أربعون عاماً على رائعة كاسافيتس «ليلة الافتتاح»: ثلاثة عوالم متداخلة لشخصية البطل: الداخلية والواقعية والممسرحة

سليم البيك

هنالك أعمال سينمائية تستدعي العودة إليها بين وقت وآخر، أعمال خالدة لا تنتهي، لا تَقدم، بل على العكس، فنعمة الترميم في السينما، وفي غيرها من الأعمال الفنية (كاللوحات الزيتية)، تجعل الفيلم أكثر نقاء مما كان عليه يوم عرضه الأول، وهذا حال العديد من كلاسيكيات السينما العالمية، من بينها فيلم أحد أبرز سينمائيي السينما المستقلة الأمريكية (والعالمية)، جون كاسافيتس، الذي صنع أفلامه بنفسه، كتابة وإخراجاً، بإنتاج متقشّف بعيداً عن الاستوديوهات الضخمة ومنطقها، فصارت أفلامه اليوم أعمالاً فنية، لا يمكن لأي حديث عن أمثلة للسينما المستقلة والفنية أن تتجاوزها، قد يكون هذا الفيلم أفضلها. «ليلة الافتتاح»، رائعة بالمعنى السينمائي الشامل، نصاً وصورة، حكاية ومونتاجاً. الفيلم الذي أُنتج عام 1977، من بطولة الجميلة جينا رولاندز، زوجة كاسافيتس وملهمته وبطلة عدة أفلام له، ويؤدي، هو كذلك دوراً رئيسياً في الفيلم. تؤدي جينا دور ميرتل، ممثلة مسرح تعيش أزمة مع نفسها وسنّها، ما ينعكس على أدائها على المسرح، وهي النجمة المحبوبة التي ينتظرها جمهورها، مهووساً، عند انتهاء مسرحياتها ليحظى بتوقيعها.
تبدأ الحكاية مع واحدة من هذه التواقيع، إذ تتعلق إحدى الفتيات بميرتيل، تلحقها إلى سيارة الليموزين التي تنطلق وتترك الفتاة واقفة في الشارع تحت المطر المنهمر، ليلاً، فتدهسها سيارة وتموت. تشكّل هذه الحادثة انعطافة في حياة ميرتل الشخصية والمهنية.
من ناحية تموت الفتاة التي رأت ميرتيل فيها شبابَها، تشبه هيئَتها حين كانت شابة، ومن ناحية ثانية تؤدي، في المسرحية، دور امرأة مسنّة نسبياً. الأولى وهي الفتاة، تموت، والثانية وهي المسنّة، لا تستطيع ميرتيل التعايش معها، فتقول لكاتبة المسرحية في حوار متوتّر بأنّها تحاول أن تؤدي الدّور دون اعتبار للعمر، دون أن تكون بالضرورة في المسرحية امرأة مسنّة، لأنّها إن «نجحت» في أن تؤدي دور امرأة في هذه السن فستفشل في أداء أدوار أخرى لاحقاً، أي أن الجمهور لن يتقبّلها بدور امرأة غير مسنّة.
من هنا نجد أن في الفيلم اشتغالا على سيكولوجيا ميرتيل، هواجسها وانهياراتها العصبية، علاقاتها المتخبطة مع من حولها، وطبيعة الوحدة التي تعيشها، رغم إحاطتها من قبل العديدين من محبيها، المخرج والمنتج والعاملين، وكذلك الممثل المقابل لها في المسرحية (كاسافيتس نفسه) الذي كان حبيبها السابق، والذي هو الآن ندّها كممثل.
يمتد الفيلم على عروضٍ للمسرحية التي تؤدي فيها ميرتيل، للمرة الأولى، دور امرأة مسنّة، عروض صغيرة وبروفات وحياة الفريق المسرحي ما بينها، مشاكل ميرتل وانعكاساتها على الجميع، وذلك كله تحضيراً للعرض الافتتاحي في مسارح برودواي في نيويورك، الذي ستتسبب فيه ميرتيل بكارثة.
لا تبتعد ميرتيل لحظة عن هاجس العمر لديها، فتبدو كالمسكونة بالفتاة التي دُهست أوّل الفيلم، إذ لا تكف عن الإشارة إليها، وكذلك بنفسها حين كانت شابة في السابعة عشرة من عمرها، تحب الجنس وجميلة ومرغوبة – بخلاف ما هي عليه الآن- وتبدأ عملها المسرحي بكل عنفوان. لذلك تدخل ميرتيل بهلوسات ترى فيها نفسها، تحدّثها وتتصرف كأنها أمامها، نراها كمشاهدين، فتاة جديدة تدخل إلى الشاشة لتوبّخ ميرتيل، في تداخل بين العالمين للشخصية الرئيسية، الخارجي الذي تعيش فيه أزمتها كممثلة، والداخلي الذي تعيش فيه أزمتها مع نفسها.
هنالك عالمان آخران في الفيــلم متجاوران كذلك، هما العالم الواقعي لشخصيات الفيلم وعالم المسرحية التي تأخذ مَشـــــاهدُها وقتاً معتبراً من زمن الفيلم، وطالما أن الشخصيات هي نفسها، أي أن الفيلم لا يخرج عن حـــــلقة العامِلين في المسرحية، فالحدود وإن كانت هشّة، بين العالمين، تتلاشى، وأشدّ ما يربطها هو الحالة النفسية لميرتيل المتخطّية للعالمين، فاضطرابها النفسي في حياتها الواقعية يرافقها في أدائها على الخشبة، بدون أن نعرف نحن، أحياناً، أثناء المسرحية، إن كانت تخرج عن النَّص أم أنّ دورها يتطلب منها ما تفعله.
هنالك تداخل في العوالم الثلاثة: الداخلي في رأس ميرتيل، والخارجي الواقعي في حياتها مع من حولها، والخارجي بدرجة أبعد، وهي المسرحية التي تؤدي بطولتها، ونقّلنا مؤلّف الفيلم كاسافيتس برشاقة بينها جميعها، نقلات متواترة لا حدود بينها، ما دمجها ثلاثتها لدينا، كمشاهدين، فلا يكون للفصل بينها أي معنى، تحديداً مع الحضور القوي، كممثلة وشخصية، لميرتيل التي كانت الخيط السميك الذي ربطها ببعضها، وكذلك مع تداخل غرف الفندق مع ديكورات المسرح، فكانت الأمكنة في واقع الفيلم وفي المسرحية فيه متماثلة.
كاسافيتس، الذي كاد منتجو فيلمه هذا أن يسحبوه من الصالات لفشله جماهيرياً في الولايات المتحدة، كان له، للمخرج ولفيلمه هذا وغيره، جماهيرية واسعة في أوروبا، حيث تجد الأفلام المستقلة الأمريكية سوقاً لها.
نال الفيلم جائزة في مهرجان برلين السينمائي، كما نالت جينا رولاندز الدب الفضي، لأفضل ممثلة. الفيلم هو تكريم من كاسافيتس لحبّين كبيرين لديه، امرأته جينا والمسرح.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى