الأجانب ينعشون ميزانية قرطاج والتونسيون يتفوقون جماليا

صابر بن عامر

اتسمت عروض الدورة الثالثة والخمسين من مهرجان قرطاج الدولي إلى حدود كتابة هذه الأسطر، تحديدا من 13 يوليو حتى الـ23 منه، (تعود العروض في 27 يوليو) بالطرح الأحادي، أي العروض الموسيقية، وإن تنوعت بين تونسية (ثلاثة عروض) وثلاثة أخرى بين سورية ولبنانية وفرنسية، وهي لكل من فايا يونان وراغب علامة ومغني الراب الفرنسي بلاك آم، علاوة على عرض الكوميديا الموسيقية “أميرة الثلوج: وتستمر المغامرة” الفرنسي أيضا، وهنا نتحدث طبعا عن عروض المسرح الأثري بقرطاج لا العروض الموازية خارج أسواره.

وقد تفاوت التقييم بالنسبة إلى عرض الافتتاح التونسي الذي أمّنه الموسيقي شادي القرفي، والمعنون بـ”فن تونس” بين من يعتبره عرضا مجددا وآخر يراه تعسفا على تاريخ الفن التونسي على اعتبار أن العرض يقدم نتاج ستين عاما من الفن التونسي، أي من دولة الاستقلال حتى اليوم، بطريقة أقل ما يقال عنها إنها تقطع مع السائد.

والقطع مع السائد هو ما يحسب للعرض الذي أتى بأصوات تونسية من أجيال مختلفة عبر كتابة سيمفونية لأغان قديمة، وهذا التصور الجديد المنطلق نحو التجريب بأجنحة حاملة لقراءات متعددة أربك بعض المحافظين وحراس المعبد القديم الذين لم يرو في ما قدّمه القرفي إلاّ نوعا من التشويه الممنهج للتراث، والحال أن التراث صنيعة الأجداد التي يتداولها الأحفاد بالترميم والصيانة والإضافة إليه أيضا.

والتجريب في الفن له خصوصياته ومدارسه التي لم ينجح في إتيانها عرض “المدحة حضرة رجال القيروان والساحل” (وسط) لحميدة الجراي، والذي قيل عنه إنه عرض إنشاد صوفي، لكنه أتى على شاكلة مديح للأولياء الصالحين لا أكثر ولا أقل، بل وأقل بكثير على المستويين الجمالي والفني من “حضرة” الفاضل الجزيري و”زيارة” سامي اللجمي اللذَين حاولا بدورهما الاهتمام بالمدونة الصوفية التونسية كل بطريقته ومرجعيته.

ويظل الإجماع حاصلا بين التفوّق الفني والجمالي لعرض “لمدينة” للثنائي نافع العلاني في التصور الموسيقي وأمال علوان في الإخراج، والذي جاء في شكل أوبريت موسيقي متكامل نصا وإخراجا وموسيقى وملابس مقدما فسحة فنية رائقة بين ثنايا الموروث الموسيقي التونسي منذ بدايات القرن العشرين وحتى اليوم.

وأوبريت “لمدينة” اعتمد على الشعر والموسيقى والغناء والتعبير الجسماني لتجتمع هذه الخصائص في منظومة واحدة اهتمت أيضا بجمالية التزويق والديكور والأزياء والإنارة، ورافق العرض في فصوله الثلاثة الحكواتي والمؤرخ عبدالستار عمامو، الذي قدم في مستهل كل جزء أبرز ملامح أجواء تونس في كل مرحلة تاريخية سواء قبل سنة 1934 أو إبان تأسيس المعهد الرشيدي والثورة التي عرفها الحقل الموسيقي آنذاك وصولا إلى الفترة الحالية.
“لمدينة” وإن حضره جمهور قليل العدد، وهذا أمر مفهوم على اعتبار أن التجربة جديدة والأسماء المؤثثة له ليس لها الإشعاع الجماهيري الواسع، علاوة على نقص الدعاية الإعلامية للعرض، يظل علامة فارقة في برمجة مهرجان قرطاج لهذا العام الذي راهن على الأسماء التونسية، فكسب الرهان إلى حد الآن ولو بنسب متفاوتة.

وعلى خلاف العروض التونسية التي واكبها جمهور قليل العدد، وفي أفضل الحالات متوسط العدد، مقارنة بالعروض الأجنبية التي غصت بها مدارج المسرح الروماني بقرطاج، خاصة حفل راغب علامة.

فهذه العروض أقل ما يقال عنها أنها عروض تجارية ومستهلكة ولا تقدّم جديدا أو رؤية ثقافية مؤسسة، باستثناء ربما حفل السورية فايا يونان، التي اكتشفها الجمهور التونسي في ثالث حفلات قرطاج لهذا العام، فغنت في الـ15 من يوليو الجاري أعذب أغانيها بدءا “بيناتنا بحر” و”احكيلي عن بلدي” مرورا بـ”لي في حلب” و”نم يا حبيبي” و”زنوبيا” التي أهدتها لمدينة تدمر بعد ما عرفته من دمار جراء الحرب، وصولا إلى “أحب البلاد” للشاعر التونسي الراحل محمد الصغير أولاد أحمد.

والاستثناء الذي مثلته فايا يونان في عرضها بقرطاج ينسحب أيضا، ولو بنسبة أقل، على العرض الفرنسي “أميرة الثلوج: وتستمر المغامرة” (عرضين متتاليين)، والذي جاء كوميديا موسيقية باللغة الفرنسية جمعت العائلات التونسية (كبارا وصغارا) على طبق فني مليء بالألوان والأغاني والعواطف مع شخصيات سحرية تتحرك وترقص وسط ديكور ثلاثي الأبعاد يتغيّر مع كل فصل من فصول المسرحية الغنائية، لكن ما يعيب العرض على جماليته نسقه البطيء أحيانا، علاوة على غياب المفاجأة في قصة انتصرت كالعادة للخير على حساب الشر.

أما عرضا كل من الفرنسي بلاك آم واللبناني راغب علامة، فهما عرضان تجاريان بكل ما تحمله الكلمة من معان، فالأول ملأ مدرجات قرطاج بالأطفال والمراهقين والشبان من الجنسين، في حين كان الحضور النسائي هو الطاغي في حفل الثاني، الأمر الذي أنعش ميزانية المهرجان والسوق السوداء في سهرتين غاب عنهما الطرب وحلّ محلهما الصخب.

وغنى بلاك آم في خامسة سهرات قرطاج من سجله الغنائي “سيدتي بافوشكا” و”على طريقي” و”سأحافظ على ابتسامتي” و”النار” وغيرها، مصحوبا بفنان الديجي هيكو والمغنية الفرنسية ذات الأصول العربية ليندا.

وعلى منوال بلاك آم، غنى النجم اللبناني راغب علامة في سادسة سهرات المهرجان، من سجله الغنائي الطويل الذي ناهز الثلاثة عقود، فقدم من جديده “تركني لحالي” و”شفتك اتلخبطت”، ومن قديمه غنى “أنا عاشق نور عينيك”، و”أنا اسمي حبيبك” و”ما أقدرش أعيش” و”أنا ما بهزرش” و”يا ريت فيا خبيها” و”الحب الكبير” و”اشتقتلك أنا” و”يا بنت السلطان” وسط تفاعل جماهيري صاخب وصل حدّ الغناء بدلا عن الفنان وكأنه كورال مجاني، بل ويدفع أجر غنائه باهظا (أسعار التذاكر بين 30 و40 دولارا)، ليكتفي أحيانا علامة بالتصفيق وغناء المطالع والنهايات فقط.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى