دلال عنبتاوي تقرأ تجليات المكان رؤية وتشكيلا في شعر إبراهيم نصرالله

محمد الحمامصي
يتناول هذا الكتاب “المكان بين الرؤية والتشكيل في شعر إبراهيم نصر الله” للناقدة د. دلال عنبتاوي المكان في التجربة الشعرية لإبراهيم نصر الله، وأثره على شعره، انطلاقا من أن قراءة تجربة أي شاعر تفضـي إلى التعرف على تلك العوالم التي وصل إليها بحلمه وخياله سواء على أرض الواقع أم في الحلم. إذ يعد المكان من أهم الموضوعات لدراسة العمل الأدبي، سواء أكان شعراً أم نثراً، فلا يوجد عمل أدبي معزول عن المكان والزمان. ويشكل الاهتمام بالمكان ظاهرة مهمة تحتاج للتوقف والدراسة في النص الشعري.

وحول حضور المكان الفلسطيني وخصوصـيته في شعر نصـر الله رأت عنبتاوي إن علاقة الشاعر بالأمكنة التي أحبها، أو عاش فيها، أو شكلت في حياته حضوراً مميزاً، يأخذا بعداً مكثفاً في نصوصه الإبداعية، إذ يصبح ذا حضورٍ طاغٍ، ومحملٍ بكثير من الدلالات والخصوصـية، وهذا هـو حال المكان الفلسطيني في شعر إبراهيم نصـر الله، إذ حاول أنْ يعيد صـياغة الأمكنة صـياغة جديدة، وحملها صوراً إنسانية ومثالية، أراد أنْ ينفذ من خلالها للتعبير عن تلك العلاقة المميزة مع فلسطين بمدنها وقراها، فأصبحت محوراً مهماً من محاور الأمكنة في شعره، وذات بعد كبير، ولم تعد مكاناً واقعياً ذا بقعة جغرافية محددة بمكان، بل ضمت في داخلها كل العالم؛ لأنَّ الشاعر حاول من خلال إحساسه بها، وتعبيره عن عذابها أنْ يختزل نضال أمته، وحسـرة شعب على أرض، ووطن كان له في يوم ما.

ومن هنا تسلل المكان الفلسطيني إلى خلايا نصه، وأصبح جزءاً أساسـياً فيه، إنْ لم يكن الخلية الأساسـية، “فالأمكنة جزء من التجربة الحياتية سلباً أو إيجاباً والشاعر يقرأ أسـرار الأمكنة، وخفاياها، ويقرأ جغرافيتها، وتاريخها الماضـي والحاضـر والمستقبل؛ لذا لا بدَّ للمكان أنْ ينصهر ويذوب في دم النص، كأنَّه يعاد خلقه من جديد، ليبدو بحضور آخر غير الذي عرفناه”.

وأضافت “الشاعر شاعر فلسطيني الأصل، إلا إنَّه لم يسكن في فلسطين. وظهرت علاقته بها من خلال والديه الفلسطينيين، وحكاياتهم التي سـردت على مسمعه منذ الطفولة عن ذاك الوطن، وذاك المكان الغائب الحاضـر؛ فهـو غائب بحضوره المادي، لكنَّه متربع في وجدانه، في حضوره المعنوي، والنفسـي، فنشأ وهـو يعي فلسطينيته بدقة متناهية، وشكلت ذاكرته ذاك المكان، وطبعته في داخله. وحين واجه وعيه حضور ذاك المكان، اكتشف كم المعاناة والقهر، الذي يتعرض له ذاك المكان وأهله يوميا، مما جعل له حضوراً غير عادي، في ذاته أولاً، ومن ثم حمله لشعره ثانياً، وتمثله تمثلاً كبيراً بكل تفاصـيله ودقائقه.

وقد نما هذا الحبل السـري بينه وبين فلسطين الوطن، وظل يكبر حتى أصبح هاجساً. ووردت لفظة فلسطين مجردة في شعره أربع عشـرة مرة، والمدن الفلسطينية مئة وأربعا وخمسـين مرة، والقرى الفلسطينية سبع عشـرة مرة”.

وأكدت عنبتاوي أن اهتمام الشعراء بشكل عام بفلسطين يبدو واضحاً وجلياً؛ ذلك لأنها جوهر ولب الصـراع في عالمنا العربي مع العدو الصهيوني، فلا بد أن تأخذ الأولوية في الحضور كحدث ومكان. وهي تعبر بحضورها عن وجود الشاعر في أمته وتفاعله معها، فكيف إذا كان هذا الشاعر ابن هذه البؤرة، وهذا الصـراع الذي يكتوي بناره صباح مساء. وقد أثر حضور المكان الفلسطيني في تجربة الشعراء العرب على اختلاف أماكنهم، وبرزت القضـية الفلسطينية حاضـرة في شعر كلّ منهم، ذلك «لأهمية هذا المكان في اعتبارات الكرامة، والحرية وكافة الرموز في الهوية الوطنية والقومية بمعنى أنَّ المكان الفلسطيني أخذ موقعاً فاعلأ ومؤثراً في معركة الوجود”.

وقالت “ظهرت لفظة “فلسطين” كلمة ذات دلالة ووقع خاص في أشعار كثير من الشعراء العرب عامة، والفلسطينيين خاصة،؛ لأنَّها المكان الأول، والأهم، والأكثر جدلية في الحضور. «وشكلت بحضورها وحضور مدنها وقراها جسد النص الشعري، للتعبير من خلالها عن حجم الفجيعة وفقدان الحرية، وإبراز القهر الذي تعرضت له. وعندما يريد الشاعر أنْ يعبر عن حزنه وفجيعته تلك، فهـو يعد نفسه أحق الشعراء وأولاهم بذلك، فهـو يتماهى بها ويلتصق بها أشد التصاق، ليعبر عن حجم ما بداخله نحوها، ليستطيع من خلال نصه الإبداعي نقل أبعاد قضـيته، فالشاعر الفلسطيني خصوصاً “لا ينتمي إلى القضـية الفلسطينية كأي شاعر آخر يناصـر الحق والعدل، وإنَّما هـو في واقع الأمر ينتمي إلى ذاته باعتباره هـو القضـية، ولا يحتاج إلى مبررات أيديولوجية للوقوف إلى جانبها”.

ولفتت عنبتاوي إلى أن الشاعر إبراهيم نصـرالله عاش مفاصل كثيرة من قضـيته، وعايش أزماتها لحظة بلحظة. ورأى بأُمّ عينه ما يقوم به الاحتلال من انتهاك، وتدمير، وقتل، ومحاولات شـرسة لطمس المكان وتشويهه، وتغيير معالمه التاريخية، والحضارية، والسعي الدائب والمستمر لقهر الإنسان الفلسطيني فيه.

يقول في قصـيدة “حوارية المرحلة”

وهذي المنافي سـيوف على الكل

حتى يقطعها عنقنا

وهذه السواحل تبقى علينا

إلى أن تكون لنا

وتلك فلسطين

من يجرؤ الآن أن ينحني

ثم يطعنها.. صارخا

أنت لست فلسطيننا.

وتناولت عنبتاوي أنواع الأمكنة في شعر إبراهيم نصر الله، ومنها: المكان الأردني، والمكان العربي، والمكان الأجنبي، بالإضافة إلى ثنائية المكان الأليف والمكان المعادي كالبيت والوطن والنوافذ والمدينة والسجن والقبر.

وقالت عن رؤيته للمكان الأردني “عاش إبراهيم نصـر الله فترة طويلة من حياته في الأردن وما زال، فقد نشأ وترعرع في أحضان الأردن، وظهر ذلك جليا في شعره، وأخذ أبعادا كثيرة فأحب عمّان، والسلط، ومأدبا، والبترا، وظلت تلح عليه تلك العلاقة القريبة الودود، ومن أكثر المدن ظهوراً في شعره عمّان، فقد عبر عن علاقته بها بأشكال مختلفة وجميلة من التعبير، فعُنونت بعض قصائده باسمها الصـريح، ففي ديوان (أناشـيد الصباح) هناك قصـيدة معنونة بـ أزهار عمّان، وحين طُلب إليه في إحدى المقابلات أن يختار مكاناً أردنياً ترك أثرا في قلبه أجاب: في الأردن ربما عمّان وضواحيها، ربما أكثر من البترا نفسها. إن عمّان التي أحبها الشاعر، تبدو في شعره عنواناً للحب والفرح والحزن معاً. ويبدو كذلك تعلقه فيها كمكان مميز له في الروح والذاكرة حضور لا يمكن الانفلات منه أو الانسلاخ عنه، سواء أكانت في حالة القرب أم البعد. يقول عنها في قصـيدة (للبحر هيبته… وانحنى):

والتقينا فقالت:

لعمّان لون جرحي

ولون حنيني

ولون التي لم تزل ترتديني

ترابا.. وماء

والتقينا فقالت

لعمّان لون حنيني

ولكن ربما بفطرة ريح الشمال

تسافر للبحر كل مساء”.

وأكدت عنبتاوي أن للأماكن العربية حضورا لافتا في شعر إبراهيم نصـر الله، وقد عبر عن بعض الأماكن بخصوصـية متفردة. وقد استدعى تلك الأماكن في شعره بكل حدودها من المحيط إلى الخليج. يقول في قصـيدة “أشجار الغريبة”:

تحمل الآن فاطمة الصبر جبهتها

تستحم بماء الفرات

وتأوي لحاضـرة النيل

تذرع رمل الصحاري تقارن

ما بين قامتها والنخيل

وتكتب أحزانها في شوارع عمّان

تصبح أحزانها في الجليل.

وقالت “تتجمع الأمكنة العربية، هنا، ليصبح الجرح واضحاً ومكشوفاً، ومن ثم معبراً عن اتساع دائرة الألم في الواقع العربي، تواجه فيه فاطمة صبرها الطويل على تلك الجراحات الممتدة من المحيط إلى الخليج. والحقيقة الماثلة “إنَّ استدعاء المكان العربي في الشعر يعني استحضار المكان ذي القيمة الذي يجمع العرب كلهم على قلب واحد ضمن مكان واحد، فالمكان العربي يتم اعتباره غاية، وينتج زمنا عربيا، وشخصـيات عربية”.

ولفتت عنبتاوي إلى إن بداية الحديث عن المكان في الشعر العربي كانت من الصحراء، ثم بدأت الأماكن تتعدد وتتفرع، وتصبح ذات أوجه وأشكال، لأن الصحراء العربية كانت رمزاً للعراقة، والقوة، والخصوبة فهي تمثل تاريخ العروبة، وأرض الإنسان العربي المتجذرة عبر الأجداد، والآباء في تلك الأرض لذلك لا يمكن تجاهل أثر الصحراء، التي كانت المخزن الأول الذي ألهم الشاعر العربي اللوحات الشعرية، والفنية المعبرة عن تلك العلاقة القوية بها، حين رسم أطلالها، وتعلق بها أيما تعلق، ليعبر عن حبه الشديد لها، ففي قصـيدة “بين الماء والماء.. حلمي” يفصح العنوان عن ذاته، ويكشف أنَّ حلم الشاعر يتمركز ما بين المائين ماء المحيط، وماء الخليج، فهما همه الذي لا يبارحه أبدا. يقول:

للشـرق أبحث عنك

إلى أين؟

للشـرق أبزغ منك

يفر الخليج

وتأتي الصحاري

وما زلت أنت على حد وجهي هموما ورملا

أفتش عن ظلي المتبعثر

القاه في أول الليل خيلا

افتش عن ظلك المتبعثر

القاه في اخر الليل ليلا!!

يرتبط الشاعر بالشـرق، ويبحث فيه عن بلاده العربية كلها، فيركض منه إلى الخليج والصحاري محملا بهموم بلاده. ويظل يبحث عن ذلك العالم العربي المتبعثر والمتشظي في كل مكان حوله، وحين لا يجد نفسه في المكان يهرب إلى الزمان ممثلا في الليل، والصحراء التي يرتبط بها الرمل والنخيل. ويلجأ الشاعر إلى تأكيد هذا في القصـيدة ذاتها. يقول:

تأتي اليك الصحاري

يفر الخليج

وتهجرك السفن الأرصفة

فتلقين يومك فوق فؤادي

ننام على رمل أحلامنا

والأغاني الغريبة تمتد.. تمتد في صوتنا

ولا شـيء بين الخليج البعيد

وهذا النخيل المبعثر غير سـراب الصهيل.

وأوضحت أن الشاعر، هنا، يحس بقمة ألمه على عالمه العربي، الذي لا يجد فيه غير سـراب الصهيل الذي لا قيمة له، ولا فائدة، فحتى الصهيل الذي يرمز للقوة أصبح الآن سـراباً. والنخيل جزء مهم من عالم الصحراء، ومرتبط به منذ الأزل، لذلك تشكل النخلة عند الشاعر العربي دائماً الأصول العربية والمنابت الأصلية؛ “لأن النخيل يعد منذ القدم رمزاً للإنسان العربي الذي كانت بداية وجوده على الصحراء، لذلك كان استدعاء الشاعر للنخلة في الصحراء، هـو استدعاء لتاريخ عريق؛ لأنَّ شموخ الإنسان العربي بالصحراء مرتبط بها”.

وبالنسبة إلى المكان الأجنبي، رأت عنبتاوي أن الشعراء العرب تواصلوا مع الدول الأجنبية، وانفتحوا عليها في خطابهم الشعري، فكتب ابراهيم نصـر الله قصائد يعبر من خلالها عن علاقته مع هذه الدول.

وتأرجحت تلك العلاقة ما بين السلبية والإيجابية، وقد برز هذا المكان في شعره نتيجة للظروف السـياسـية، والعلاقات التي ربطت العالم العربي بذاك العالم، والجدير بالذكر، هنا، أنَّ الشاعر زار أميركا فعلا ولم يستطع أنْ ينسجم معها بل زادته تلك الزيارة نفوراً، وابتعاداً عنها. وهذا ما دفعه لأنْ يعبر عن استيائه منها، فكتب قصـيدة مطولة تحت عنوان “فضـيحة الثعلب”، تحدث فيها عن أميركا بكل تفاصـيلها، ووصفها بكثير من الصفات المنفرة، والعنوان يشـي بدلالات كثيرة. يقول:

قريبة كمشنقة

وبعيدة كقطرة ماء يتطلع إليها الرمل

لا أحد يتكئ فيك على أحد

والطوابق سباق القتلة للابتعاد عن

الأرض المشبعة بالصـرخات والدم

الباحث عنك لن يجد روحه

يصف الشاعر أميركا بعوالمها الداخلية، فيرى أنها أرض مشبعة بالدم والقتل، وأنَّها شكل بلا روح، ثم يوجه خطابه لمدنها، وتحديداً نيويورك، التي يجدها غامضة وهشة، ومكانا لتجمع الضائعين والتائهين. يقول في القصـيدة ذاتها:

إنها نيويورك

أكبر من لاعب

وأبسط من لعبة تشبهها الرصاصة

غامضة كمسدس قرب النهر

وأكثر هشاشة من حديث ملتهب.

يريد الشاعر أنْ يهشم بحديثه المباشـر عن أميركا، هذا النموذج المتغطرس، الذي يتحكم بمصائر البشـر والعرب تحديدا. واستدعاء الشاعر العربي للمكان الأجنبي، يأتي في أغلب الأحيان لتسليط الضوء على مرارة تلك العلاقة، التي ربطت عالمه العربي بذاك العالم، صاحب القوة والسلطة والغطرسة.

ويذكر أن هناك دراسة قام بها محمد عبدالقادر لهذه المطولة، وقد قال فيها: “إن قصـيدة (فضـيحة الثعلب) نتاج رحلة فعلية، لا ذهنية، قام بها الشاعر إلى أميركا وهي بهذه الملموسـية تجربة حية جديدة لم يخبرها الشاعر من قبل، وإنْ كان يقوم بتلك الزيارة مختزنا ما يكفي من الوعي والانطباعات والصور التي تراكمت عبر معايشة خارجية”.

تبدو صورة أميركا في هذه القصـيدة صورة مكان مشوه، ففي مطولته يقول:

الشوارع مستباحة

وضوء القمر يتفتت فوق السطوح

أيها المتعب

لا مكان لك سوى هذه الشـرنقة المنسوجة

من فضلات نيويورك.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى