أدباء من الشرق والغرب ماتوا قبل الثلاثين

محمد عبد الله القواسمة

من الحقائق المرة أن حياة الإنسان قصيرة، وأن متوسط عمره يزيد قليلا على متوسط عمر الحيوانات. وإن كان عمر السلحفاة أطول من عمره، فإن عمره أطول من عمر الفراشة والدجاجة والأرنب. مع هذا العمر القصير فإنه يستطيع أن يقوم بأعمال ذات فائدة للمجتمع، وتأثير كبير في تطور الحياة وتقدمها. وربما في مرحلة من مراحل العمر يتعجب المرء كيف اتسع عمره لكل ما قام به من أعمال.
في الحقيقة، يوجد كثير من الناس يمتد بهم العمر، ويغادرون الحياة دون أن يبقى منهم أثر. وفي المقابل يوجد غيــــــرهم ممن توفوا قبـــــل سن الثلاثين، لكنهم تركوا بصــــمات في الحياة، وخلفوا وراءهم إرثا عظيما من الأعمال الخالدة، والأفكار العميقة التي تتحدث عنهم، وتُبقي ذكرهم حيّا.
رأينا في مختلف العصور والأزمان أدباء خرمتهم المنية وهم في العقد الثاني من العمر. فهذا طرفة بن العبد من أشهر شعراء العصر الجاهلي، مع أنه لم يكتب شعرا كثيرا، لكــنه برز في معلقته التي مطلعها:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
حافلا بالأحداث وهواجس الروح، وبالأفكار العميقة عن الحياة وبالموت، ومنها دعوته إلى قطف ثمار اللذة قبل فوات الأوان. لقد فارق الحياة مقتولا، وهو في السادسة والعشرين من العمر؛ لأنه هجا ملك الحيرة عمرو بن هند.
ومن شعراء العصر الحديث يبرز أبو القاسم الشابي (1909- 1929) الذي توفي في العشرين من عمره إثر مرض قيل إنه ضعف في القلب أو السل. وهو صاحب القصيدة المشهورة «إرادة الحياة» التي كان مطلعها شعارا لما يسمى ثورات الربيع العربي.
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ومن الشعراء الغربيين الذين توفوا في سن مبكرة نذكر الشاعر الإنكليزي جون كيتس (1795-1821) الذي مات وهو في السادسة والعشرين من العمر. وكتب بنفسه على شاهدة قبره: «هنا يرقد شخص ما كتب اسمه على الماء» وكيتس من أشهر شعراء الرومانسية في مطلع القرن التاسع عشر. ومن الذين تأثر بهم الشاعر الإنكليزي ألفرد تينيسون (1809-1892).
ويستوقفنا طويلا الشاعر والكاتب المسرحي الإنكليزي كريستوفر مارلو (1564-1593) الذي انتهى مقتولا وهو في التاسعة والعشرين، لقد عاش هذا الكاتب حياة صاخبــــة مضطــــــربة لأب إسكافي بين شقيقتين سيئتي الخلق. ودرس في جامعة كامبريدج، ونال شهـــادة البكالوريوس في الأدب والفلســــفة عام 1584. ثم امتــــدت دراســــته فحصل على الماجستير، ولكن الجــــامعة ترددت في منحه الشهادة عندما ارتابت فــي مواهـــبه؛ لأنه غاب طويـــــلا عن الدراســة، إذ كان عميـــلا ســــريا يسافر إلى فرنسا؛ ليراقب الكاثوليك هناك لمصلحة مخابرات الملكة إليزابيث الأولى الأنجليكانية التي كانت تخشى أن تحاك مؤامرة عليها. وأخيرا تدخل مجلس الملكة عند إدارة الجامعة فمنح مارلو درجة الماجستير لما قدمه من خدمات للملكة.
يعجب الإنسان كيف اتسع العمر القصير لمارلو وسط هذه الظروف المضطربة ليبدع الشعر ويؤلف المسرحيات، فمن شعره الذي نشر بعد رحيله قصيدة «من الراعي العاشق إلى حبيبته « التي نشرت عام 1599، وملحمة «البطل والدائن « التي نشرت عام 1598. والأعجب أنّه في ست سنوات، كما يذكر في تاريخه، ألف مسرحيات مهمة، منها: مسرحية «يهودي مالطا» التي كتبها وهو في الخامسة والعشرين من عمره. وهي مأخوذة من تجربته الذاتية عندما كان جاسوسا. وقد مزج فيها بين التراجيديا والكوميديا المثيرة للاشمئزاز. ويقال إن وليم شكسبير استند إليها في تأليف مسرحيته «تاجر البندقية».
ومن مسرحياته «تيمورلنك العظيم» وهي أول مسرحية كتبها مارلو . وقد عالجت الطموح، وجعلت منه شبحا مرعبا، وهي التي أوصلت مارلو إلى القمة حتى أطلق عليه لقب القلم الناري، وصاحب السطر الأعظم، ثم مسرحيته المأساوية «ديدو ملكة قرطاج، ثم مسرحية «إدوارد الثاني» التي تجرأت في الحديث أول مرة عن موضوع اللواط. ومن أفضل مسرحياته مسرحية «الدكتور فاوست « المأخوذة عن قصة الدكتور فاوست الألمانية التي تناولت موضوع الخطيئة البشرية، واستحضرت ضمير الإنسان المعذب.. أما مسرحيته الأخيرة فهي «مذبحة باريس» التي تناولت موضوع إبادة البروتستانت الهوغونوت في فرنسا.
انتهت حياة هذا المسرحي في حانة. فيروى انه كان مطلوبا لحضور مجلس الشورى الذي كان عضوا فيه، إلا انه غاب عنه، وقضى يومه مع ثلاثة نبلاء في حانة ديبتفورد في لندن، وكان الثلاثة من المخابرات السرية وأعضاء في مجلس الشورى. فدب شجار بينهم على من يدفع الفاتورة، وقيل إن مارلو سحب خنجرا على رفيقه المدعو انغرام فريزر وطعنه، لكن فريزر أمسك الخنجر ولكمه لكمة مميتة على عينه اليمنى. وبعد يومين من مقتله دفن في مقبرة مجهولة. ويرجح المهتمون بحياته أنه قتل بدوافع سياسية، منها اطلاعه على قضايا وأسرار كثيرة كانت ستورط شخصيات مهمة في البلاط. ولاتزال قضية مقتله لغزا محاطا بغموض كبير. ومات الذي وصف بأنه أبو التراجيديا الإنكليزية وخالق الشعر الإنكليزي غير المقفى. هكذا الحياة قصيرة، لكن رغم قصرها فهي كافية لأن يقوم الإنسان فيــــها بأعمال كثيرة وخالدة، كما رأينا عند طرفة بن العبــــد، وأبي القاسم الشابي، وجون كيتس، وكريستوفر مارلو. هؤلاء، ويوجد كثيرون غــــــيرهم ممن ماتوا وهم في ريعان الشباب، في العقد الثاني، أو الثالث، وتركوا آثارا من الصعب أن تُطمس بعد رحيلهم. لقد كانت لحياة كل منهم قيمة؛ لهذا يمكن القول إن عمر الإنسان لا يقاس بعدد السنين التي عاشها، بل بمقدار الأعمال التي قام بها، وهي التي يسمو بها إذا كانت عظيمة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى