كاتب جزائري لا فرق عنده بين عالم الكتابة والواقع

اشرف القرقني

ليس جديدا على الكاتب عبدالرزاق بوكبّة اعتماده تلك الطّرافة في عنونة كتبه الإبداعيّة. فمن كتابه “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” إلى “ندبة الهلاليّ: من قال للشّمعة أحْ” إلى “كفن للموت”، وصولا إلى كتابه الأحدث “يدان لثلاث بنات”، نُلاحظُ ذلك على نحو جليّ. ثمّة مراوغةٌ هنا وطاقةٌ إيحائيّة مميّزةٌ تستقدم الانتباه إلى ملكة الكاتب في التّورية وشدّ الانتباه وتكثيف دلالات كتابه في آن واحد.
الداخل والخارج

للوهلة الأولى، قد يرسم القارئ لكتاب بوكبة “يدان لثلاث بنات” صورة في مخيّلته تتركّز فيها ثلاثُ بنات. ثمّ يحاولُ أن يوزّع عليهنَّ، في قسمة غير عادلة، يدين صغيرتين ناعمتين تليقان بحداثة أعمارهنّ.

وبعد التّردّد بين إمكاناتٍ واحتمالات مختلفة، يُشرقُ شخصٌ خفيٌّ كما لو أنّه جنّيّ يظهر للتّوّ. وتتّضح يدان قويّتان رحيمتان. إنّهما يدا الأب الكاتبِ، وقد انفتحتا لاحتضان بناته الثّلاث خارج النّصّ الأدبيّ وداخله؛ إذ لا فرق لدى بوكبّة بين هذا الدّاخل والخارج، يدانِ تتشكّلان في اللّغةِ وتصيران أقدر على الثّبات والمكوث في انفتاحهما الدّائم من أجل البنات الثّلاث وما يتّصل بهنّ في عالم المؤلّف الحميم، سواءٌ داخل بيته الصّغير أم داخل نصوصه الأدبيّة التي تتلبّسه، تلبّسَ الكائنات الماورائيّة التي يكتفي المُصاب بحضورها برؤيتها دون غيره، في عالمه المحايث والمفارق في آن واحد، هناك حيث تقيمُ “بوصلة التّيه”.
علامات السحر

تنبني معظم نصوص الكتاب على قصص وحكايات تنطلقُ مثلما هو معتادٌ بحدث قادح ومباغت. وإثر وقوعه، تتحرّك دوائر كثيرة في مياه الكتابة متقاطعة ومتوازيةً ومتداخلة بعضها في بعضٍ لتشكّل وحدةً موسومةً بعنوان. ثمّ يعاود بوكبّة الإمساك بخيط جديد والشّروع في عمليّة نسج جديدة لها ما يماثلها مع ما سبق وما يميّزها منها في نفس الوقت.

ومن بين هذه الدّوائر الثّابتة تقريبا، عدوله في كلّ مرّة عن مواصلة الحكاية الأولى التي تحدث مع بناته عادةً أو أهل بيته وجيرانه ليضع عنوانا فرعيّا هو الآتي: “فلاش باك”. ثمّ يمضي إلى أيّام طفولته هو الآخر ليحدّثنا عن قصص تتصادى مع حكايته هذه، وتخلق في تآلفها معها طاقة رمزيّة وإيحائيّة عالية.

في هذا التّنافذ بين الحكايات ترتسم بياضات معدّة للسّباحة من قبل القارئ. هناك يمكنه هو الآخر أن يرى الأشياء على الطّريقة التي تعيّن فرادته ويستذكر قيما للطّفولة والإنسان تتبدّل بتبدّل هذا القارئ. إنّها كتابةٌ سرديّة طريفة لا يكون حضور الشّعريّ فيها من باب الاستعراض والتّذكير بأنّ صاحب الكتاب شاعرٌ في المقام الأوّل وإنّما حلول الشّعر كينونة حرّة في النّصوص.

بعد أن يتمّ السّارد المؤلّف جولته في حكايات طفولته، يعودُ بنا إلى زمن الحاضر ليكمل ما بدأه من سرد يدور حول شخصيّاته الرّئيسة أي بناته الثّلاث المشاكسات النّشيطات في مساحة النّصّ قولا وحركةً. ويختم كلّ فصل بتلك النّهاية التي تجمع بين المفاجأة والطّرافة غير المتوقّعة في ما يشبه تقنية القصص القصيرة والقصائد محكمة البناء.

ومثال ذلك سعي البنات إثر اقتراح الوالد أن يعاملن أختهنّ مثلما تعامل شخصيّة كرتونيّة أخاها في ظلّ موت الأمّ، إلى تسميم أمهنّ حتّى يتسنّى لهنّ أن يختبرن تجربةً مماثلة لتجربة الشّخصيّة.

لكنّ انفصال النّصوص بعناوين لم يكن محكوما بانفصال دلاليّ، إذ تضيعُ شخصيّة من شخصيّات رواية السّارد مثلا في نصّ مّا ويظلّ يطاردها في نصوص أخرى. لذلك، تبدو هذه النّصوص فصولا لرواية من نوع خاصّ جدّا تجمع بين التّرجمة الذّاتيّة وبين الخطاب الأدبيّ الواصف بما أنّ السّارد يأخذنا في جولات متعدّدة يكون بطلها الرّئيس هو الكتابة.

الكاتب يختم كل فصل بنهاية تجمع بين المفاجأة والطرافة في ما يشبه تقنية القصص القصيرة والقصائد محكمة البناء
يحدّثنا عن “عباده” وعمليّة خلقهم وعن تمرّدهم عليه في أكثر من مرّة وحتّى عمّا يحبّه في تقنيات الكتابة وما ينبذه. إنّ هذه المراوحة بين ثنائيّات كثيرة قد تشكّل حواجز صدٍّ أمام آخرين هي ما يميّز بوكبّة إنسانا ومبدعا. وأشكّ في تلك القدرة على فصل هذين الكائنين خاصّة في ما يتعلّق بهذا المبدع الجزائريّ الذي تتجلّى قدرته على جمع التّناقضات وتحويلها إلى خيار ثالث هو خيار الفنّان دائما في القسم الأخير من الكتاب “بوصلة التّيه” حيث يسرد عبدالرّزاق حكاية وصوله إلى العاصمة الجزائر ومغامراته الكثيرة هناك.

إنّها حكايةٌ يعرفها معظم الجزائريّين وأصدقاء الكاتب من المبدعين العرب إذ لطالما كانت تتناقل في الجلسات وتهرّب في لذّة كما لو كانت مغامرات بطل مّا، سندباد من نوع خاصّ وحديث.

ولعلّ بوكبّة لم يشأ لحكايته أن تظلّ تروى في كلّ مرّة بطرائق يحدّدها السّياق والرّاوي المختلف، فاستعادها لنفسه، وقرّر تشكيلها في عالم نصّي فريد.

“يدان لثلاث بنات (يليه: بوصلة التّيه)”، نصّ أدبيّ أصيل يشبه قصبة صغيرةً في آخرها ريشةٌ، كان يحملها المؤلّف منذ طفولته. وقد أشار إليها بهامش في كتابه كان بمثابة التّوقيع. لا القصبةُ من جنس الرّيشة في مادّتهما الفيزيائيّة ولا مثيلتها من حيث الحجم والخصائصُ. لكنّهما معا تشكّلان وحدة طريفة لا تتجزّأ، هي علامة السّاحر.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى