رواية «أسطاسية» لخيري شلبي: مزيج من البدائية والحداثة

نسرين بلوط

البدائية المثقلة بالثأر والانتقام القبائلي والعشائري، أو القتل العشوائي، الذي ساد معظم البلاد العربية وامتدّت جذوره حتى يومنا هذا، هو مضمون هذه الرواية المنقوشة على صدر الواقع المصري، بدون أن تعتمد التكلف والمبالغة، بل التماهي مع المجتمع السائد في القرى النائية في مصر مكان حدوث الرواية.
خيري شبلي، كاتبٌ يتأرجحُ في التعبير عن الثأر القديم والظلم العتيد، والموضة والإيميل والأفلام في الوقت نفسه، يمنحُ كلّ حدثٍ خصوصيته ومكانته البارزة.
«أسطاسية»، هي أرملة قبطية، تخسر ولدها الوحيد محفوظ، الشريك لعائلة البراوي الراقية التي اتّخذت مكانة عالية لها في القرية لجذور نسبها وإبحارها في عالم العلم والمعرفة، في مشروع ضخ المياه، يُقتل على يد مجهولين، ويُحاصر الشك الكثيرين دون أن يتمكّن القانون من توريط أحد. فتهرع أسطاسية إلى ركن الدعاء والنواح والعويل، تستثير مشاعر القرية بأسرها صباحا بنشيجها المزعج المشؤوم، وتستفز ضمائرهم بضعفها المقهور من غياب العدل والعدالة، حتى يصبح العاقل مجنونا، والجاهل حكيما، وتجثم المصيبة على صدور الأهالي كأنها تخصّهم وحدهم، وتثقل كاهل أرواحهم بليلها الطويل.
حمزة، المحامي الشاب المتدرج من عائلة البراوي، هو الراوي الأساسي على ما يبدو في الرواية، إذ يشتّ الكاتب أحيانا ليضعها على لسان أحد أبناء القرية أو واحد من أقربائه. وعندما يموتُ والد حمزة، يتشبّث عمه عواد العمدة، وعمه عابد بأذيال الظلم والقسوة يفرضاها فرضا مجحفا على الجميع، وعمه عابد مزدانا بهيبة أبنائه الذكور، لكنه ما يلبث أن يخسرهم الواحد تلو الآخر لحكمة لامرئية، تتضح لاحقا في سياق السرد، لتطبّق عدالة الله على الأرض، حسبما رمى إليه الراوي.
يحاول الكاتب ما استطاع إبراز العقدة المذهبية بين الأقباط (أنسطاسية) وأهل القرية المسلمين، بتلميحات مسرّبة في مضمون الحدث، دون أن يتطرّق إلى التفاصيل الجامحة في الوصف. والديانة المسيحية كانت في طليعة البلدان العربية التي انتشرت فيها المسيحية في القرن الأول الميلادي، حيث بدأت بهجرة العائلة المقدسة إليها هربا من جور وظلم ملك اليهود حيرود الأول، وما لبثت أن تفشّت واستمرّت في العصور اللاحقة.
ولكن ملامح تلك الرواية المصرية السمراء بتجهمّها في عالم القيظ والحزن، تأخذ أحيانا في الضمور لكثرة التأويلات والحوار الشاق الطويل الذي يدفع القارئ لشطب التفاصيل واختزال صفحات كثيرة منها، وتستقطب الحدس المثير لقراءتها حينا، ثم لا تلبثُ أن تدحره برتابتها في حينٍ آخر، ما يظهر تشتّتا صاخبا يضمره الكاتب في أعماقه، فهي رواية مسهبة حدّ التململ للفكر، كان بالإمكان اختصارها إلى النصف دون التشريح الأدبي الدقيق لشخصياتها وبشكل صارخ ومضنٍ للفكر، أمّال اللغة المنسابة فكانت حاضرة في هندستها إلى حدّ بعيد، دون أن يكون للرواية هدف بعيد المدى، على الرغم من الأماكن القوية الكثيرة في بعض تفاصيلها. الدعاء المبحوح في حنجرة أسطاسية الذي يذرف حسرة لا يدرك مداها سوى صاحبتها، يشق عنان السماء ليكشف الأسرار المندسة في قذارة المصلحة الذاتية وعشق المال الأعمى، إذ يتضح أن عم حمزة هو القاتل في النهاية.
السينما ربما كانت حاضرة في ذهن الكاتب، إذ أنَّ الرواية تصلح للتمثيل، لكن التعتيم على الكثير من سيئات المجتمع ظهر في طول الحوار وقلّة الوصف. المزج العجيب بين الحداثة والبدائية، كان عزفا جديدا على قيثارة الرواية العربية الحديثة، حيث تمكّن الكاتب من تجميد الأحداث قليلا، ليظهر تكنولوجيا العصر دون أن يصيب روايته بخلل أو ضرر.
خيري شلبي كاتبٌ مصري لم يشأ أن يُحرق كلَّ أوراقه في رواية «أسطاسية»، حتى يلهم القارئ بمزيد من الخيال وقليل من الاستيحاء والكثير من الحكم التي باتت مكرّرة في كلّ زمان ومكان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى