اللغة العربية تشكل هاجساً للاجئين في هولندا وبلجيكا

عبد الله مكسور

الاشتغال بالعمل الثقافي في دول اللجوء الجديدة التي وصلَ إليها عددٌ كبير من العاملين بالحقل الثقافي في بلدانهم الأصلية، أو تلك التي كانوا يقيمون بها قبل انتقالِهِم إلى القارة الأوروبية، يمثِّل تحدياً حقيقياً دافعه الرئيس إثبات الذات أولاً، وبطبيعة الحال قد يصطدم بتحدِّيَين اثنَين، الأول هو عدم القدرة على الاستمرار بسبب اختلاف الفضاء الثقافي الجديد وعدم تقبُّل -في غالب الأحايين- فكرةَ إبراز الوافد الجديد، أما التحدي الثاني فهو المعايير الأوروبية التي ترفُضُ أو تقيِّد الكثير من الأفكار أو المشاريع لعدم خدمتها ما تريده الثقافة الأوروبية بالدرجة الأولى.

 

مشاريع ثقافية

أمام هذه الطروحات هناك مشاريع عديدة استطاعت اليوم ترك بصمة حقيقية –رغم كل المصاعب- في الدوائر الحياتية التي يعيشها اللاجئون، قيمة هذه المشاريع تأتي بالدرجة الأولى لتهوِّن من الصدمة الثقافية التي يعيشها الوافد الجديد، الصدمة الثقافية بكل مستوياتها المختلفة، المعرفية والحضارية والسلوكية، وغيرها.

سنستعرض في هذا البحث عدداً من المشاريع التي قامت في المنطقة الفلامانية بين هولندا وبلجيكا، أو ما يعرف أوروبيًّا بالبلدان الخفيضة.

منظمة “نساء سوريات” التي تتخذ من مدينة “سوسنهايم” جنوبي أمستردام العاصمة مقراً لها، بنَت مشاريعها الثقافية والمجتمعية بصبر جميل، اصطدَم مراراً بتحديات عملَ القائمون عليها على تذليلها، حتى قامت المنظمة -بجهود فردية ذاتية- بإنشاء “مدرسة الياسمين” لتعليم اللغة العربية لأطفال اللاجئين مجانا، هذا إلى جانب مشروعات مجتمعية أخرى. لقد أدرك القائمون على هذه المنظمة أهمية الحفاظ على اللغة العربية لدى الأطفال أولا، فهذه اللغة هي الهوية التي سيحملها الطفل معه وهي التي ستذكِّره دوماً بأنَّه عربي يعيش في أوروبا.

تتخذ مدرسة الياسمين في سوسنهايم من مدرسة بلجيكية حكومية مقراً لها، حيث تم استئجار المبنى في عطلة نهاية الأسبوع، وبجهود فردية أيضاً وبدعمٍ من سيدة أميركية تعيش في أميركا، وتهتم باللغة العربية، قامت بتقديم العديد من الأدوات التعليمية للمدرسة، تلك الأدوات تساعد الأطفال على عملية التفكير التحليلي والتركيبي على حد السواء، كما تقسم الصفوف في المدرسة إلى ثلاث مراحل، الأولى خاصة بالأطفال الذين لا يعرفون شيئاً عن العربية، والثانية لأولئك الذين يعرفون قليلاً بعد أن درسوا الصفوف الأولى في أوطانهم الأصلية، والثالثة للمتحدثين المتقدمين، حيث تركز هذه المرحلة على علوم النحو والقواعد، وتعتمد مدرسة الياسمين في وسائل التعليم على أساتذة محترفين من الواصلين حديثاً إلى هولندا، وهي تعاني من شح الدعم وقلَّتِه أو ندرتِه في أغلب الأحيان.

تحت شعار “البيت، بيتكُم” وبحبٍّ شديد وحميمية كبيرة يستقبل سامر القادري زوَّار مكتبة “صفحات” التي افتتحت فرعها بأمستردام منذ أشهر قليلة، بعد إقامتها بإسطنبول عقب انتقال المشروع ومؤسسه من العاصمة السورية دمشق نحو تركيا، الفكرة التي لاقت نجاحاً كبيراً في إسطنبول ووضعت المدينة على خارطة الموزِّعين والناشرين العرب بعد أن لفتَت الأنظار إليها، انتقلت اليوم مع الحفاظ على مركزها التركي إلى العاصمة الهولندية.

اتخذ سامر القادري خطوات سريعة بعد وصوله إلى هولندا، فاقترح الفكرة على صندوق دعم الأدب في أمستردام حيث ساعدوه على تحويل الحلم إلى حقيقة، وكان مكان المكتبة العربية الأولى في هولندا بالقرب من مركز المدينة وعلى ضفاف إحدى قنواتها المائية.

لا شك أنّ هناك مغامرةً بافتتاح مكتبة عربية في أوروبا في ظل وجود جالية تعاني في الأصل من مصاعب اقتصادية كبيرة، إضافة إلى أن مسألة نقل الكتب العربية وإيصالها إلى القارة الأوروبية تتطلب الخضوع للقوانين المعمول بها في دول أوروبا، والحديث هنا عن نظام ضرائب مختلف كلياً عن المنطقة العربية. وإضافة إلى كونِ “صفحات” مقراً لبيع وعرض الكُتُب العربية فإنها فناءٌ واسعٌ للأطفال العرب الذين يتم إشراكهم في ورشات عمل متنوعة خلال أيام الأربعاء من كل أسبوع.

 

المتطوعون السوريون

بدأت فكرة مشروع “المتطوعون السوريون” في مدينة أنتويربن البلجيكية، إحدى أكبر مدن الإقليم الفلاماني في المملكة ذات الأقاليم المتنوعة، بتأسيسٍ من مجموعة من الشباب السوريين الذين وصلوا حديثاً إلى بلجيكا، ما إن حصلوا على أوراق الإقامة حتى اصطدموا بعوائق كثيرة كان أبرزها اللغة، ولأنَّ الهولندية يتم تعليمها بالهولندية فقط في المراكز التي تُعنى بتدريس اللغات، وجدوا أنَّ من الحاجة بمكان تنظيم دروس تعليم اللغة الهولندية أو النيدرلاندية كما تُعرَف رسمياً باللغة العربية، اعتمدوا في هذا الجهد على لاجئين وصلوا قبلهم بسنوات قليلة، والفكرة التي بدأت بومضة بسيطة صارت اليوم مدرسة يأتي إليها الكبار من العرب لتعلُّم الهولندية بلغتهم، فشرح القواعد وتصريف الأفعال والأزمنة باللغة العربية يجعل من أي لغة أمام متعلِّمها الناطق بالعربية بسيطة البناء والتكوين.

بعد تأسيس مدرسة اللغة الهولندية للكبار، التفتَت المجموعة التي يرأسها يوسف قويقة إلى أهمية تعليم الأطفال العرب لغتهم الأم، فكانت فكرة ضم مدرسة اللغة العربية إلى مركز تعليم اللغة الهولندية، وبعد شهر من الانطلاقة الرسمية وصلَ عدد الأطفال في مدرسة “المتطوعون السوريون” إلى ما يقارب 75 طفلا، تم تقسيمهم أيضاً إلى ثلاثة مستويات بين مبتدئ ومتوسط ومتقدم، إضافة إلى وجود مرشد نفسي يساعد الطلاب الذين يواجهون مشاكل في التلقي أو الاندماج مع الأطفال الآخرين.

على صعيد آخر يعمل “المتطوعون السوريون” على مساعدة اللاجئين الآخرين بجهود ذاتية فردية، فأمام مسألة صعوبة الحصول على رخصة قيادة السيارة في بلجيكا، تُقدِّم هذه المنظمة دروساً مجانية نظرية باللغة العربية لغير القادرين على الحصول على هذه الدروس باللغة الهولندية، نظراً لقيام الحكومة البلجيكية بحصر نظام تعليم القيادة باللغة العربية في بروكسل العاصمة فقط. قابلتُ في هذا المركز العديد من الشبان والعائلات القادمين من مدن بعيدة عن أنتويربن.

وفي النطاق ذاته أسس “المتطوعون السوريون” مركزاً رديفاً يساهم في تنمية مواهب الطفل العربي من خلال مساعدته على إبراز مواهبه حيث تبدأ العملية الفنية باللعب بالمعجون وتتطور لتصبح رسماً على الورق.

في مدينة “ميخلين” الفلامانية الواقعة بين العاصمة بروكسل وأنتويربن، أسس شباب سوريون أيضاً منظمة “جسور ثقافية”، تتمثل مهمتها الرئيسية في احتضان المواهب العربية ودعم اللاجئين المبدعين، إضافة إلى إنشاء مدرسة للغة العربية في المدينة نفسها والتنسيق مع جامعة بروكسل الحرة في العاصمة حيث تم افتتاح ثلاثة فروع هناك لتعليم العربية لأبناء اللاجئين، كما تنظم جمعية “جسور ثقافية” برامج قراءات أدبية ستنطلق في أكتوبر المقبل بمجموعة من الكُتَّاب والشعراء والصحافيين العرب ضمن تظاهرة ثقافية ستحمل اسم “أصوات عربية”.

طبعاً كل هذه المشاريع يتم إنجازها بجهود فردية مجانية، حيث لا يتقاضى العاملون فيها من إداريين أو مدرسين أي أجور أبداً، ورغم المعاناة الحقيقية التي يتكبدها القائمون على هذه المشاريع إلا أن هناك رغبة حقيقية في إكمال هذه المهمة رغم صعوبة تأمين المناهج الدراسية.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى