‘فن’ جدل فني حول لوحة يتحول إلى سخرية من الفن وأهله

أبو بكر العيادي

اسمينة رضا هي كاتبة وممثلة فرنسية من أم مجرية وأب روسي من أصل إيراني، درست المسرح وعلم الاجتماع في جامعة باريس العاشرة، بدأت بالتمثيل ثم انتقلت إلى التأليف المسرحي والكتابة الروائية، ورغم فوزها بجائزة رينودو عن روايتها “بابل”، فإنها نالت شهرتها عن نصوصها المسرحية بدءا بـ”أحاديث بعد دفن” و”عبور الشتاء”، ثم “فن” التي فتحت لها أبواب المسارح الكبرى أمثال “مسرح شكسبير الملكي” و”المسرح الملكي الوطني” في إنكلترا، و”مجموعة برلينر” و”شوبونه” في ألمانيا، و”بورغتياتر” في النمسا و”المسرح الدرامي الملكي” بالسويد.

وعند عرضها أول مرة عام 1994 في إخراج لباتريس كيربرا وأداء لنجوم السينما والمسرح بيير أرديتي وفابريس لوكيني وبيير فانيك، لاقت هذه المسرحية نجاحا واسعا ولكنها قوبلت أيضا بنقد شديد، لأن الكاتبة، بإصرارها على وضع معقفين حول كلمة “فن”، وتناولها الفن المعاصر بطريقة قيل عنها وقتئذ إنها مجانية وسهلة وحتى رجعية، بدت كأنها تسخر من هذا اللون من الفن وعشاقه.

راجت المسرحية إذن رغم أنها وثيقة الصلة بشكل المسرح البورجوازي من جهة الحكاية السيكولوجية، ومسرح النص القائم على خطاب استدلالي منطقي غير حدسي، ومن جهة الوسط الحضري والأفعال الواقعية، ما يدفع إلى تبني أداء طبيعي يميل إلى الكوميديا في سينوغرافيا من نوع شقة فاخرة لأسرة ثرية، لا سيما أن الأحداث بسيطة.

فهي تدور في شقة طبيب أمراض جلدية يدعى سيرج، اقتنى لوحة من الفن المعاصر يكسوها لون واحد هو الأبيض، وشريط حاشية أبيض هو الآخر، بمئتي ألف فرنك (ما يعادل 60 ألف يورو)، فتكون سببا في خلافه مع صديقه مارك الذي لا يفهم كيف يبذر سيرج مبلغا كهذا في قماشة خالية لا يبدو فيها أثر لفن.

يحتد الخلاف فيحكّمان صديقهما إيفان الذي ينحاز إلى موقف مارك فيثير غضب سيرج، ويثير أيضا غضب مارك ضد هذا الحَكم الذي تسبب في خصام صديقين، وعندما تتأزم الأمور يفضل سيرج أن يخسر اللوحة ولا يخسر صديقه، فيعطيه قلما كي يرسم على اللوحة ما يشاء.

يمتثل مارك فيرسم رجلا يتزحلق على زلاجة، وعندما يعترف بأن أثر القلم قابل للمحو، يرى مارك في ذلك دلالة على عمق الصداقة، ويكتشف معنى اللوحة ومعنى علاقته مع سيرج وإيفان.

فيقول “تحت الغيوم البيض يتساقط الثلج، لا نرى الغيوم البيض ولا الثلج، لا البرد ولا سطوع الأرض الأبيض، رجل وحيد، على زلاجة يتزحلق والثلج يتساقط، يتساقط إلى أن يتوارى الرجل ويستعيد كثافته العاتمة، صديقي سيرج، وهو صديق من زمن بعيد، اشترى لوحة، لوحة قياسها متر وستون على متر وعشرين، تمثل رجلا يعبر فضاء ثم يختفي”.

بعد الفرنسي باتريس كيربرا والبولندي كريستيان لوبا والألماني توماس أوسترماير وآخرين، كان لعشاق الفن الرابع لقاء على مسرح الباستيل الباريسي مع مقاربة مزدوجة من أداء فرقتي “تي جي ستان” البلجيكية و”دودْ بارْد” الهولندية، وكلتاهما تطمح إلى تجديد القواعد التقليدية للخشبة، وحتى تحطيمها، بتخليص المسرح من زخارفه انطلاقا من نصوص هامة، في محاولة لكسر الوهم المسرحي، عن طريق الهزل والابتكار الركحي المندفع الذي لا يولي أهمية لأي قيد.

ومن ثم، لم يعد للمسرحية نفس الوقع، حيث نأى بها أولئك الفلمندريون عن أصلها التأملي القريب من التجريد، لينزّلوها في الواقع المعيش، فطغت عليها المواقف الهزلية، ونأت بها بعيدا عن المرامي التي أرادتها المؤلفة، فالمسرحية ليست نقدا ساخرا للفن المعاصر، بل لثمنه وقيمته، وما يضع الأصدقاء الثلاثة وجها لوجه بخصوص لوحة بيضاء لا شيء عليها، ليس سببه الاختيار الفني، بل كلفته.

والخلاف الذي سينشأ بينهم سوف يكشف طبيعة كل واحد، وقيمة المشاعر التي يكنها بعضهم لبعض، أي أن الثيمة الأساس ليست جمالية، بل اجتماعية وثقافية وسيكولوجية بالدرجة الأولى، وتركيز الأداء الجديد على الإضحاك أفقدها كثيرا ذلك المنحى.

في هذا العرض تقلصت المسألة الاجتماعية بسبب إخراج يبسط كل شيء، فتنطلق المسرحية والممثلون يظهرون في زي تقنيي مسرح، حيث أكواب شمبانيا موضوعة دون أن تلمس، وصالون أشبه ببلاتوه قناة تلفزيونية، وشخوص يتحركون فيما يشبه حلقة تُعقد فيها التحالفات وتنفك، ويُطلَق العنان للمسكوت عنه، لما ظل زمنا حبيس صدور أصدقاء ثلاثة، ليكشف كل واحد عما خفي من شخصيته من أنانية وسوء نية ومشاعر أخرى ما كان أحد يخال صاحبه مسكونا بها.

يقول الناقد المسرحي فيليب تيسون “هذه المعالجة الركحية حولت تأملا جادا إلى كاريكاتير، ورغم موهبة الممثلين الاستثنائية، وروحهم المرحة، وطرافة ابتكارهم، فإننا هنا أقرب إلى السيرك من المسرح”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى