أعمال لبول سيزان تعزف «نشيد الأرض»

أوراس زيباوي

بعض الوقائع يشبه الحكايات. أراد المتعهد والمهندس السويسري ليونار جيانادا عام 1973 بناء مبنى سكني فوق إحدى أراضي بلدة مارتينيي Martigny السويسرية على مساحة تقدر بسبعة آلاف متر مربع وفي موقع ساحر تحيط به جبال الألب من كل ناحية ويشكل محطّة لاستقطاب السياح. وقبل أن تبدأ الحفريات في ذاك الموقع، حصلت تنقيبات أثرية كشفت في حزيران (يونيو) 1976 وجود آثار لمعبد روماني، فما كان من المتعهد إلا أن غيّر توجهه، خصوصاً أن الاكتشاف الأثري تزامن مع وفاة شقيق له يدعى بيار وهو في الأربعين من عمره في حادث طائرة في إيطاليا عند نهاية تموز (يوليو) من العام نفسه. وبسبب تعلقه الكبير بشقيقه، قرر ليونار جيانادا أن يبني بدلاً من العمارة مؤسسة فنية تحمل اسم شقيقه الراحل تخليداً لذكراه. وبالفعل بدأت أعمال البناء مع مراعاة المحافظة على آثار المعبد الروماني، وافتُتحت المؤسسة نهاية عام 1978 في يوم عيد ميلاد الشقيق الراحل.
منذ البداية، أراد جيانادا أن تكون هذه المؤسسة مكاناً جامعاً للنشاطات الثقافية المتنوعة. فهناك أولاً المتحف الذي يضم الآثار التي ترجع إلى المرحلة الرومانية والتي عثر عليها في أطلال هذا الموقع التاريخي. هناك أيضاً، بموازاة المتحف الأثري، الحديقة التابعة للمؤسسة والتي تعد بذاتها تحفة فنية وطبيعية. فهي تشكل متحفاً لمنحوتات حديثة ومعاصرة في الهواء الطلق. قرابة خمسين منحوتة تقف كالأشجار وتحمل تواقيع نحاتين وفنانين عالميين من جنسيات عدة، منهم رودان وبرانكوزي وهنري مور وكالدير ونيكي دو سان فال وميرو وشاغال… والحديقة مفتوحة للزوار طوال أيام السنة، علماً أن عددهم منذ إنشاء المؤسسة بلغ عشرة ملايين زائر.
ما يميز هذه المؤسسة ويساهم في شهرتها العالمية المعارض الموقتة التي تقام سنوياً وتحتوي على أعمال لأبرز فناني القرنين التاسع عشر والعشرين، ومنهم رودان وهنري مور وجورج براك وبول كيلي وفان غوغ وبيكاسو وكاندينسكي وماتيس ورونوار ومانيه ومونيه… وهناك تركيز على الفنانين الانطباعيين ومن يدور في فلكهم.
ضمن هذا التوجه، يقام حالياً معرض كبير مخصص لأعمال الفنان الفرنسي بول سيزان (1839-1906) تحت عنوان «نشيد الأرض»، وهو يشكل حدثاً ثقافياً مهماً لأنه يضم نحو مئة عمل من بينها أعمال تعرض للمرة الأولى، وهي موزعة بين المشاهد الطبيعية والطبيعة الصامتة والبورتريهات التي تظهر مساهمة الفنان الكبير في مسيرة الفن الحديث وكيف نهل منه العديد من رواد الحداثة ومنهم بيكاسو وماتيس.
ويتزامن هذا المعرض مع معرضين آخرين لسيزان يقامان هذا الصيف، الأول في متحف «أورسي» الباريسي ويتمحور على لوحات البورتريه التي أنجزها، أما الثاني فيركز على رسومه التخطيطية ويستضيفه في «متحف الفنون» في مدينة بازل السويسرية. ما يميز معرض «مؤسسة جيانادا» أيضاً طابعه الشامل، فهو يستعيد مسيرة سيزان منذ بداياته مبيّناً كل المراحل التي مرّ بها في مسيرته الإبداعية والأنواع التي برع فيها وكيف تجاوز المدرسة الانطباعية ومهّد للتكعيبية والتجريد لتصبح التقنية التي يعتمد عليها واحدة، سواء رسم المشهد الطبيعي أو البورتريه أو الطبيعة الصامتة.
«مؤسسة بيار جيانادا» السويسرية التي تعرض الآن أعمال سيزان هي مُنجَز ضخم لأنها تؤكّد أهمية الرهان على الثقافة في زمن تتغيّر فيه، أكثر فأكثر، توجّهات الثقافة تحت تأثير هيمنة المال ومنطق العرض والطلب. ومن هنا، يمكن أن تشكّل هذه المؤسسة نموذجاً يُحتذى لأنها تكشف قدرة المبادرة الفرديّة على الدفاع عن القيم الثقافيّة الأساسية وجعلها حاضرة ليس فقط في الماضي، بل أيضاً في الحاضر والمستقبل، بصفتها رسالة جمالية متجددة من جيل إلى آخر.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى