نهلة الشقران: الشكل اللغوي في خطاب أدب الرحلات جاء وسيلةً للتعبير عن الموصوف

محمد الحمامصيمحمد الحمامصي

 

انطلاقاً من أُطروحتها للماجستير “رحلة ابن جبير، دراسة تركيبيَّة وصفيَّة، والتي حصلت عليها عام 2006 جامعة اليرموك 2006. وجدت الباحثة د. نهلة الشقران في خطاب أدب الرحلات مادة وفيرة للمزيد من البحث، وفي طرائقه الوصفيَّة ما يوحي ببراعة الواصف ودقَّته، فعمدتُ إلى دراسة خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري، وخصَّصتُ دراستها حول خمس رحلات تُعَدُّ الأشهَر، منها “صفة جزيرة العرب” للهمداني، و”التنبيه والإشـراف” للمسعودي، و”رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة” لابن فضلان، . لتستخلص منها خطاباً موحَّداً شاعَ وتكرَّر، وبرزت سماته العامة.
الدراسة التي نشرت بعنوان “خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري” صدرت أخيرا عن الآن ناشرون موزعون، عنيت وفقا للباحثة بالآليَّات التعبيريَّة في خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري، التي يصف بها موصوفه، باعتماد الأساليب اللغويَّة الأكثر تكراراً في الرحلات الخمس المدروسة، لعرض رؤى الرحَّالة وتطلعاته، جرَّاء تصوير المكان وأهله.. واستند التحليل لخطاب الرحلات إلى الواقع الخارجي للموصوف، والواقع النفسي للرحَّالة، فكان الربط بينهما وفق أُسُس نظرية الخطاب.
وقالت الشقراء “وظَّفَ خطابُ أدب الرحلات اختياراته اللغوية، لإيصال ما يريد من رضا وقبول للمكان، أو استياء ورفض له، فجاءت مكرَّرة في الرحلة الواحدة، وفي الرحلات المدروسة كلِّها.. برز التكرار سواء أكان في اللفظ أم في المعنى، واتَّخذ إطاراً عامَّاً يحدِّد هذا الخطاب، ويصبغه بصبغةٍ لغويَّة تجعله ميدانَ دراسةٍ لم تُطرق من قبل، بشكلٍ مخصوصٍ، إذ انصبَّ جُلُّ اهتمام الدراسات السابقة على فائدة الرحلات من النواحي التاريخيَّة، والجغرافيَّة، والدينيَّة، والسياسيَّة، والإنسانيَّة، ولم تدرس دراسات لغويَّة خاصَّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: “تاريخ الأدب الجغرافي العربي” لكراتشكوفسكي (1957)، و”أدب الرحلة عند العرب في المشـرق” لعلي محسن عيسى مال الله (1978)، و”الرحلة والرحَّالة المسلمون” لأحمد رمضان أحمد (1980)، و”الرحلة عين الجغرافية المبصرة” لصلاح الدين الشامي (1982).
ورأت أن خطاب أدب الرحلات في القرن الرابع الهجري تميز بطرائقه الوصفية الخاصة، فوصف الأمكنة، وخلق منها مشابهات وجدانية تجعله لا يرى المكان الجغرافيَّ، وإنما يحرِّره من أيِّ سلطة، ليبدو مزدوجاً بين الواقع والتخيُّل، فتصبح له صورة جديدة، لا تُرى إلَّا في منظوره الخاص.
عُرف هذا الخطابُ باختياراته على المستويين، المعجميِّ واللُّغويِّ، فنقل موصوفه واستحضـره، كي يسد به شقوق متاعب الرحلة، بصبغة خاصة يستشعرها متلقِّيه ويردُّها إليه، إذ تمثِّل آلياته في خطابه الوصفي، فنظر إلى العالم الخارجي وفق رؤيته الخاصَّة أولاً، ثم محدّدات الواقع ثانياً.
وأوضحت الشقران أن أنواع الرحلة تعدَّدت في القرن الرابع الهجريِّ، وتبلورت في الأشكال التالية:
أولا: رحلات اعتنت بأقطار العالم الإسلامي ووصفت بلدانه وجغرافيته وأهله، ومزجت بين الجغرافيا الوصفية والعلوم الأخرى كالتاريخ، وعلم الإنسان، واللغة، وعلوم الدين، وما يمثلها كتابات البلخي، والاصطخري، وابن حوقل، والمقدسي.
ثانيا: رحلات متخصِّصة في قُطر واحد، جغرافياًّ وعُمرانياً وإنسانياً، كالهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب”.
ثالثا: رحلات تاريخيَّة أكثر منها جغرافيَّة أو إنسانيَّة، وقد عُنِيَ أصحابها بالجانب التاريخيِّ، وتدوين القصص والأخبار أكثر من عنايتهم بوصف المشاهدة المباشـرة، وخير مثال لها المسعودي في كتابه “التنبيه والإشـراف”.
رابعا: رحلات إنسانيَّة اهتمَّت بوصف عادات الناس وسلوكهم، وعُنِيَ أصحابها بالتحليل الدقيق لما شاهدوه، فاحتوت ملامح علم الإنسان وبذوره، ومثالها “رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والخزر والصقالبة”.
وأضافت “الرحلات لها طبيعة وصفيَّة تقرِّبها حيناً من الجغرافيا، وتبعدها عنها أحياناً أخرى، بفرضها على منتهجها نظاماً وصفيَّاً، يجعله يمرُّ بعيون البشـر قبل زوايا المكان، ثم ترتد الرؤية الوصفية لبؤرتها في مخيِّلته، قبل تسجيل الحدث، وكأننا أمام شبكتين بصـريتين، الأولى: متمثلة بالمكان المرتَحَل إليه وأهله وزمانه، والثانية: متمثلة بالرحالة وما علق به من المكان والأهل والزمان”.
وأشارت الشقران إلى أن وصف الطبيعة شغل الرحَّالة، وكانت هدفه الأول في أثناء تنقلاته، فأسقط عليها إحساس المغترب؛ ليألف المكان ويعتاده، لكنه لم يجد نفسه بين خباياها إلَّا واصفاً يقارن بين الطبيعة المتغيِّرة من بلدٍ إلى آخر، وبين طبيعة المنشأ. واهتم بالمياه والبحار والآبار، وذَكَرَ التربةَ وخيراتها بإسهاب، ولم تغفل نظرته الجغرافية عن وصف المناخ والهواء، فبدت أبنية الوصف مقولبة مكرَّرة، ضمن إطارٍ حدَّده الرحَّالة لنفسه والتزم به، ويظهر هذا الأمر في اعتماد الأنماط التالية: الوصف بالاسم ـ الوصف بالفعل ـ الوصف بالأداة. حيث يراوحُ الرحالة بين هذه الأنماط، للحديث عن طبيعة المكان المرتحل إليه، ووصفه، فيلجأ حينا إلى الوصف بالفعل، لدلالةٍ معينة يريدها، وحينا آخر إلى الوصف بالاسم، لمبتغى وهدفٍ يراه، ويعمد إلى الأدوات، فيحمِّلها ما يريد أحياناً كثيرة، إذ تبدو الأوصاف في تراكيب مقولبة معيارية التزم بها الرحَّالة، وسار على دربه من زامَنَه، أو جاء بعده. ولا أزعم أن هذه القولبة ابتدأت في القرن الرابع الهجري وتخصَّصت به، بل هي امتدادٌ لما سبق، أخذت معالمها تتضح، لما تأصَّل من أدب الرحلات، وبرزت فيها نزعة التنقل الأولى، فعاينت الطبيعة ونقلتها، بعين الرحَّالة المبصرة التي تلتقط المكان وتصوِّره، قبل أن يلتقطها.
وحول آليات الخطاب في أدب الرحلات، رأت الشقران أن الشكل اللغوي في خطاب أدب الرحلات جاء وسيلةً للتعبير عن الموصوف، فتفاعلت الألفاظ مع المعاني لإيصال مطلب الرحالة، ولم يتفق الرحَّالة على مطلب واحد في رحلاتهم المختلفة، فكلُّ رحالة يفضِّل شكلاً على آخر، ويميل إلى استخدام أسلوب على آخر، انطلاقاً من ذاتيَّة الوصف أولاً وأخيراً، وينبغي لمحلِّل الخطاب أن يهتمَّ بدراسة بيانات ناتجة عن استعمالات حقيقية للتعابير اللغوية، كما ينبغي أن يعمل على تحليل اختلافات الشكل اللغوي بين مرسل وآخر، وأهداف ذلك ومراميه، وما له من تأثير في متلقِّي الخطاب.
ولفتت إلى أن أدب الرحلة وظف تراكيبه اللغوية للتعبير عن (الأنا) والموصوف، وصوغ صورة واحدة منهما، يحمِّلها حركةً نسقيَّةً تُعلي مكانة (الأنا) والموصوف، وتؤسِّس مبدأ اشتراك بينهما حيناً، وتنزع إيحاء التواصل، فتنفي دلالة إيجابيَّة عن الموصوف حيناً آخر. وأن هذا الوصف جاء في بُنىً لغوية عادية مألوفة، إلَّا أن تكرارها في أدب الرحلة أعطى وجودها مساحة من التأثير، وخلق مواقف إدراكية في فهمها.
وقالت الشقران “أوجد اقترانُ (الأنا) بالموصوف شبكةَ علاقاتٍ تجدها في خطاب الوصف، وتحمل رصيداً نفسيا في تأطير نوعين من الحضور للموصوف، يبدو ذلك في تكرير تركيبين من شأنهما أن يظهرا الموصوف، ويسلِّطا الضوءَ عليه، يتمثَّل التركيبان في نمطين أولهما نمط من التراكيب التفضيليَّة يقارن بين الموصوف وغيره، فيجعل له حضوراً لا يُضاهى، ويظهره بهيئة لا مثيل لها، وذلك كقول الرحَّالة: (أفضل، أجمل، أكبر، أزهى، أقدم، أعظم، وهكذا..).
وثانيا: نمط من التراكيب الاستدراكيَّة يظهر الموصوف بحالتين متضادَّتين، فيصف الموصوف بوصف ما ثم تستدرك ما يخالفه، وذلك في الوصل العكسي بـ (إلَّا أنَّ، وغير أنَّ، وهكذا..). وقد جعل الرحالة النمطين السابقين بؤرة وصف، يعبِر بهما عن المعنى في نسقٍ وصفي يشيع في اختياراته، ويؤدي وظيفة تواصلية، ويحمل المعنى ويخرجه من وحدة لغوية في طور الاستعمال؛ لينتج معنى يؤديه أسلوب وصفي، يعبِر عن الموصوف الذي طالما شغل الرحالة.
وأكدت أن النمطين جاءا للتعبير عن الأهداف الدلالية الكامنة في الخطاب، إذ إن الوصف بهما يقدم إخباراً أو إعلاما عن الموصوف، بيد أنه يحمل في ثناياه معاني وأفكارا معينة، ويُسهم هذان النمطان أيضاً في تماسك الخطاب وتحقق نصيته، هذا التماسك قد نادى به هاليدي ورقية حسن، وبينا أن تحققَه يتم بتعلُّق عناصر الخطاب بعضها ببعض، بعلاقات أو أدوات شكليَّة ودلاليَّة كالإحالة، والتكرار، والحذف، والوصل، وغير ذلك.
وخلصت الشقران إلى أن التماسك في الخطاب يهدف إلى إيصال الرسالة، وتحقيق التفاعل معها، فيظهر بين مكوناتها، على اعتبار أنه مقوِّمٌ أساسيٌّ من مقومات كلِّ جُملة فيها؛ إذ لا يمكن أن تُبنى الجملة دون وجود التماسك. ويأتي الوصف في طليعة الأساليب التي تعمل على تماسك الخطاب، فتجعل الموصوف مرتبطاً بالموضوع كلِّه. وللوصف في خطاب أدب الرحلات آليَّات كثيرة متَّبعة، كالتفصيل حيناً والإجمال حيناً آخر، والتكرار بإعادة ألفاظ معيَّنة أو بالمعنى، وكثرة الإحالات الضميرية والروابط الزمانية والتركيبية، وغير ذلك من الآليات التي تجعل النص متماسكاً ومترابطاً.
(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى