السوداني أسامة رقيعة: الطريق إلى تحقيق هدف الرواية محفوف بالمخاطر

عبدالدائم السلامي

جمع الكاتب السوداني أسامة رقيعة (مواليد بورتسودان سنة 1969) بين فنيْ القانون والأدب، حيث درس القانون واختص فيه ونشر في ذلك مجموعة من الكتب ذات الصلة بفقه القضاء والمعاملات، واهتم بالكتابة الأدبية في مجالات القصة والرحلة والرواية ونشر «خواطر وترحال» و«الوتر الضائع» و«ذكريات مدام س» و«زهرة البلاستيك» و«اللحن المفقود». وبمناسبة إصداره روايته الجديدة الموسومة بـ«الخروج» تحدث إلى «القدس العربي» حول الفعل الثقافي في السودان، وواقع الكتابة الروائية، ودور الروائي في إنارة طريق مجموعته الاجتماعية لتحقيق نهوضها الحضاري.
■ تُنبِئُ الملاحظةُ بأن غايةَ كتابتك الروائية تنصب على تفكيك واقع العلاقات داخل المجتمع السوداني وتحيين منظومة الأخلاق فيه، فهل يحيلُ هذا الاختيار على ثقتك في قدرة الرواية على دعم جهود الإصلاح الاجتماعي والثقافي؟
□ تُستعمل كلمة الثقافة في عصرنا الحديث في سياق الإشارة إلى الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. وهي ليست مجموع الأفكار الجديدة ولا القدرة على تنضيد الحكايا والقصص فقط، وإنما هي أيضا نظرية في السلوك تساعد على اقتراح أسلوب في حياة خيرةٍ ورسم السبيل السوي إليها بشكل عام، ولا شك في أن للروائي، وهو أحد الفاعلين في مجال الثقافة، نظرة للحياة ونظرية فيها منطلقتين من بنيته الفكرية والثقافية، وهو يختلف في ذلك عن غيره من العاملين في أصناف أخرى من الثقافة، ذلك أنه، وإن حاول على سبيل المثال سبرَ أغوار الرواية التاريخية المبنية على أحداث معلومة، لا يفعل ذلك على حد ما يفعل المؤرخ، بل هو يُحول الحدث التاريخي إلى محكي تظهر فيه الانفعالات الداخلية والمشاعر الإنسانية جلية وحية، ويضع يده على الأمور على نحو قد لا ينفصل (تماما) عن موقفه الأيديولوجي والسياسي والقيمي، وكذلك حينما يكتب الرواية الواقعية أو البوليسية أو رواية الخيال العلمي، فإنه يظل ذا وعي سردي بالعالَم من حوله، وبكل ما فيه من مفردات مادية ورمزية. وعليه، فإن الرواية فن مجتمعي يخاطب كل الناس، يحكي تفاصيلهم، يسبر أغوارهم ويصفي علاقاتهم بذواتهم وبوطنهم ومحيطهم العام. إنها فن يكتبه الروائي منطلقا من نظريته الفكرية والثقافية ليكشف عن مجريات الواقع وممكناته وينضد عبرها رؤية أحلامه لمجتمعه مستشرفا في ذلك مواطن الجمال والخير، وعليه تجدني على ثقة في أن للروائي مسؤولية اجتماعية ودورا حداثيا، هما معا ما يمثلان سندًا لكل مسيرة نهضوية لمجموعته الاجتماعية. فهو حامل شعلة الضياء الصادقة التي تنير السبيل أمام حركة الناس وتحقق لهم العيش المشترك الحميم. وأعتقد أن الرواية تقوم بالدور التنويري في المجتمع الذي تكتب فيه وله، مثلها مثل أي صناعة ثقافية أخرى، كما أنها مصدر معلومات ثري يجعل منها بكل تأكيد مفتاحا جيدا يمكن أن يستخدم لفتح أبواب كثيرة، تُمكن من معالجة ما هو جدير بالمعالجة، وإعادة تدبير علائق الناس مع بعضهم بعضا من جهة، ومع وطنهم من جهة ثانية تدبيرا حسنا. غير أن مثل هذه المهام تفترض صبرا كبيرا، والطريق إلى تحقيقها طويل، بل هو محفوف بالمخاطر ولكنه طريق مأمول وضروري بالنسبة إلينا جميعا.
■ في السودان روائيون وشعراء وقصاصون مبدعون، ومتى استثنينا النصوص التي ينشرها أصحابها خارج السودان جاز لنا القول إن اطلاع القارئ العربي على الإبداع السوداني ضعيف جدا. فما السبيل إلى ربط الصلة بين المنتج الأدبي السوداني وفضائه القرائي العربي؟
□ نتمتع، في السودان، بوسط ثقافي واجتماعي غني الدلالات، ولنا ذاكرة جماعية ثَرةِ المفردات الرمزية والمادية، كما نشهد حراكا ثقافيا محليا جيدا إلى حد ما، غير أنه يحتاج إلى دور مؤسساتي ينميه، وإلى رعاية دائمة من قبل الجمعيات المختصة. ولا يخفى أن هناك الكثير من كتاب السودان ممن نجحوا في ربط المفردة التخييلية السودانية بذائقة القارئ العربي، وفيهم مَن ترجمت أعمالهم إلى عدة لغات عالمية حية، وبعض منهم كتبوا أصلا بلغة أجنبية، ومن هؤلاء الكتاب يوجد أمير تاج السر، وعبد العزيز بركة ساكن، وليلا أبو العلاء، وحمور زيادة وآخرون كثرٌ، وعلى الرغم من كل ذلك، دعني أقر بأن كل هذه التجارب والنجاحات المحلية والعربية والعالمية، إنما تظل تجارب ومجهودات فردية تحتاج إلى مؤسسة الدولة وجهود المجتمع حتى تينع أوراقها، أي هي تحتاج إلى أن يُعنى فيها بشؤون الكتاب والمبدعين أينما كانوا بمنهجية وطنية لا تلون فيها ولا محاباة، عبر اقتراح رؤية ثقافية تساعد على إيصال الصوت السوداني المبدع إلى العالم، ذلك أنه بالتخطيط المؤسساتي تتم صناعة التاريخ الثقافي للأمم، وليس بالاجتهادات الفردية فقط على الرغم من أهميتها، وهنا يأتي دور معرض الخرطوم الدولي للكتاب وضرورة تطوير سياقه التنظيمي وتوسيع المشاركة العربية والعالمية فيه، مع الاهتمام بالمنتوج السوداني وتقديمه دونما منعٍ أو حظر، ناهيك عن إعلاء الخطاب الثقافي المتسامح الذي من شأنه أن يؤسس لعادة التفاهم الحضاري مع الجميع، والتعايش المتحصن بالقيم الإنسانية العليا. إلى جانب النظر في البيت الداخلي للمؤسسات الثقافية وتكريس الصدق فيها والإرادة الحرة الحامية لنجاحها، فلا يوجد فن أو أدب يعبُر حدود الجغرافيا والتاريخ، وهو لم يأتِ من وجدان صادق وإرادة حرة. هكذا يمكن للسودان أن يربط منتجه الأدبي بالفضاء العربي والعالمي، ولكني أتساءل أيضا – في ظل سهولة الاتصال والتواصل والثورة التكنولوجية – لماذا يقف الإعلام العربي بعيدا عن الداخل الثقافي السوداني؟ لماذا لا يقوم هو أيضا بدوره الفاعل في عملية الربط هذه، وأظن أن ذلك من مسؤولياته الثقافية والأخلاقية الواجب عليه إنجازها، ففي العصر الحديث الذي تلاشت فيه الحدود والفواصل تقل وَجاهة النجاحات الثقافية الفردية، أو التي تحققها المجموعات الصغيرة، ولذلك علينا أن نؤمن جميعا بأننا في قارب ثقافي عربي واحد، نحتاج من أجل إبحاره نحو غايته أن نُعلي من قيمة الكتاب والعلم والثقافة والمثقف، وأن نحرر بالفن الجيلَ الجديد من شبابنا من عقدة التهميش والابتذال وعدم الثقة في المستقبل.
■ ما الذي يوجد في الرواية السودانية ويميزها عن باقي رواياتنا العربية؟
□ الرواية السودانية رواية تُكتب بالقلب، ليس فيها تصنع، ولا يهم أصحابها الشهرة أو حتى الفوز بالجوائز، لذلك أصفها بأنها رواية صادقة مع وقتها، وواعية بظروف الناس من حولها، وهو ما يؤكده جميعُ نتاج عبقري الرواية العربية السوداني الطيب صالح، ومن رافقه في ذاك الجيل، وكذلك نتاج جيل الروائيين السودانيين الجديد الذي يضمخ المشهد العربي الآن بإبداعهم من أمثال، حمور، وتاج السر، وبركة ساكن، وغيرهم، فالوجدان السوداني بطبعة وجدان صاف منفعل بالجمال وصادق ومحب للآخر، كما أنه ترعرع وسط موروثات قيمية وثقافية راسخة، ربما تكون قد تهيأت له عبر امتزاج الدماء العربية والإفريقية امتزاج الوحدة، وهو ما أراه قد أكسبه تميزا وجعله مترعا بالصدق والحنين.
■ لكل أديب مشروع يروم إنجازه، فما هو مشروعك الأدبي؟
□ أعتقد أنه لا توجد دولة في العالم لا تعاني الانتكاسات أو الاهتزازات الاقتصادية، غير أن ذلك لا يمنعها من أن تبادر إلى إصلاح أحوالها بالاستفادة من التخطيط السليم المشمول بالتوقعات والتنبؤات، ونحن في السودان نحتاج الى جيل ناهض يتحلى بالمعرفة والصبر والتخطيط السليم، وله إحساس عميق بقيمته وبمكونه الثقافي ومؤمن برسالته الثقافية عبر التاريخ.
ومن جانب آخر نجد الشخصية السودانية محط ترحيب وقبول في كثير من البلدان التي تحل بها، إلا أننا لا نلمح وجودًا بارزًا لها في المشهد الأدبي العربي والعالمي، ولا نجد تقديمًا يليق بها ويعكس حقيقة واقعها، وبالتالي فنحن نحتاج إلى جيل روائي يسهم في إبراز ملامح الشخصية الســــودانية ويُعلي من شأنها الثقافي ويمد جسور التعاون الفعال بينها وبين عناصر محيطها. وكل ذلك يجب أن يكون مسبوقًا بإصلاح فاعلٍ للبيت من الداخل، إذْ يتوجب علينا أن نكافح من أجل عدم ازدهار سوق النفاق والتملق والرياء، وأن نساعد الناس على إزالة الالتباس الذهني للمفاهــــيم المزروعة فيهم خطأ، وأن نجعل الجميع يقتربون أكثر من أهدافهم المتصلة بتوفير حياة كريمة وحــــرة، هذا مع إعطاء الفرصة للعقول الجديدة من المثقــــفين والعاملين في مجال الإبداع والفنون لإخراجنا إلى نور المعرفة والتخطيط السليم وتحقيق التفاعل البناء مع مجريات الواقع المحلي والعربي والعالمي.
أنا أكتب لأن التفاؤل يملؤني وأنا أنظر إلى مستقبل السودان، ولأني أراهن على وجدان شعب نقي يتمتع بأقصى درجات المسامحة والحب والتعايش، حيث مازال الخطاب السائد فيه يمجد الإيثار على النفس ويحكمه مبدأ (كوب الماء البارد، يستحقه أخي أيضا).

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى