«تذكرتان إلى صفورية» لسليم البيك: فلسطين كذاكرة موروثة ومشتتة

رامي أبو شهاب

في روايته الصادرة حديثا بعنوان «تذكرتان إلى صفورية» يسعى الروائي الفلسطيني سليم البيك إلى استعادة جزء من مروية الارتحال الفلسطيني، وبوجه خاص تلك القائمة على الشتات المركب الذي اختبرته عدة أجيال فلسطينية، وهكذا، فلا جرم أن تنطوي الرواية على عدد من المستويات التي تتخللها القيمة المنوطة بالارتحال المركب لشاب فلسطيني يقيم في مخيم اليرموك في سوريا، ولد، ونشأ في دبي، وأخيرا استقر به المقام لاجئا في باريس، وهذا ينسحب على الكثير من الفلسطينيين بغض النظر عن مواطن الشتات.
مع أن الرواية تتأسس على قيمة مكانية تتحدد بقرية صفورية في شمال فلسطين، ما يعني الإحالة إلى التعلق بالمكان أو الوطن، غير أنها حقيقة تتعلق بالمكان المخالف، ونعني أوطان الشتات المؤقت والطارئ. فغياب الوطن يحضر ضمن فعل تعويض، فثمة هدف يتمثل بتحقيق زيارة قرية صفورية، وهو ما يجعل من الحبكة السردية مرتهنة إلى هذا المسلك، ما يدفع إلى وجود طبقات عميقة من الفهم، لاكتناه معنى الاقتلاع والشتات، وصولا إلى نفيه بتحقيق الذات لوجودها عبر التجذر في وطن غير مكتمل الصورة في ذهن الجيل الثالث، الذي يكون على هامش الأشياء والعالم، ولا يملك سوى الذاكرة. وبذلك تبقي العلائق غير مكتملة لأن ثمة موانع تعوق قيم الانسجام والاندماج في أوطان الشتات، ولعل هذا ما يميز الشتات الفلسطيني عن باقي تجارب الشتات في العالم؛ كون الفلسطيني يرفض الشتات ويفككه، وهو غالبا ما يسعى إلى التعلق بالغائب من المكان، أي فلسطين التي يقاربها مفهوما وفعلا، ولكن من منظور المقتلع، ولا سيما إذا كان ينتمي إلى الجيل الذي لم يختبر النكبة والخروج، وبذلك تتأسس علاقته مع فلسطين عبر مرويات أو متخيلات صاغها الآخرون، سواء أكانوا أفرادا، أو العائلة، وحتى الكتب والأفلام، وبذلك فهي مروية تصاغ طبقا للفهم والتجربة، وعلى المشتت أن يعيد تركيب عالمه بين هذه المكونات، وتحديدا ما يتصل منها بهويته المتشققة، التي غالبا ما توجد في مجال متحرك من الاستعارات والكنايات.

حكاية يوسف

يوسف الشخصية المحورية يتمثل حكاية شتات عائلته، بدءاً من جده الذي لجأ إلى سوريا، ومن ثم والده الذي أقام في الإمارات، ووصولا إلى يوسف عينه، الذي ورث شتاته إلى سوريا والإمارات، وأخيراً الشتات الثالث في فرنسا، كما هي عائلته التي تشظت في عدة أمكنة من العالم، ومن هنا يسعى يوسف لرؤية صفورية أو الوصول إليها من خلال جواز السفر الفرنسي، ومن موطن الشتات الفرنسي تحديداً، الذي يشكل ملاذا شتاتياً أقل قسوة من الشتاتات العربية.

عالم الشتات وقيمه الضائعة

تستند الرواية إلى سرد ضمير الغائب، حيث تتمحور معظم الأحداث حول شخصية يوسف، التي تشكل مركزا أو بؤرة سردية، تتجلى من خلالها قيم الشتات والنفي والارتحال، بما تنطوي عليه من تشظ يطال الروح، وعلاقتها غير المستقرة بالمكان، حيث يغيب الانتماء، وهكذا تبدو العلاقة بالفضاء الجغرافي إشكالية بما في ذلك المدينة والشوارع والبيت، ولا سيما في باريس، حيث نقرأ إسرافا دلاليا لرسم طبيعة علاقة المقتلع بالمكان، ومحاولة إقامة علاقة نموذجية، فدبي، والمخيم، وباريس كلها لم تلق استقبالا نفسيا من قبل يوسف، الذي يستشعر محدودية المكان، وإشكاليته الثقافية، فضلاً عن تكوينه الروحي، هو يعاني من محيطه في باريس، وهذا يشمل جغرافية السكن، والطعام، وحتى المرأة، ولاسيما ماري بائعة الخبز وابنتها، حيث تطغى نزعته الشرقية في التعاطي مع المكون الغربي، لتبرز تمثيلات جنسية لا تبتعد كثيرا عن الرواية العربية، وذخيرتها النصية كما جسدتها روايات «الحي اللاتيني»، و»موسم الهجرة إلى الشمال»، وبذلك تبقى هذه الرواية أسيرة هذا النهج، وبوجه خاص حين تعاين الذات الشرقية الآخر عبر المكون الجنسي، وهذا النهج ربما يكاد يحيف على مركزية العمل المعني بالشتات، وقيم الاندماج والتكيف، ومفهوم الوطن، ليبرز تنازع دلالي مركزه الإشكالية الحضارية، ومع ذلك فإن هذا النهج لا ينتهك بينة العمل، كونه جزءا من معضلة المشتت والمقتلع، الذي يبقى عالقا في فضاء المؤقت والطارئ، كما عبر عنها سليم البيك في بعض القطاعات السردية، وتحديدا علاقة يوسف مع المكتبة والكتب، فضلاً عن تسكعه في شوارع باريس، ومنظومة التوتر التي يختبرها في دبي، أو سوريا، أضف إلى ذلك حنينه إلى عالمه الأسري، والاتكاء على التذكر والذاكرة بوصفها أداة الفلسطيني لردم الاقتلاع، عبر إقامة علاقة عضوية ومعنوية مع الوطن، فلسطين، أو صفورية، وبذلك فإن ثمة وعيا جماعيا يتقاسمه الفلسطينيون مع قراهم ومدنهم، التي لم يعرفوها إلا سماعا، والتي شكلت أداتهم الوحيدة للتواصل مع وجودهم، وهويتهم المنتقصة، وهنا نكاد نقترب من فهم الذات بتكوينها المعقد، كما وضحها بول ريكور في تنظيره لإشكالية الذات وتموضعها الهوياتي.

الخطاب السردي

تتحدد أحد أهم السمات العامة للخطاب السردي للشتات بما يطال الذات من تشظ يتجلى في تعريف الذات في فضاء الآخر المضيف، وتحديدا في الدلالة العلمية، وهذا يكاد يتكرر في عدد كبير من الروايات الفلسطينية، فيوسف يتحول إلى جوزيف؛ ولهذا يسعى إلى مقاومة هذا الاسم، لأنه يزيح هويته، ويتماثل هذا مع القيم الجديدة، ومنها صنع القهوة وتناولها، أو الطعام، وحتى هذه الأشياء تنزاح عن قيمتها الشعورية لتتحول إلى معضلة نفسية وجودية، وبوجه خاص من حيث القدرة على تقبلها بوصفها عالما جديدا، فعلى سبيل المثال، الطعام الذي يتماثل بهامشيته مع الإنسان، فيوسف يتناول الأطعمة التي تباع للمهمشين والفقراء، كونها لم تعد طازجة، أو شهية. وهذا يكاد ينسحب على الجنس مع المرأة الفرنسية التي تبدو العلاقات مبتورة، غير مكتملة باستثناء «ليا» التي أظهرت حبا وتفهما لقضية يوسف، بل شكلت في بعض الأحيان نسقا من الاحتواء، ولكن هذا انتهك حين دعته إلى علاقة جنسية متعددة الأطراف، ما شكل استكمالا لأزمة تطال جزئية الاندماج الكلي مع الفضاء المضيف، وهنا تتخذ القيم الغرائبية تشكيلا رمزيا للإحالة إلى معنى الاختلاف للاجئ، المقتلع، فهناك ذيل نتن يلازم يوسف في البيت الأول الذي يستأجره في الحي نتيجة مسلكه الشرقي مع المرأة بائعة الخبز، ما يحيل إلى مرجعيات ثقافية شكلت وجوده في عالم غربي لا يحسن التعامل معه، ومع أن قصة المرأة صاحبة المخبز يمكن أن تقرأ بوصفها تجسيدا للترميز لنسق يرتبط بالتكوين الفكري للإنسان الشرقي، غير أنها تشي أيضا بمعضلة تمكن متخيل مرضي كامن في الشرقي الذي يواجه الغرب ضمن متخيل أيروتيكي، ولعل هذا يعلل بفائض من عدم استيعاب أن تكون خارج عالمك المألوف، وهنا يبرز التقيؤ بوصفه إحالة سيميائية لرفض الاقتلاع، والبلد الذي لا تنتمي له بكل ما يكتنفه من فضاءات ثقافية ونفسية، ومتعلقات، فالمشتت يعاني من عدم القدرة على الانسجام في المكان، فضلاً عن الوقوع في معضلة عدم الاستقرار ضمن ما نعته يوسف في رواية، بـ»عالم الشنطة»، وهي كلمة مأخوذة من كلمة «شنطة»، أي بمعني أنك دائما في وضع ارتحال، وهنا نقع على معنى نفسي عميق يسكن المقتلع، فهو يدرك أن حضوره في كل أوطان الشتات أو أوطان الآخرين ترتهن إلى معنى العبور أو المرور.

البنية والدلالة

لذا تتخذ فصول الكتاب ضمن التكوين البنيوي، مركزية التكرار في رسم العلاقة بالأمكنة، فيصفها بأنها مارا إلى تولوز… ماراً إلى اليرموك، ماراً مع ليا، مارا إلى صفورية، فاستعمال مفردة ماراً مع حرف الجر (إلى) يشي باجتماع نقيضين أولا المرور بوصفه حالة مؤقتة، ولكنه يصطحب بكلمة (إلى) التي تحيل إلى انتهاء الغاية المكانية، ولكن هذا غير متحقق عملياً بصفة خاص مع المكان، في حين أن مارا مع ليا، فهو يشي بتكوين طارئ لعلاقة ذات تكوين خاص، هي أقرب إلى فعل الاصطحاب، الذي لا ينطوي على قيمة كامنة. في حين أن البنى العميقة للحدث السردي المركزي تحيل إلى الرغبة بالوصول إلى صفورية، ما يؤسس للقيمة الدلالية لتذكرتين، حيث يتأخر يوسف عن اللحاق بالطائرة الأولى، في حين يغادر في المرة الثانية مع ليا، فثمة تذكرتان لا تذكرة واحدة، وفيها نقرأ تمثيلا موفقا للتعبير عن الإرجاء لعالم المقتلع، أو ذاك الارتهان للفضاء المؤجل للمشتت، خاصة حين تنتهي الرواية بمشهد أخير، حيث نرى يوسف وليا في صالة الانتظار، أو هي بوابة العبور إلى فلسطين، أو للعودة إلى صفورية، مع شيء من الغموض في ما يتعلق بحسم الأمر ونجاحه، وهذا نتيجة التنازع القيمي والأيديولوجي الذي يطال يوسف الذي يسعى إلى العودة إلى صفورية، أو هي ليست عودة بالمعنى الحقيقي، كونها غير مكتملة كما تصف الرواية، فالزيارة ترتهن إلى اعتراف بإسرائيل، من خلال مظهرها السياسي والوجودي، مطارها وسلطاتها، وبين رفض هذا النهج، أو قبوله، غير أن حواره مع ليا يحتفي بدلالة فلسفية عبر حوار يجمعهما، حيث تلغى إسرائيل كونها قيمة مؤقتة، أي تتصل فقط ببعد فيزيقي، بوصفها دولة قائمة لها أجهزتها، ومسمياتها، فلا شيء يعبر عنها سوى لافتة فقط، في حين تقدم القيمة المعنوية لفلسطيني بوصفها قيمة عاطفية مستمرة ودائمة في ضمير أهلها والعالم الحر.

شتات الذاكرة

يوسف الذي بدأ الارتحال بعد الحرب السورية، يخوض رحلة شاقة للوصول إلى فرنسا تهريباً كي يصل فقط إلى صفورية، لا إلى الشتات الفرنسي، وهنا تظهر المقاربة في رحلة تطال سوريا ودبي وتركيا واليونان وإيطاليا، التي كان مقصدها الأخير بلجيكا، غير أنها تنتهي بطريقة ما في فرنسا التي تشكل المحطة الأخيرة قبل صفورية، أو تلك البقعة الجغرافية الفلسطينية التي لا تظهر في الجسد السردي، حيث تحال إلى عالم غائب لا نملك معلومات عنه، أو هي لا تحوز عالما سرديا إلا بوصفها عالما يتمناه يوسف لتكتمل هويته، أو بوصفها دلالة تقع في عالم الإرجاء، وهذا ما يتصل بفلسطين عامة، التي تحضر في الرواية بوصفها قيمة معنوية، ولكنها تغيب في تكوين الحدث والحبكة، إذ لا يوجد الكثير من الذاكرة التي تحال إلى فلسطين كونها في عالم يوسف فعلا غير حاضر، فقط مروية، انتقلت إليه عبر الوراثة، فهو يتلمس أسسه الفلسطينية في عالم سردي يتمحور حول ذاته، بحيث لا نكاد نعثر على أصدقاء ذكور ليوسف، أو عالم مواز، فهو مبتور الصلات الاجتماعية شخصية أقرب إلى نموذج متوحد، علاقته محدودة، فقط تتصل بالمكان الإشكالي والطعام، والموسيقى والكتب، هي هوية ملتبسة فقدت تكوينها الطبيعي جراء الصدمة، فلا عجب أن يفقد ولاءه ويمضي في الزمن باحثا عن هويته ومعناه في هذا العالم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى