كتاب مؤجل لصيف الجزائر الأعزل

سعيد خطيبي

الصيف في الجزائر فصل ثقيل. يمر بخطى مُتكاسلة. فصل الوحدة والانعزال وقلة الخيارات، فالبلد ليس وجهة سياحية، إمكانات الترفيه فيه محدودة، وما تبقى من شواطئ يتحول عاماً بعد الآخر، إلى ملكيـــات خاصة.
مئات الآلاف من المحظوظين يعبرون الحدود، إلى تونس المُجاورة، لكن الغالبية من الشعب ستجد نفسها في الداخل، في مواجهة الفراغ والرتابة والحر، الذي يتراوح ما بين الثلاثين إلى الخمسين مئوية ، كلما اتجهنا جنوباً.
حين يحل الصيف يتراجع إيقاع الحياة، قد تتوقف في لحظة من اللحظات، ويزداد الملل اتساعاً. في الجنوب، الصيف يصير أشبه بليل طويل يعبر سماء البلد، سينخفض الصخب ويرتفع الهدوء الاضطراري. من يعيش في الصحراء يعرف جيداً أنانية الصيف وقساوته في آن، إنه موسم زائد عن مواسم السنة الأخرى، هو مساحة الخمول اللاإرادي، ينتظر الجنوبيون فقط نهايته لتستعيد الحياة بعضاً من واقعيتها.
في الصيف تصير القراءة وقاية، مظلة تحت شمس غير رحيمة. القراءة قد تمنح الجزائري فرصة لإعادة النظر في الصيف، للتأقلم معه قليلاً وللتخفيف من وطأته. ستكون ربما سبباً في تجاوز عتمة اليوميات، تحت الحر، والنظر إلى الجانب المضيء من الحياة. معروف أن الجزائري ليس مُتصالحاً مع الكتاب (عدا الكتاب المقدس)، ليس متواطئاً مع الأدب، وقد فشلت المدرسة، في تقريبه من المطالعة. إن الحياة الجزائرية، بقلقها وصداميتها ومزاجيتها، ليست إطاراً مناسباً لدفع الجزائري نحو الكتاب، لكن الصيف وحده قد يحمل سبباً للعودة إليه، فربما يزيد الفراغ عن حده ويجد الجزائري نفسه منساقأً إلى كتاب، إلى رائحة الورق، وبما أن الكثيرين يعجزون عن السفر والفرار بجلدهم من هذا الصيف، قد يعولون على كتاب للسفر، ولو داخلياً، مع ذواتهم، فالقراءة قد تعيدهم إلى أنفسهم، وتطوف بهم خارجها، وتسمح لهم بإعادة فهم المتناقضات التي يعيشون فيها. عزلة الصيف الجزائري لا يُناسبها سوى فعل القراءة، بحكم أنه هو أيضاً فعل عزلة وتجربة فردية. ففي تجربة القراءة، سيجد الجزائري طريقاً، أو بالأحرى سينشئ طريقا له، ليعبر الصيف في هدوء ورزانة. قد يستعيد أيضاً قدرته على الانتباه للأشياء الصغيرة، التي تمر أمام عينيه، في فصول السنة الأخرى، دون أن ينظر إليها. بفضل القراءة، قد يحول الجزائري صيفه إلى فضاء حي، سيجعل منه سبباً في إعاة اكتشاف ما يدور حوله، وفي قراءة ـ ليس ماضيه فقط ـ بل تاريخه إجمالاً. القراءة هي لحظة انتظار، كما عبر عنها باسكال كينيار، هي سبب في تمديد الوقت، في التيه فيه أيضاً، في تحويل الروتين إلى خط مستقيم نسير فيه، بدل أن يدور حول نفسه في حلقات مغلقة. سيحول الصيف القراءة من لحظة عابرة، من متعة استثنائية، إلى مهنة، قد يلعب الفراغ دوره، ليجعل من القراءة وظيفة ينشغل بها الجزائري، حين لا يجد شيئاً آخر يفعله. انقطاع الجزائري عن القراءة، لمدة طويلة، ليس حجة كي لا يعود إليها، فهذا الانقطاع الذي تليه عودة، هو بمثابة عودة لشخص حميم، نعيد لقاءه بعد غياب طويل.
في هذا الصيف الجزائري، المسكون باللافعل، وبالكسل المتمدد عرضياً، يحاول بعض الكتاب الجزائريين أن يختلقوا سبباً للفرار منه، أن يبتكروا أسلوباً لهم لمواجهته. كما هو حال الناقد محمد خطاب، الذي يقول: «يبقى موسم الصيف في الجزائر باستثناءاته الكثيرة ظاهرة مقلقة ودائما أتذكر عبارة إدوارد سعيد إني أكره العطل، يبدو لي فصل الصيف جزائريا محبطًا لقيمة العمل الذي نبدأه مع الوظيفة. يرتبط سؤال القراءة عندي بكل لحظة وأحيانًا أكره فعل القراءة بإحباطاته الكثيرة مادام هو فعلا مرتبطا كيانيا بوجودي الخاص. من بين إشكالات القراءة في صيف جزائري غياب تقاليد العمل المتواصل، إذ الاشتغال بالقراءة والكتابة والمعرفة مرتبط بمواعيد أنانية: ملتقيات أو ندوات وغالبًا ما يتم تجاهلها على المستوى الشخصي، لأنها تعطل تجربتي الخاصة. ثم هناك الصلات الاجتماعية الغبية التي تؤكد نفسها باستمرار لكي تضيف مزيدًا من الأعباء للكاتب أو المثقف بشكل عام. الانخراط في عمل عظيم كالقراءة صيفًا هو جريمة في حق عائلتك ومعارفك وأقربائك، أي في حق من يشكلون تهديدًا مستمرًا لوجودك الحر». هذا القلق الصيفي الذي يعيشه محمد خطاب، وما يرافقه من إحباط مبطن، تختلف فيه عنه القاصة فضيلة بهليل، التي تتحدث عن علاقتها بالقراءة في الصيف: «لعل ما يجعل قراءاتي للنصوص صيفا تختلف عن باقي المواسم، هو طول الوقت الذي يُساعدني على الشروع في قراءة عمل رغبتُ فيه ولم أجد له وقتاً أثناء فترات العمل والدراسة، أو إعادة قراءة عمل أحببته وتعذر عليّ الرجوع إليه، ثم ذلك الصفاء الذهني الذي يخلفه الابتعاد عن جو العمل، وتلك الرغبة في الهروب من البحوث والمقالات إلى كل ما يمت للإبداع بِصلة، فلا أجدني قادرة على دراسة كتاب أو تحليل مقال، بقدر ما أجد رغبة تسكنني لمطالعة الروايات والقصص، هربًا من عطش القارئ الصحراوي ورغبة بالسباحة في بحر الكلمات حتى إن تعذر الوصول لِقاعها». من جهته، الشاعر محمد الأمين سعيدي، الشاعر الجنوبي، الذي يختبر كل عام، إكراهات الصيف الصحراوي المسترسل في تكرار نفسه، فيقول: «القراءة في الصيف صعبة، هنا جهنم، أقصد هنا الجنوب. ربما بسبب هذا أميل إلى قراءة الإبداع أكثر خاصة منه الشعر والرواية، إضافة إلى كتب النقد التي أشتغل عليها في بحوثي. ولعلي منذ بداية الصيف انكفأتُ أكثر على الشعر الأجنبي المترجم والروايات العالمية، وقضيت سهرات جميلة مع جنون بوكوفسكي بالحياة، فرغاس يوسا، كارلوس فوينتس.. ولا أخفي أن هذه الأعمال الكبيرة كانت تقذفني مجددًا إلى البحث في مسائل فكرية تثير مراجعتَها القراءةُ. في النهاية؛ كلما قرأنا أكثر أحسسنا بجهلنا اللانهائي».
كل قراءة تستوجب عزلة، تستدعي انتظاراً، وقد تغير من طريقة تعاملنا مع الوقت، مع الرتابة واللاجدوى. من الطييعي أن يغير الصيف بعضا من طباع الجزائريين، خصوصاُ منهم الكتاب. «أرى إلى تجربة العيش صيفًا في الجزائر باهظة للروح والجسد، في الصيف ينحو الكائن نحو الخفة التي نادرًا ما يمكن معاينتها في الجزائر» يضيف محمد خطاب. فعل القراءة قد يحيل لمقابلة أشياء نعرفها وأخرى لا نعرفها، وصيف الجنوب الجزائري الأعزل يعرفنا دائماً بما نجهله عن أنفسنا. هكذا تواصل فضيلة بهليل: «إن العيش في مدينة جنوبية صيفًا ليس أمرًا سهلاً حتى إن بدا عكس ذلك، فارتفاع درجة الحرارة وتعذر الخروج نهارًا يجعل من دُور الثقافة والجمعيات الثقافية تعزف عن المبادرات التي من شأنها الرفع من مستوى القراءة في هذا الموسم، وإن حدث ونشطت فإنما يتم ذلك ليلا، وبالتالي يكون الأمر مقتصرًا في أغلب الأحيان على الرجال دون النساء. لتعذر خروجهن ليلاً. إنه نوع من العزلة التي يخلفها سكون الصحراء الرهيب، ونوع من الصبر على الالتظاء إلى أن يؤمن المبدع أنه وحده القادر ـ رغم بؤسه ـ على فك تلك العزلة». وفي هذا السياق يقول محمد الأمين سعيدي: «الجنوبُ هو لقاء البيولوجيا الحية: الإنسان بالفناء، ولهذا تصبح غيمة في الأفق أو هبة نسيم موضوعًا للحديث في المقاهي، ويحدث أنْ تكون عدميا بالفطرة وأنت لا تدري. الجنوبي حساس جدًا تجاه الطبيعة، رغم ما يبدو عليه من ظاهر القسوة، ولهذا يُعنى كثيرًا بتقلباتها وهو المشتاق إلى الخضرة والشجر والماء. شخصيًا أواجه الحر بـ»المبرِد»، ولا أخرجُ إلا مساءً غالبًا حين ينزل الليل، أعيش نهاري حين تنام الشمس، وهذا يعينني على القراءة والبحث أكثر». بالنسبة للمتحدث نفسه «لا ترتبط القراءة عنده بفصل ولا بوقتٍ وإنما بالمزاج». ويضيف: «بسببٍ من الفوضى التي تحكمُ حياتي، أقرأ أكثر من كتاب معًا، رواية مع نقد أو فلسفة وشعر، أتنقل من كتابٍ إلى آخر بحسب نفسيتي بالدرجة الأولى». أما فضيلة بهليل فموسم الصيف يتيح لها مجالا أوسع لانتقاء الكتب التي تروقها، بعيدًا عن القراءة الإجبارية التي يُلزمها مجال البحث العلمي والدراسات الأكاديمية، التي لا توافق دائما ذوقها. في حين صيف الناقد محمد خطاب تكتمل فيه علاقاته بالتجارب الكبرى التي تمنى استكمالها، خاصة في الشعر ونصوص الشذرة.
القراءة مأدبة صيفية، هي ما نستهلكه دون ضرورة للحديث عنه. القراءة هي ما يرفع ترمومتر المعرفة ويجعله يتجاوز ترمومتر الحر. هكذا تصير القراءة «حيلة» لتجاوز عبثية الوقت وعدميته أحياناً، تصير مسلكاً للبحث عن «الزمن الضائع». قد تعلمنا القراءة الإمساك بالوقت وترويضه، وخلق روح للصيف الأعزل، الذي يحول، كل مرة، البلد إلى منطقة ظل تميل للسبات وللاضراب عن التفكير وعن الكتاب.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى