نقمة «زوج» أوسكار وايلد «المثاليّ»

كاتيا الطويل

اعتاد قارئ أعمال الأديب العالميّ أوسكار وايلد (1854-1900) أن يقع في نصوصه على سخرية ونقد وفلسفات إنسانيّة اجتماعيّة صادمة. فقد تميّز هذا المؤلّف الإرلنديّ الحادّ اللغة والمنهج والمواضيع بقدرته الهائلة على تجسيد شخصيّات خارجة عن المألوف بطرق تفكيرها وتعاملها مع الواقع ونظرتها غير المتوقّعة إلى المجتمع. فاتّسمت شخصيّات وايلد في كتاباته بالتهكّم والبرودة والغرور الآسر سواء أكانت شخصيّات من مسرحيّاته أو روايته الوحيدة «لوحة دوريان غراي».
وقد تفرّد وايلد بقدرته على قول ما يعجز أهل مجتمعه عن قوله عبر شخصيّات عبّرت عن أفكارها بقسوة وصلافة متنكّرة ببلاغة العبارة وأناقة الحديث وقدرة هائلة على الإقناع. فمهما كان الموضوع صادماً أو متعارضاً مع القيم الاجتماعيّة المتعارف عليها والمتّفق عليها، مهما كانت وجهة النظر متطرّفة أو مغرقة في المادّيّة والبراغماتيّة، تمكّن وايلد من تبنّيها وإلباس شخصيّاته أدواراً تقنع المتفرّج أو القارئ بصحّتها ومنطقها. ولا يخفى على أيّ دارس لنصوص وايلد أنّه غالباً ما تدور الحبكة حول شخصيّة فذّة واحدة تمثّل بدرجة عالية شخصيّة الكاتب وتوصل مرسلته الفلسفيّة التهكّميّة بشكل قويّ مهيمن يرفع هذه الشخصيّة إلى درجة الأستاذيّة لتصبح محور الأحداث ومحرّكها. فكما هي حال اللورد هنري في رواية «لوحة دوريان غراي» الرجل المحنّك المسيطر، يظهر اللورد غورينغ رجلاً ماكراً في مسرحيّة «زوج مثاليّ» التي تعرض على خشبة مسرح à la folie théâtre الباريسيّ. فاللورد غورينغ الذي يظهر بدايةً بمظهر الشاب الأرستقراطيّ المتهكّم، يتحوّل إلى بطل ومخلّص ورجل حكيم ينقذ الموقف على رغم تصرّفاته المتهوّرة ومنطقه المستهتر. فهو الذي ينقذ رجل السياسة البارز السير روبرت من عمليّة ابتزاز كانت تهدف إلى تدمير حياته العائليّة والاجتماعيّة ومستقبله السياسيّ.
وقد حرصت مخرجة مسرحيّة «زوج مثاليّ» كاثي غيامين (Cathy Guillemin) على تقديم عمل مسرحيّ يحترم نصّ وايلد بمتاهاته وتلميحاته وأسلوبه الهزليّ كما عُنيت بإظهار عناصر السخرية والنقد الاجتماعيّ اللاذع كما جعلها وايلد في الأصل. لكنّ ما يؤخذ على هذه المخرجة هو ضعف الديكور وضعف أزياء الممثّلين. ففي عام 1895، تاريخ كتابة المسرحيّة وتاريخ وقوع أحداثها، كانت النساء الأرستقراطيّات على قدر رفيع من الأناقة وكانت فساتينهنّ وتنانيرهنّ باهرة مغرقة بالزخرفات والدانتيلاّ هذا عدا عن البذخ والإفراط في تصاميم الصالونات ومكاتب رجال السياسة وهو ما يغيب عن مسرحيّة غيامين ويظهر في الأفلام والمسرحيّات التي أعادت تقديم عمل وايلد ابتداءً من عام 1935 مع Herbert Selpin. فما ظهر على مسرح غيامين هو عكس حال المجتمع الذي تناوله وايلد. فبدت الأزياء باهتة غير لافتة، كما عانى الديكور من الركاكة والضعف في بعض المواضع بخاصّة عندما تعلّق الأمر بصالون رجل السياسة الشاب الطموح السير روبرت شيلترن.
ولا بدّ من التوقّف عند أداء الممثّلين الذي بدا في بعض المواضع مزيّفاً وغير مقنع. ففي عالم السياسة والأرستقراطيّة والرفعة الاجتماعيّة كان من الأفضل اختيار ممثّلين يتمتّعون بنوع من الأنفة الطبيعيّة أو اللياقة الجسديّة التمثيليّة التي توحي بالطبقة الاجتماعيّة التي ينتمون إليها. إنّما في ما عدا ذلك، تمكّنت هذه المسرحيّة من إيصال ما أراد وايلد إيصاله. فطفح العرض بحبائل المؤامرات السياسيّة وبالفساد الاجتماعيّ، كما تجلّى المجتمع الأرستقراطيّ في مختلف مظاهره، الحسن منها والقبيح. فحتّى السير روبرت المعروف بنزاهته وطموحه السياسيّ تبدّى رجلاً بدأ مسيرته السياسيّة بحيلة أوصلته إلى منصبه الرفيع الذي هو فيه.
وقد يتساءل البعض عن العلاقة القائمة بين عنوان المسرحيّة ومضمونها، فما علاقة الزوج المثاليّ بنصّ عن المؤامرات السياسيّة والاجتماعيّة؟ ولماذا هذا الخيار؟ لكنّ تسلسل الأحداث يظهر حذاقة وايلد في اختيار عنوانه.
فيفضح وايلد في نصّه نفاق المجتمع السياسيّ وخبثه وحرص أهله على سمعتهم. إنّما يظهر أيضاً خوف الرجل من تحطّم صورته في نظر زوجته. فالمرأة التي تضع زوجها في مرتبة رفيعة ترمي على كتفيه عبئاً ثقيلاً. تُسقط عليه هالة المثاليّة التي تمنع عنه القدرة على عيش حياته والوقوع في الخطأ. فتتحوّل حياة الزوج إلى كابوس بمجرّد أن يشعر بالهالة المرسومة حوله. وهذه كانت مشكلة السير روبرت الذي كان يخشى الفضيحة الاجتماعيّة والسياسيّة لكنّه أيضاً كان يخشى أن يخيب ظنّ زوجته به. كاد أن يقع في شباك فخّ السيدة شيفيلي التي راحت تبتزّه لمجرّد إنقاذ صورته في نظر زوجته.
يهدم وايلد في مسرحيّته هذه تابوهات الأرستقراطيّة ويفضح مكائدها السياسيّة والاقتصاديّة لكنّه يهدم وبشكل أساسيّ تابوهات العلاقة الزوجيّة ويُظهر أنّ الزوج لا يجب أن يكون مثاليّاً. الزوج المثالي عبء على الزوج وعلى الزوجة في آن واحد. فالزوج عاجز عن أن يكون مثاليّاً ومضارعاً للصورة المرسومة له والزوجة عاجزة عن منازلة مثاليّة الزوج التي ألبسته إيّاها فتضطر بدورها إلى لعب دور لا يشبهها ما يحطّم العلاقة والشفافيّة فيها. وتبدّت وجهة نظر وايلد ساخرة جليّة فجّة في آخر المسرحيّة على لسان شقيقة السير روبرت التي تفاجَأ عندما يدعو لها أحدهم بأن تحصل على زوج مثاليّ، فتقول بنبرة ساخرة: «زوج مثاليّ؟ يا للبؤس! إنّه لمفهوم بدائيّ. لا أريد زوجاً مثاليّاً. فليكن زوجي الزوج الذي يشاءه. وما شأني أنا»؟

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى