغلوا المقعد التاسع والعشرين نتفاً من الوقائع التي تُعتبرُ مفصلية في تاريخ فرنسا مثل إلغاء لويس الرابع عشر لمرسوم نانت في 1685 وعلى إثر هذا القرار نزح البروتستانت بأعداد كبيرة إلى دول أوروبية أخرى.

كما تشهد فرنسا حملةً ضد اليسوعيين وتغلق مؤسساتهم وتصادرُ أملاكهم سنة 1763، بالمقابل تحتفي باريس بعودة الفيلسوف العقلاني فولتير، وينضمُ الأخير إلى المحفل الماسوني في إطار إحتفال مهيب، هذا ويتلفت أمين معلوف إلى إلغاء الأكاديمية الفرنسية سنة 1793 بموجب مرسوم صادر من المؤتمر الوطني، ويصفُ الكاتبُ ما مرت به فرنسا بالجموح الدموي إذ لم تُعفِ هذه الموجة حتى بعض شخصيات استلهمها الثُوار أمثال غرار كوندروسي الذي انتحر قبل أن يُشنق على مرأى الجماهير.

كما يتوقف الكاتب عند مرحلة ما سُميت بكومونة باريس وامتداداتها على مستقبل فرنسا، ويلقى شبحُ الإحتلال النازي بظلاله على الأكاديمية حيث غيب الموتُ بعض أعضائها دون انتخاب من يحلَ مكانهم واختار قسم منهم الإقامة بالمنفى.

ما يمنحُ هذا الكتاب مزيداً من التشويق أن مؤلفه يأخذ من كل شخصية ما هو أساسي في محطات حياته فهو عندما يبحثُ عن حياة أول من شغل المقعد بيار باردان يقول ما ترك شيئا وراءه غير شجاعته حين أنقذ تلميذه من الموت وضحى بنفسه، فضلاً عن ذلك لا ينسى الجانب العاطفي في حياة أسلافه الذين تجمعهم به هوية معرفية، الأكثر من ذلك يعرضُ صاحب “التائهون” بالتفصيل الظروف التي نشأت في ظلها الأكاديمية فهذه المؤسسة العريقة هي ثمرة لحلقة نقاش مجموعة من الأصدقاء المهتمين بشؤون الأدب ساندها أقوى رجل في فرنسا الكاردينال ريشوليو إلى أن أصبحت صرحاً أكاديميا عريقاً.

يذكر أمين معلوف أن كتابه جزءاً من دين يسدده لجوزيف ميشو، فالأخير كان مهتماً بالتاريخ زار مصر واليونان والأناضول وكتب عن تاريخ الحروب الصليبية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى