شكلانية المعنى في «مسلة المدن المهاجرة» للشاعر احمد الشطري

خليل مزهر الغالبي

نقش الشاعر أحمد الشطري تعاليم وأخبار ووصايا مسلته التي ضمنتها وحملت اسمها مجموعته الشعرية الأخيرة «مسلة المدن المهاجرة» وكانت النقوش نصوصا شعرية كتبت بلغة امتعت جمالية القبول الشعري، وبفعل دينامية هذهِ اللغة في مستوياتها الشعرية العليا، وبمعنى توصيف جان كوهين للغة الشعر في تسميتها «اللغة العليا»، وقد حملت كتاباتها الشعرية اختلاجات الشاعر وشعوره القلق والمتوهج بالحنين لعودة مدنه المغربة والمهجرة على طول نصوص المجموعة، وفق افتراضات مفارقة عابرة لمفهوم جغرافية المكان، إلى مكان فضائي هجس به مخيال الشاعر بروح الاغتراب والهجرة، وهو يصف غيابها مع مجريات الأحداث والظواهر والأسباب الدالة لهذه الهجرة، وأبعادها النفسية والحسية والشعور الدافع والمطالب لاسترجاع أصالتها، وفق حوارات وتساؤلات شعرية حملت إنشاد الشاعر لهذهِ المدن وتجلياته عنها.
فمن الوجود المكاني للمدن، وهو وجود لا يقبل الحركة والرحيل بمعنى الفعل الواقعي الميكانيكي، كانت قراءاتنا لنصوص المجموعة، استقراء واستبيانا وتوضيحا، لقصدية الشاعر في دالة عنونة المجموعة كعتبة أولى في دخولنا القرائي لها، تلك الهجرة التي تمثل أزمة وجودية حسها الشاعر وسكنته، كمهيمنات ضدية طاردة له. ومن الإضفاءات المغيرة لعامل ظرف الزمان على مكانية المدن وتصيره لهجرتها وغربتها حتى اتسامها بالقلق والخوف والتشتت، وكما في دالة البعثرة للبيت الشعري من القصيدة التي تحمل عنوان المجموعة «مسلة المدن المهاجرة…
بعثرت أشواقي على المدن التي هاجرتها فاشتاقت الأرجـاءُ
ومن المتغيرات السلبية الحاصلة لمدن المجموعة والمسببة لهجرة هذه المدن ورحيلها وغربتها، ومن غياب القيم الجمالية بمفهومها الشمولي في العلاقات الاجتماعية وارتباكها الإنساني، ليزرع هذا التغريب شعورا لدى الإنسان الشاعر، الهجرة بمعناها «الهجرة داخل الوطن» المطابق للمفهوم السسيوسياسي «المنفى داخل الوطن»وهو أشد حالات النفي كإحساس يعيشه الإنسان داخل وطنه الأم ـ وبوجودية يلفها الحزن والتساؤلات القلقة الباحثة عن مسبباته التي تتضح في النص.
أنا إلف هـــذا الحزن .. إلف كآبتي (فالضحـْك) صوتي والبكا.. أصداءُ
أنا ذلك المطر الشـــهي .. تساقطي للآن ما حلمت بــه الأنـواءُ
قلقي حضاراتٌ وجرحي وجهةٌ ودمي على ليــل الرجاء ســـناءُ
بل يروح ليعلن عن ضياعة بعد ضياع طريق العودة، وهي حالة معبرة عن قسوة غياب مدنه وتيهه معها كما أعلنها في النص «مواسم الجفاف»
ألغت الريح خطوتي فطريقي ضل عني وقد جفاني الإيابُ
ويذهب في التعبير عن غربته في البيت الآخر من النص
النهارات والليالي سواءٌ صرن عندي فكلهما استلابُ
ومن غربة مدنه المهاجرة والمبتعدة عنه، وفق فعل العامل النفسي المولد لشعور هذه الهجرة، وكما في تصويرها شعريا في النصوص والتعبير عنها تواليا، ليبلور اليأس الواضح وانكساره في بحثه عن مدنه وتوصيفه لها بالعملية العاقرة، التي لا تولد له ما يحقق لهفته وتشوقه وحلمة في انوجادها وملاقاتها، ليشبهَ سفنه المبحرة الباحثة للوصول، بإبحار فوق جدب الرمال وبمثل ذلك العِنادْ المانع للوصول في نص «عِنادْ»
سفينك فوق الرمل يبحر طائشا وكل احتمالات الوصول عواقرُ
ويتضح حرص الشاعر في بنائه الشعري على تدفق طبيعة وانسيابية اللغة وملائمتها في خلق التلقي الواسع واستئناس قراءاته، حيث جمالية إيقاع المعنى المصاحب والمنسجم مع الإيقاع اللغوي وبلوغه لمكون «شكلانية المعنى « ومن الوصف المعبر المتوزع بين التشبيه والاستعارة والتوظيف والكناية، لتعزيز صناعة السبك اللغوي والممتد للتسريد الشعري، وهو موئل الشاعر في إنضاج وإيضاح ما يمكن تسميته بـ»استراتيجيته الشعرية»، كما يتجلى واضحا في مجهود واشتغالات الشاعر، الواضحة في النص المذكور سابقا «مسلة المدن المهاجرة»
لا النار تحرق قامتي لا الماء إني هنا في غيبها إطفاءُ
بعثرت أشواقي على المدن التي هاجرتها فاشتاقت الأرجاءُ
ونثــــرتُ آمالي بصحراء الرجا فاعشــــوشبت تحلو بها الصحراءُ
وهنا الشاعر يشير إلى الاعتداد بالنفس، ومن خلال علو قامته في الصعاب الحياتية وعدم قدرة هذه الصعاب بوجهيها المرمزين بالنار على حرقة، أو ذلك الماء على إغراق قمته، وكانت كلمة «إغراق» غير ماثلة كتابيا، ولكنها ماثلة شعريا، ومن استقرائنا لغير المرئي في النسق الشعري هذا، وما يظهر تأكيد هذا الاعتزاز وثوقه النفسي، ووجوده بعد بعثرته لأشواقه، وكذلك تلك الصحراء وهي دالة على الجدب، تقبلت رجاءه حتى اعشوشب باخضراره، وهذا من المفارق المقبول، وبما يعني الغرائبية المثيرة للإدهاش القرائي.
وفي إفصاح البيت الشعري اللاحق المفعم بجمالية الوصف المؤثر والبعيد عن النرجسية، ومن دلالة كلمة طير النورس، وهو الطير برمزيته، الذي يطلقه البحارة حين تياههم في البحر للبحث عن المكان أو الشواطئ المؤمنة لهم المكان، المخلص والمغيث لهم من الغرق، وكما يوضحها من ترشيد أضوائه الباقية، الإنارة على وسادة نومه ليدلل على بقاء أضوائه صاحية وواعية في نومه لإرشاد النوارس له… كما في النص التالي…
كل النوارس تستغيث بشاطئ وتنام فوق وسادتي الأضواءُ
لقد شهدت هذهِ المجموعة وجود رؤى أحمد الشطري في كيفية ووظيفة الشعر وقيمه، كما يتجلى في هذا البيت من النص نفسه
يستشــــهد الحرف النبيّ على فمٍ مرٍّ .. ويبــدأ من فمي الإحياءُ
حيث يضحي الحرف ليمنح الشعر الحياة في تأدية جمالية شكل المعنى الذي حرص الشاعر على التصريح به، لما له من أهمية في فلسفة الشاعر أحمد الشطري الشعرية وتعريفها للآخرين في مجريات النص
يستشـهد الحرف النبيّ على فمٍ مرٍّ ويبــــــــــدأ من فمي الإحياءُ
خوفي الطفولي اشــــــتهاءٌ راعفٌ وصباح أحلامي العذاب مســاءُ
عطشا يكاد الحرف يخرج من فمي متيــبســــا ومواجعي إطـــراءُ
أنا صوت هذا البحر في الزمن الذي غادرتـــه وبقيــتي الإصـغاء
وتظهر الأنساق الشعرية المدى البعيد للانسجام اللغوي في بناء النصوص، والقائمة على استجلاء بواطن المعنى وكتابته، لكونية الشعر في الابتعاد عن التسطيح المعنوي وتبسيطه، لما فيه من إلغاء المهم في لذة التلقي، وفق مفهوم التلقي كحوار بين النص والقارئ، ليكون الحرف لدى الشاعر بمثل النبي الذي يوصل ويبشر برؤى الشاعر الذي ينفخ بالحرف روح الحياة، لينطق بعد استشهاده في تضحيته، وهذا من جميل القول الوصفي، إضافة للجة الرغبة الشعرية داخل الشاعر ووصفها بالرغبة العابرة للمنع والتأجيل لانثياليته الشعرية المتوثبة وكما في نص «مديح الغوايات الجميلة» قائلا –
خارج من بين أحضان امرأة اتهجى الله كي لا أخطأه
أم هو الشعر الذي يحرقني حينما أدنو له كي أطفئه
ما ألذ الشعر تغوينا به حلمات حلوة كي نقرأه
ولم تكن الغوايات الجميلة كما رسمتها لنا عتبة القصيدة، باعتبارها هاجسا إيروسيا، بل باعتبارها طهرانية حسها الشاعر وهي بعيدة عن الإشكال والاتهام، لتبقى عند الشاعر معبرة عن سرائر ممنوعاته بالكشف الواضح، لتكون خطابا عقلانيا، كما في تهجيه لاسم الله في وصفيته للخلق الشعري ومعانقة تولداته مثل الخارج من أحضان امرأة الشعر، وهو يقارن بقياسته للذة الشعر عنده بمثل تلك الحلمة الغاوية للثمها كجمال شعري يدفع الشاعر لمعاقرته.
وتمثل جدلية اللفظ والمعنى القاسم الجمالي المشترك في خلق البناء الشعري المؤدي لقبولية التلقي واتساعها، وهذا من المائز في نصوص المجموعة، كتلاؤم وانسجام وسمة بارزة من سمات بناء النصوص. وقد حرص أحمد الشطري على بناء نصوص مجموعته هذهِ بانتباه لغوي وبإتقانة معرفية وثقافية منسجمة مع رؤاه في التكوين الشعري، وبما يؤدي للم وتفعيل جميع العوامل الصانعة لجمالية النص، وفق العامل المشترك لتعدد هذه العوامل، ليُمَكن الشاعر من تنطيق شواهد عوالمه الكونية واليومية التي تمور وتلح على البوح، والتي تضخمت بالتساؤلات عن غربة هذه المدن، كما في تساؤلات نص «إلى خاتم الرؤى». وتساؤلاته الحوارية المختزلة والموحية مع التميز الموظف للنبي يوسف وتشبيهه المجازي للحس التأريخي الفاعل، ويمكننا هنا من فهم مكانية الجب «كأحد مدن المسلة الشاهدة على جريمة التغييب المميت للإنسان، والمتمثلة بأقسى حالاتها في هذا التوظيف للقص القرآني، حين يكون الإخوة هم قتلة الأخ، وهذا ما يجسد ويظهر للقارئ أسباب غربة المدن وهجرتها عنا بالمقاس الوجداني والأخلاقي للخطاب الشعري وبتساؤلات واضحة أربكت اليقين الظني ومن ذلك الجزع المتنامي في هذا النص.
فيا يوسف المعنى ويا خاتم الرؤى شبعنا عباداتٍ ولم يبقَ منسكُ
وأنت على ما أنت وجه مغيب ووعد ضبابي به الظنُ يربك.
وذهب الشاعر في حواريته المتسائلة مع النبي المرمز في توظيفه داخل النص، ليوصلها لحالة الجزع المتمثل في أمر ترجيه الطالب لترك التيه المتمثل بالأمساك بأيادي التيه المضيعة لنا، والبحث عن الكف الموصلة للخلاص، ليعد هذا التعبير والتصوير الشعري أعلى حالات الخطاب الشعري عن غربة المدن وضياعها، وبمثل صَبْرَ غريب مهاجر داخل المكان المحاصر للإنسان المواطن عموما وللشاعر.
وكانت انجذابات الشاعر في الكتابات النصية، انثيالات متوترة متوالية ابتعد فيها الشاعر عن شكلية الانفعال الروحي واللغوي الطاغي، لذا حضرت بلبوس هادئ وشفيف في خطابها الشعري.
وكما في وصِفَ الشعر بأنه فن اللغة، هذا الفن الآخذ باللغة لتنشيط ولادات دلالية ومعان جديدة، تغني بها قاموس الأمة الناطقة بها، ومن نشاط وإبداعَ شعرائها المشتغلين فيها، حتى راح الفيلسوف والمفكر مارتن هيدغر في حصر المثول اللغوي للجنس الشعري بقوله «فالشعر لا يتلقى اللغة قط كأنها معطاة له من قبلُ، بل الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة. الشعر هو اللغة البدائية الأولى للشعوب والأقوام. إذن يجب خلافا لما قد يتوهم أن نفهم ماهية اللغة من خلال ماهية الشعر». وكما نرى الفعل اللغوي بتعبيره الناشط لتشبيه الوصفي المجازي في نص «ثغر»
عقدُ ذاك أم تلك شِفهْ قربيه من فمي كي أعرفهْ
سنتي هذي فهل أنكرها أيكون النهرْ من غير ضفهْ؟
وهنا تحقيق للمفوم الحديث للبلاغة الشعرية العابر للبلاغة اللغوية، وكما في معظم نصوص المجموعة، يتبين هذا في البناء اللغوي للأنساق والجمل الشعرية وتصويراتها، مثل فاعلية كلمة المعرفة في البيت الشعري وتفريقها المقارن بين العقد الجميل وشفة المرأة ومن خلال التقبيل، هذه المعرفة غير القابلة للإنكار في تلازمها له، وبمقارنتها التشبيهية لمجاورة ووجود الضفة للنهر.
اصطفت الأسئلة كثيرا وتواجدت على طول نصوص المجموعة، ومن تعمق روح الشاعر وكونية رؤاه، لذا حاول نبش والتعرف على الجوهر السحري للشعر، نقرأه ونراه موجودا بكل كيانه في أشعاره، ليتنفس قصائده، ويتماهى مع أشيائه اللاهفة للبوح. لقد بنى الشاعر احمد الشطري نفسه الشعري وفق ثقافة تجربته واشتغالاته اللغوية وامتيازها الشعري في الإيحاء المفعم بدلالات اللذة وحميمية البوح وفتنة التحول، واوضحت مجموعته الشعرية هذهِ جمال فضاءاته وهو يعيد ترميم وتأثيث الحياة بخطاب نصه الشعري.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى