هنريك إيبسن في صيغة أسترالية وموليير ألماني

جورجين أيوب

أتى عملٌ آخر مهم للمخرج الأوسترالي الشاب سَيمون سْتُون يطرح مسألة الأسرة والإرث بطريقة حادّة. ونصّ المسرحية عبارة عن ملخَّص لمسرحيّات هنريك إيبسن، الكاتب النروجي الذي عاش في القرن التاسع عشر. وهو يستخرج من بعضها شخصيات يحمّلها سيناريوات جديدة تتبلور من خلال العمل مع الممثلين، والممثلون هنا فرقة تونيلغروب أمستردام، وهي من أفضل الفرق الأوروبية. ومن المعلوم أنّ إيبسن قد أولى أهميّة قصوى في مسرحيّاته للمآسي العائلية وللأسرار المكتومة التي تمنع الفرد من التحكّم بمصيره. وقد أتى السرد كأنّه المقابل العصري الغربي للعنة عائلة الأتريد اليونانية التي تنتقل من جيل إلى جيل. والشخصية الرئيسية في المسرحية هي المكان، هو بيت حقيقي موضوع على الخشبة ركائزه من خشب وحيطانه من زجاج، بيتٌ شفّافٌ ترى فيه كل شيء، يشعّ كمصباح في الظلام. والبيت موضوع على محور يدور عليه طوال العرض، يسمح بذلك من رؤية غرف مختلفة فيه كما يسمح بخاصة بتنويع وجهات نظر السرد. والاستعارة واضحة فالمسرحية – التي عنوانها تحديداً «بيت إيبسن» – ليست إلا للبوح عن أحداث مرعبة مكتومة جرت في هذا المكان سمّمت مصائر أهله. هذا البيت الذي نال جائزة لهندسته المرهفة قد بناه كِييس في اوائل الستينات كي يكون مكاناً للعطلة والترفيه لعائلته. وكييس شخصيّة لامعة ومعقدّة معاً، مهندسٌ معماري بارع وغولٌ كتوم نسج علاقة جنسية حميمة مع ابنته المراهقة ومارس الزنا مع طفلات أخرى من العائلة. وارتكابه زنا المحارم هذا يأتي باللعنة على العائلة التي تتخبط جيلاً بعد جيل في ويلات لا نهاية لها. والمسرحية ليست إلا مواجهة بين الشخصيات يبوحون فيها بأسرارهم الشنيعة التي طال كتمانها، يمزّقون بعضهم بعضاً ويتمزقون بلا هوادة، في سرد لاهث لا يخضع لخطّ زمني مستقيم بل ينتقل بين التواريخ. أما الأداء، فهو مثالٌ للدقّة والحذق والتناسق بين الممثلين والقدرة على التعبير عن أقسى المشاعر بأوجز الوسائل. هنا لا صراخ حادّ، لا مبالغة، بل كلمات وإشارات تخرق في الصميم. والمسرحية التي تنقسم إلى ثلاثة مشاهد تنتقل، على عكس دانتي، من الجنّة إلى المطهر فإلى الجحيم وتنتهي مع ألسنة النيران تلتهم البيت فلا خلاص… «وقد يأتي لاحقاً من لا يعلم قصة البيت فيعجبه المكان والشاطئ والمنظر الخلّاب ويبدأ قصة جديدة…».

الفن والسلطة
الفنّان المسرحي والسلطة في أناشيد تمجّد المسرح وصنّاعه: موليير والباريسيون وبرز في هذه الدورة عملان مسرحيَّان مهمّان يتناولان صلة الفنان بالسلطة، أوّلهما عمل المخرج الألماني فرانك كاستورف، وهو أحد أهم المخرجين الألمان جعل من الفولكْسْبون (أي المسرح الشعبي) البرليني الذي كان مديراً له منذ خمسة وعشرين عاماً مسرحاً أساسياً في أوروبا. هذا العمل الذي ينقل إلى المسرح سيرة موليير كما قدّمها الأديب الروسي بولغاكوف في بداية الثلاثينات من القرن الماضي، في كتابَين له عن الفنان المسرحي الفرنسي، هذا العمل يعير اهتماماً خاصاً بعلاقة موليير المعقدة بالملك لويس الرابع عشر الذي حماه من جهة ضدّ المتديّنين والنبلاء، كما أنّه، من جهة أخرى، منع بعض عروضه لمجاراة القوى الاجتماعية الرافضة لها. والمسرحية التي تسخر من حمق السلطة السياسية ومن هشاشة الفنّانين وقابليّتهم للعطب نشيدٌ يدافع عن مسرح لا يخضع لقيود المموّلين والسلطة السياسية، وهي تجمع في خطٍّ واحد موليير وبولغاكوف الذي يدين إلى ستالين وحده المرات النادرة التي استطاع فيها أن يقدّم مسرحياته على الخشبة، وكاستورف الذي نَحَّتْهُ مؤخَّراً سلطات برلين الإدارية عن إدارة الفولكسبون، ممّا أثار احتجاجاً واسعاً في ألمانيا. وقد ربط كاستورف في تقديمه عمله بين تنحية سلطات برلين الإدارية له وعمله هذا.
وبالطبع أهمية «رواية موليير» هذه تكمن في فنّ كاستورف، بل لنَقُل في عبقريّته المسرحية التي تتجلّى هنا في عملٍ كل مواصفاته عملاقة: عمل من ست ساعات تقريباً تحت قبّة شاهقة في ساحة قصر العروض الشاسعة حيث تبدو عناصر السينوغرافيا، قياساً، صغيرة – ومنها مسرح خشبي قديم ينتقل على عجلاتٍ وغرفة الملك لويس الرابع عشر التي تكثر فيها الرموز المشيرة إلى الممّولين،- ساحة شاسعة حيث يعدو الممثلون فيبدو كفاحهم في سبيل مسرح حرٍّ، عدواً نحو هدف صعب المنال. وكاستورف الذي يُدخل في نصّ بولغاكوف نصوصاً أخرى مستقاة من مسرحيات راسين وكورنيل وموليير ونصاً لفاسبندر، قاطعاً بذلك حبل السرد، يطلب من ممثليه التزاماً جسديّاً كلّياً ويعتمد على الفيديو الذي يلتقط وجوههم تتلوّى وتكشّر وتبتسم في مبالغات تعبيرية بعيدة عن الحسن الذي يقود الجمالية السينمائية. ولهذا العالَم العملاق فنّانوه العمالقة الذين يفرضون الإعجاب وأولهم الممثلّة الفرنسيّة جان بَالِيبار التي تلعب دور مادلين بيجار، رفيقة موليير، وتبدو جوهرة تتألّق في أناقة أداء لا تني على رغم الأهواء العاصفة، والفنّان الفرنسي جان-داميان باربين الذي يتألق في أصالته مهما كانت المبالغة، كما يتألق في دقّة أدائهما الفنّانان الألمانيان ألكسندر شيير في دور موليير، وجورج فريدريك في دور لويس الرابع عشر.
أما العمل الثاني الذي هو نشيد نابض بالحياة يشيد بالمسرح، فهو عمل الفنّان أوليفي بي الذي نقل فيه إلى الخشبة روايته «الباريسيون» المنشورة عام ٢٠١٦. والمسرحية التي تدوم أربع ساعات تقريباً تروي مسيرة شاب طَموح يقدم إلى باريس من مدينة صغيرة بعيدة ويتعهّد أمام نفسه «فتح» العاصمة، على غرار راستينياك، بطل بلزاك في «الكوميديا الإنسانية»، حين يأتي إليها من دون أن يعرف أحداً فيها. هذا الشاب الذي يشبه بالطبع كثيراً أوليفي بي نفسه، يسلك مسيرة حافلة يواكب فيها وجوهاً من الدعارة مؤثِّرة في إنسانيتها العميقة، تبدو أكثر اهتماماً بالسياسة من السلطات الإدارية أو السياسية نفسها. وترى المسرحيّة أنّ كُنه الباريسيين هو خضوعهم للموضة، جواباً عن غياب الله وانهيار المثل السياسية العليا. ويتطرّق أوليفي بي في المسرحية إلى مواضيع هي في صلب عمله السابق، أورلندو، بل في صلب عمله بعامة، ومنها الحب المثلي وانفصام المرء في رغباته بين زهد ورغبة في ملذّات العالم، والعلاقة بالله والسخرية من السلطة السياسية – ومن وزير ثقافة قد تكون الثقافة آخر همّه. وقد لا يكون الجانب الأكثر جرأة في مسرحيّته تعرّي الممثلين ولا الكلام عن المثلية والجنس ولا سخريته من السلطة السياسية، بل قد يكون إدراجه في السيناريو بحث الشخصيّات الحثيث عن الله في مشاهد يتحاور فيها أكثر من واحد من الشخصيّات بشغف ولوعة مع راهب دومينيكي، وهو بحث تُسمع فيه أصداء صوت بول كلودل وغنائيته في «حذاء الساتين» وغيرها من المسرحيّات. فمَن من المخرجين الغربيين المعاصرين يمكنه الآن إدراج تساؤلات من هذا القبيل في أعماله المسرحية؟
أمّا ديكور «الباريسيين» وأضواؤه فهو رائع الأناقة وهو من صنع بيار-أندري ڤايتز وقد حقّق هذا الفنّان كل ديكورات الأوبرا التى أخرجها أوليفي بي – فبي من كبار مخرجي الأوبرا الأوروبيين، إلى جانب عمله المسرحي. والديكور أرضٌ من مربعّات بيضاء وسوداء تمتدّ شبكتها على مدّ النظر – توحي المرايا بلا نهايتها – تنتصب عليها مباني الحجر الباريسية الهوسمانية المعروفة بأناقتها، ويرقص عليها أوريليان كما تتسارع عليها الأحداث، لاهثة الوتيرة، متلوّنة النبرة، طوال ساعات أربع تقريباً.

رئة المسرح وفن الضيافة
وثمة عمل ثالث هو نشيد بالغ الشاعرية يشيد بالمسرح وصانعيه وهو عمل للمسرحي البرتغالي تياغو رودريغيز، يدفع فيه إلى الخشبة مَن بقي طيلة حياته المهنية في حفرة تحت الخشبة. فقد أقنع المخرج البرتغالي الذي تسلّم عام ٢٠١٤ إدارة المسرح الوطني في ليسبونا، إحدى آخر ملقّنات الكلام في المسرح، كريستينا فيدال، أن تخرج من حفرتها وتروي حكاياتها على المسرح. وملقّن الكلام، كما نعلم، يهمس من حفرته الكلمة للممثّل الذي نسي نصّه خلال العرض. ومهنة ملقّن الكلام هذه تختفي تدريجيّاً من المسارح الأوروبية، وقد استبدلت الآلات التكنولوجية البشر في التلقين ودعم الذاكرات المتهافتة. والعرض ليس عرضاً وثائقياً بل هو تأمّل حول الذاكرة والنسيان وذاكرة الأمكنة وأنفاس المسرح ورئته الحيّة. ولم يتسنَّ لنا مشاهدة هذا العرض الذي أجمع الناس على ثنائه، ولنا إليه عودة عند مروره في باريس.
وأتى عملان مسرحيان في القسم الثاني من المهرجان حملتهما دورة خِرِّيجي المعهد الوطني العالي للفنون المسرحية ليؤكدا اهتمام الفنّانين المحترفين بنقل المعارف والصنعة المسرحية إلى الشبيبة. أوّلهما عمل المخرج فرنسوا سرفانتيس وعنوانه: «كلار، أنطون، وغيرهم»، دفع فيه الفنانين الشباب، انطلاقاً من عمل دقيق على الذاكرة الجسدية وحدها، إلى استدعاء مَن طبع حياتهم من البشر من أهل القُربى أو من ذوي القرابة الروحية. فتجلّت على الخشبة جمهرة من الأشباح النابضة بالحياة وردت من كل أقطار العالم ومن قرون خالية بعضها يعود إلى القرن السادس عشر، كلٌّ يحمل حكاياته ومأساته، وبدا عمل سرفانتيس، الذي يرى أنّ فنّ الممثّل هو فنّ «حسن الضيافة»، عملاً شخصياً ذا براعة وحسّاسيّة مرهفة، فريداً في نظرة هذه الشبيبة المتفائلة إلى المستقبل، وهي نظرة تكاد تختفي من المسارح الغربية المعاصرة. أما العمل الآخر، فهو عمل الفنان كْلمَان ِإرْفيو-لِيجِي الذي أخرج عملين لموليير هما ردٌّ على الانتقادات الحادّة التي أثارتها مسرحيّته «مدرسة النساء»، يلعب فيهما موليير وفرقته أدوارهم الحقيقية فيقدّم أحدهما فرقة تعدّ نفسها لتمثيل مسرحية والآخر مشاهدين يخرجون خائبين من مسرحية «مدرسة النساء». إلا أنّ عمل إرْڤيو-لِيجِي لم يكن مقنعاً لصعوبة تصوير المسرح في المسرح، ولأنّه يفترض من المشاهدين معرفة حقّة بمسرحيّة «مدرسة النساء» وبالسياق الاجتماعي في عام ١٦٦٣.

امرأة تنهض وتنطق في الظلمة
فهذه هي بعض الخيوط وبعض المسرحيّات التي استوقفتنا في المهرجان. ولنا حديث آخر عن الطفولة وعن العروض التي عمادها الصورة لا الكلام. يبقى إنّ المهرجان – الذي يجمع «أقلية» هائلة من ١٢٠٠٠٠ مشاهد تصل إلى ١٥٠٠٠٠ مشاهد، إن حُسب جمهور العروض المجانية، ليس قائمة مشاهد إنما هو فرحة واحتفال قد تكون وجوهه الأساسية في هذه الدورة النساء. منهن المذهلات في أعمال باهرة منذ العمل الأول كالمخرجة كارولين جويلا نغوين في مسرحِيّتها «سايغون» ولنا إليها عودة في الأشهر المقبلة عند عرضها في باريس. وقد يلخّص روح المهرجان وشاعريّته عمل كريستيان توبيرا، وزيرة العدل في العهد السابق، بالتعاون مع المخرجة آن-لور لْيَاجْوَا، اللتين وضعتا وأحيتا مسلسلاً مسرحيًّا مجانيّاً سمَّيتاه «سوف ننال كلَّ ما يُنال» دار في حديقة سيكانو كلّ يوم عند الساعة الثانية عشرة، وحشد كل يوم جمهوراً حافلاً من المستمعين. وهو عبارة عن قراءة نصوص شعرية وأدبية – مستقاة من أكثر من ٦٠٠ نصّ – تضع اللغة والأدب في صلب المسار السياسي. فالمعارك السياسية الكبرى تعتمد على الكلمة وبلا كلمة لا نضال من أجل الحريّة والكرامة، كما يقول أوليفي بي. وقد تكون الصورة العلم لهذه الكلمة ولهذا النضال في هذه الدورة صورة امرأة تنهض وتنطق في الظلمة داعية إلى التخلِّي عن تقسيم الإنسانية تقسيماً قاطعاً ونهائياً إلى أصدقاء وأعداء، إلى أهل الخير وأهل الشرّ.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى