حلم مثقف عراقي يتحول إلى نافذة عالمية على الثقافة العربية

حسونة المصباحي

في أواخر ثمانينات القرن الماضي، تلقيت وأنا مقيم آنذاك في مدينة ميونيخ الألمانية، رسالة من صديقي صامويل، أو صام كما يختصره الراحل الطيب صالح، يحرّضني فيها بالكثير من الحماس، على مشاهدة فيلم “بار فلاي” المستوحى من حياة الكاتب الأميركي الصعلوك شارل بوكوفسكي.

بعد أن شاهدت الفيلم، جلست في مقهى والنهار يموت، وكتبت بدوري رسالة إلى صام الذي كان يعيش مشردا في باريس، أطلب منه فيها أن يخبرني عن المشاهد الأكثر إثارة في الفيلم، فردّ عليّ سريعا بأن المشهد الذي أثار إعجابه أكثر من بقية المشاهد هو المشية البطيئة والمتثاقلة لميكي روك الذي يجسد شخصيّة بوكوفسكي في الفيلم المذكور، وقد تشوهت ملامحه بسبب السهر والكحول.

وزاد فقال إنه يحلم بأن يكون مثل بوكوفسكي عندما يتجاوز سنّ الخمسين، ومثله يمشي بخطى بطيئة متثاقلة وقد أتعبته سنوات التيه والتشرد بين مدن الاغتراب.

ضحكت كثيرا، إذ أن صام أضاف حلما جديدا إلى أحلامه الكثيرة الأخرى. ففي ذلك الوقت، كان يتحرق حماسا لكتابة سيرته الشقيّة، مركزا بالخصوص على والده الأبكم الأصم.

وكان يرغب في تأليف كتاب يروي فيه تفاصيل سنوات أمضاها في صفوف المقاومة الفلسطينية في بيروت. وكان يخطط لأن يكون مخرجا سينمائيا عالميا. كان يتوهم أن يعيش قصة حب مع ممثلة شهيرة تأخذه معها إلى هوليوود، ونيويورك، وجزر الباهاماس. ومرة جاء إلى طنجة عازما على العمل في مطعم فاخر تملكه صديقته المغربية نادية برادلي التي تعرف عليها في بيروت.

ظل صام يهذي بأحلامه إلى أن وردت منه رسالة يعلمني فيها بأنه وصل أخيرا إلى لندن محققا بذلك أمنية والده الأبكم الأصم الذي كان يعشق ملكة بريطانيا العظمى من بعيد أيام كان يعيش ويعمل في قاعدة الحبانية العسكرية.

وفي رسالة ثانية، أخبرني أنه يقيم عند سيدة بريطانية مثقفة تدعى مارغريت أوبانك، وأنه يشعر لأول مرة بسعادة حقيقية بعد سنوات مريرة أمضاها مشردا ومُفْلسا في باريس.

وفي رسالة ثالثة أعلمني أنه تزوج من مارغريت أوبانك، وأنه يرغب في أن أطير إلى لندن للاحتفاء بزفافه. وأذكر أنه جاء لاستقبالي في مطار هيثرو مرفوقا بماغي، وقد بدا سعيدا مثل طفل فقد الشعور باليتم.

الأيام التي أمضيتها معه ومع ماغي كانت صاخبة، مليئة بالأحلام والمشاريع الجميلة. ولأول مرة، أحسست أن صام سيكون قادرا على تحقيق البعض من أحلامه التي كانت تتراءى لي مستحيلة التحقّق.

وكنّا نتسكع في شوارع لندن ذات مساء بارد وغائم، عندما توقف عن السير ليتمعن في وجهي طويلا، ثم قال لي “اسمع هذه المرة لن أخذل نفسي ولن أخذل أصدقائي كما فعلت في مرات كثيرة سابقة. صحيح أن أحلامي كثيرة، وأن واحدا منها لم يتحقق، لكن حلمي الجديد سيرى النور. نعم سيرى النور. كن واثقا من ذلك”.

في السهرة، حدثني صام عن المشروع الذي ينوي إطلاقه بمساعدة ماغي. ولم يكن ذلك المشروع سوى مجلة “بانيبال” التي ستتكفل حسب رأيه بالتعريف بالأدب العربي الحديث قصة ورواية وشعرا.

وأضاف صام قائلا ”أعرف أنك تسخر مني في داخلك كما سخرت من أحلامي الكثيرة السابقة، لكني أقسم بقبر أبي الأبكم الأصم أني سأنجز مشروعي هذا، وسأتحدى جميع العراقيل، والفخاخ التي سوف ينصبها لي العرب. وسوف أطلق على هذه المجلة التي ستكون رفيعة المستوى، اسم “بانيبال” تخليدا وتمجيدا لآشور بانيبال، الملك الآشوري العظيم الذي كان يلقب بـ”ملك العالم”، والذي كان أول من أسس مكتبة عظيمة في بلاد الشرق، وبنى المدارس، وعبّد الطرقات”.

بعد مرور أشهر قليلة على لقائي به في لندن، وصلني بالبريد أول عدد من مجلة “بانيبال”. وكان عددا حافلا بترجمات لقصص وأشعار عربية، ولمقالات نقدية لأعمال ترجمت إلى اللغة الإنكليزية، فسارعت بالكتابة إلى صام مهنئا ومشجعا.

وهاهي مجلة “بانيبال” تصبح بعد مرور سنوات قليلة على صدورها مرجعا أساسيا للأدب العربي في جميع تجلياته. وبإمكان المهتمين بهذا الأدب، والمتطلعين إلى التعرف على رموزه، والفاعلين فيه شعرا ونثرا ونقدا أن يعثروا على هذه المجلة في مكتبات جل الجامعات المرموقة في بريطانيا، وفي الولايات المتحدة الأميركية، وفي فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وحتى في اليابان، وكوريا الجنوبية.

ولدعم مشروعه الطموح هذا، حوّل صام موقعه الإلكتروني “كيكا” إلى مجلة ورقية ناجحة، عَرّف من خلالها بكتاب كبار من الغرب والشرق، وعنهم أعَدّ ملفات مهمة ومرجعية.

وهذا ما فعله مع الكاتب الألماني زيبالد، ومع سلمان رشدي، ومع كوتزي، الحائز على جائزة نوبل للآداب، ومع آخرين.

وهكذا أثبت صام قدرته الفائقة على أن يحول تلك الأحلام الجميلة التي راودته في سنوات التشرد، والعيش المرير لطالبي اللجوء، إلى واقع ملموس، منجزا من خلال مجلة “بانيبال” ما لم تتمكن من إنجازه كل المراكز الثقافية العربية في أوروبا، وساعيا لإعادة الإشراقة للثقافة العربية في زمن الأصوليات الظلامية، والتزمت الأعمى، والجهل المعمم في بلاد العرب التي أنهكتها الحروب والضغائن حتى باتت لا تعرف إن كانت حية فتنهض بنفسها، أم ميتة فتدفن.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى