سلامة كيلة: مآزق الأيديولوجيا

حنان عقيل

في هذا الحديث مع المفكر الفلسطيني سلامة كيلة، الذي قدَّمَ العديد من الأبحاث والمؤلفات فيما يتعلق بالفكر العربي واليسار على وجه الخصوص، نحاول الولوج إلى الأسباب الكامنة وراء تراجع أيديولوجيات كانت لها الصدارة لتحل محلها أخرى لم تكن مطلبًا ثوريًا أو فكريًا بأيّ حال، لكنها شكّلت نكوصًا نحو الماضي بعدما صار الواقع بأسئلته الملحّة عصيّا على التفسير أو الفهم.. نبحث في جذور الأزمات التي تتبدى لنا الآن أوراقها الذابلة لنرى أي سبيل يجب على الأنتلجنسيا العربية ومن ثم الجموع أن تسلكه كي تنجو من أزمات حاضرها المستعصية.

في كتابه “مشكلات الماركسية في الوطن العربي” يقول كيلة “بعد التاريخ الطويل لانتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفييتي ثم اكتساحها ما يقرب من نصف سكان المعمورة تهتز صورتها فلا تعود ذلك المثال النموذج، فيتقهقر الاندفاع العفوي بل إنه يتجه إلى اللاهوت ذاته، إلى الدين حيث أصبح يبدو المثال الممكن الوحيد، بعدما تهاوت الأمثلة وفرغت الجعبة من متاعها الحديث، لتبدو كسرة الخبز القديمة، المتلونة بعفونة القرون، هي الحل، لأنها تشبع معدة فارغة بغض النظر عما ستفعله بعد لحظات”.. وها نحن الآن نعيش تلك اللحظات التي تلت تناولنا لذلك “الخبز العفن” ونبحث عن سبل التعافي من ذلك المرض الذي بات ينهش الجسد العربي.

في حواره مع “الجديد” يوضح سلامة كيلة الأسباب التي دفعته للقول بموت اليسار والعوار الذي أصاب الماركسية “الرائجة” وكيفية تحقيق التقدم انطلاقًا من الحل الماركسي، ثم يمّم شطر التيارات الفكرية الأخرى كالقومية والعلمانية والتجديد الديني للبحث عن أوجه العلل بها، مقدّمًا رؤيته للواقع الراهن انطلاقًا من فهم تاريخ الفكر وراهنه.

 

النهضة المجهضة

 

◄الجديد: في كتابك “النهضة المجهضة” تؤكد على ضرورة نفي كل الاتجاهات التي تطالب بتبني أيديولوجيا معينة لأنها ستسعى لمطابقة الواقع مع الأيديولوجيا المتبناة مسبقًا وليس دراسة الواقع من أجل فهمه.. ألا يتعارض ذلك مع الدعوة السابقة بضرورة التفكير من خلال الحل الماركسي؟ وكيف يمكن التأسيس للمنهج الذي تدعو إليه من أجل تجاوز أزمات العرب الفكرية؟

 

سلامة كيلة: كل الأفكار المسبقة التي لم تنتج عن دراسة ظروف ومشكلات الواقع وبالتالي تقديم الحلول التي تخصه هذه هي الأيديولوجيا التي أرفضها. الماركسية تقدم لنا منهجًا يسمح بدراسة الواقع وفهم مشاكله وبالتالي البحث في طرق التطوير، وهنا نحن علينا أن نبني رؤيتنا لهذا الواقع والتي تسمح بنقله لمرحلة مختلفة، أن يحقق التطور الضروري في هذا العصر. المنهج أولاً ولا إمكانية لتحقيق التقدم عبر تطور رأسمالي، ومن ثم على الماركسية أن تبحث في حلول عن كيفية تطوير المجتمع انطلاقا من فهم مشاكله ودفعه نحو أن يكون مجتمعًا حداثيًا يسير نحو الاشتراكية.

 

◄الجديد: هل ثمة أفكار من اليسار تعتقد بضرورة التخلي عنها في الوقت الراهن انطلاقًا من رؤيتك لمشاكل الواقع وطبيعة تغيره؟

 

سلامة كيلة: كل الماركسية الرائجة أعتبرها خارج التاريخ، وبالتالي لم تقدم ما هو مهم وركزت على الجانب السياسي في الصراعات، وراهنت على تطور الرأسمالية وأن يتحقق التطور في ظل رأسمالية وهذا مشروع وهمي. الآن يعاد نفس الكلام الذي كان يقال منذ سنوات ويعتبر أن الديمقراطية هي التي تجلب التطور رغم أنه لا إمكانية لديمقراطية في مجتمع ريعي يهيمن عليه بنى مجتمعية لم تتطور بما يسمح بأن تمتلك مصيرها في الإطار الديمقراطي فتنتخب دومًا من يعبر عن مصالحها رغم أنها الآن تمتلك طريقها في الإطار الثوري.

لا إمكانية للأحزاب اليسارية القديمة أن تعيد بناء ذاتها لأن عقلها دوغمائي، وهي أحزاب هرمة ويهرب منها الشباب، لكننا نلمس أن الثورات فتحت أفقًا لشباب وجد أنه صنع حدثًا تاريخيًا، فبدأ يشعر أن عليه أن يلعب الدور. هذا المناخ هو الذي سينتج يسارًا أكثر عمقًا ومعرفة.

اليسار الإسلامي

 

◄ الجديد: في السبعينات من القرن الماضي برز تيار أطلق على نفسه “اليسار الإسلامي” حاول الجمع بين مبادئ الإسلام وأفكار اليسار.. ما هي إشكاليات ذلك التيار برأيك؟ وإلى أي مدى تعتقد بنجاحه فيما سبق أو إمكانية نجاحه مستقبلًا؟

 

سلامة كيلة: كان هذا التيار ظاهرة محدودة، بعضها من منظور براغماتي أكثر منه عميقا. وعمليا انتهت كل هذه الأفكار، لأن الإسلام منظور ليس عقائديا فقط لكنه مشروع مجتمعي محدد بنص قرآني مجرد أن يتحول إلى السياسة سيلتزم بالنص القرآني لأنه لا اجتهاد لما فيه نص، وبالتالي أيّ تفسير سيسقط بالضرورة أمام فقهاء الإسلام المكرسين عملياً للدفاع عن النص والأسس القديمة، مثلا راشد الغنوشي انتهى أصوليا عندما وصل إلى السلطة مثل غيره من جماعة الإخوان المسلمين، بالتالي هي فكرة جاءت في لحظة أمام هزيمة 67 وهزيمة المقاومة الفلسطينية في الأردن، كان فيها تراجع لليسار وميل من بعض اليساريين الذين شعروا أنهم لم يفهموا التاريخ أو وعي الشعب فعادوا للتراث العربي الإسلامي كي يفهموا التاريخ وواقع الشعب مثل حسن حنفي وطيب تيزيني ومحمود إسماعيل وحسين مروة وغيرهم.

 

تجارب ريفية

 

◄ الجديد: في حديثك عن التيارات القومية العربية، قلت إن الأهداف القومية تحولت إلى شعارات وغدت المفاهيم القومية جزءًا من مركب ذهني غير واقعي.. إلام ترجع إخفاق التيار القومي العربي؟ هل هناك قصور في منطلقاته الفكرية أم أن البيئة العربية ليست مناسبة له؟ وهل تعتقد بضرورة إحياء التيار القومي لمواجهة فكر الإسلام السياسي والمآلات المأساوية التي ترتبت عليه؟

 

سلامة كيلة: المسألة لا تتعلق فقط بالأفكار، تتعلق بمصالح الفئات الاجتماعية التي أسست هذا التيار. التيار القومي العربي كان له شقان: البعث وجمال عبدالناصر، البعث حزب تأسس في أربعينات القرن العشرين ومؤسسوه كانوا شيوعيين واختلفوا مع الحزب الشيوعي اللبناني في نقطتين؛ الوحدة العربية والعلاقة مع الاستعمار. من هذا المنظور تأسس تيار فكري خليط من جهة هو اشتراكي لكنه اعتبر القومية هي الأساس، هذا الفكر تغلغل لدى فئات وسطى مدنية وبالأخص ريفية وبالتالي تغلغل في الجيش عبر هذه الطبقات الريفية، وهنا مجال التشابه مع التجربة الناصرية فكان عبدالناصر ليس عضوا بالحزب لكنه يعبر عن طابع الضباط الريفي، يعبر عن أزمة الريف نفسها.

المشكلة في هذه التجارب أنّها عبّرت عن تجارب ريفية تريد نفي الماضي الإقطاعي أو شبه الإقطاعي الذي كان يتحكم بها، لكنها كانت تريد الحصول على الأرض والارتقاء الطبقي حينما وصلت إلى السلطة وبالتالي الوصول السريع إلى الثورة والتحوّل إلى فئات رأسمالية جديدة، من هذا المنظور حققت إصلاحًا زراعيًا وقطاعًا عامًا واسعًا وتعليمًا واسعًا ومركز ثروة كبيرة بيد الدولة، وبدأت فئات تنهب الثروة وهذا ما سُمّي بالفساد، الأمر الذي أدى لنشوء رأسماليات جديدة من هذه الفئات، لهذا أشرت إلى أن أزمة ذلك التيار هي أزمة الفئات الاجتماعية التي حكمت أكثر منها أزمة فكر.

على العكس من ذلك، كان الفكر يعبّر عن أزمة هذه الأحزاب التي طرحت القومية لكنها أرادت التملك الخاص، لهذا تحولت الأفكار الكبيرة إلى شعارات لأن الأولوية لديها كيف ترتقي طبقياً وتحصل على الأموال من الدولة التي تحكمها وتغطي نفسها بشعارات ونظام سياسي، هذا هو جوهر إشكالية الفكرة القومية التي كانت مرتبطة بنفي الإقطاع وتحوّلت إلى شعار يغطي ميلها لتكون فئات مالكة وليست معنية بالحرية.

 

أما بخصوص فكرة الإحياء في الوقت الراهن، فالمسألة القومية مسألة واقعية بالمنطقة العربية، الوطن العربي وطن مفكك ومجزّأ له تاريخ، هناك لغة واحدة، وثقافة تكونت عبر التاريخ، كل هذه العناصر جزء من تكوين الشعب العربي. لهذا عندما كان أيّ شخص يريد تقديم مشروع تقدّمي كان ذلك من خلال المشروع القومي، وهذا ما فعله محمد علي باشا في محاولة تحقيق سوق عربية. المسألة القومية هي جزء من وضع الناس وبالتالي عندما نتحدث عن التقدم والتطوير الاقتصادي بالضرورة لا بد أن تطرح المسألة القومية لأنه لا إمكانية لبناء صناعة في أيّ دولة عربية دون سوق كبيرة، يرتبط الشعور القومي بالمشروع المستقبلي المتعلق بأن تطورنا وتحقيق استقلالنا متعلق بأن تصبح هذه المنطقة مرتبطة.

في جانب آخر، وفي سياق تطور الهويات بالمنطقة بالتأكيد كانت في مرحلة الهوية الدينية هي الطاغية لأن الأيديولوجيا التي تعمّمت هي الإسلام وبالتالي أصبحت الهوية إسلامية، وكان يجب إخضاع القوميات الأخرى ليس فقط بالدين ولكن بالأيديولوجيا. أصبح الإسلام هو الإطار الموحّد كبديل عن القوميات، رغم أن شعور القومية ظل ينخر حتى المنظورات الدينية. مع الميل للنشوء الحديث أصبح واضحاً أن المنظور الديني كهوية انتهى وبالتالي أصبح المنظور القومي كهوية هو الأساس، وهذا ما حدث في أوروبا بالأساس، وقام النظام العالمي على أساس الأمة، تصبح مسألة تحديد الهوية من منظور قومي هي الأساس والدين يكون شأنا شخصيا ومن هنا تطرح مسألة العلمانية.

 

العقل والدين

 

◄الجديد: تكرر دعواتك لضرورة أن تكون ثقافتنا العربية الجديدة نتاجًا للتفاعل مع الغرب من خلال الاستيعاب وليس النقل، هل من إشكاليات ما قد تترتّب على استيراد العلمانية بصورتها في الغرب للمجتمعات العربية دون تغيير؟

 

سلامة كيلة: الفكر لا يرتبط بثقافة ما، حينما أخذ الأوروبيون ثقافة ابن رشد لم يقولوا هي خاصة بثقافة عربية لكنهم انطلقوا منها لتأسيس فلسفتهم. لا نستطيع أن نقول إن العلمانية هي اختراع أوروبي، على العكس من ذلك، حين ندرس تطور الفكر نرى أنه في نهاية الدولة العباسية دار صراع أساسي بين الإيمان والإلحاد، وردّ الفكر الأصولي الإسلامي بالحرب ضد الفلسفة، وهذا ما قام به الإمام أبو حامد الغزالي حينما حرّم الفلسفة وصارت العلوم هي علوم الدين. بعد قرنين من الزمان رد على ذلك ابن رشد معتبرًا أنه لا تعارض أو تناقض بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين، على العكس من ذلك هما شكلان لحقيقة واحدة. هنا ابن رشد وضع العقل في مواجهة الدين، هذه الفكرة هي التي تطوّرت في أوروبا وأسست العقلانية، لأن المدرسة الرشدية هي التي أسست هذا الفاصل والتي فرضت بالضرورة الوصول إلى العلمانية. من هذا المنظور ليس هناك علمانية يمكن أن نخترعها من تراثنا، وبالتالي علينا أن ننطلق من هذا التراكم الفكري الذي تحقق في أوروبا.

طبعا هناك تشدّد في العلمانية في بعض البلدان مثل تركيا وفرنسا، سبب التشدد هو أن الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا بالأساس كانت شرسة في مواجهة الحداثة فأصبح رد فعل الحداثة هو كيف نحجم ذيوع الدين، وأصبح هناك اقتحام حتى المجال الشخصي للناس، هنا إشكالية تخلط بين الإلحاد والعلمانية، في الواقع فصل الدين عن الدولة هو أساس ضروري في أيّ دولة حديثة.

 

ملحدون وعلمانيون

 

◄الجديد: ولكن هل تعتقد بأن هناك فهمًا صحيحًا للعلمانية لدى مثقفي العالم العربي؟ أليست العلمانية كما يطرحها كثير من المثقفين متصادمة مع الثقافات المحلية للشعوب العربية خصوصًا ما يتعلق بالهوية والدين؟

 

سلامة كيلة: في العالم العربي هناك ملحدون وليس علمانيين، للأسف عدد من يطرحون الفكرة العلمانية بشكلها الصحيح محدود، لهذا نلاحظ الفكر الإلحادي وهو ردّة فعل معاكسة للدين. الميل المتشدّد للأصولية والتيارات الإرهابية والإسلام السياسي ينتج عنهم ردّ فعل طبيعي لدى الشباب معاد للدين، وبالتالي هذا التيار يخدم التيار الديني المتشدد وليس العكس، لأن الإلحاد هو الانطلاق من فكرة الله، الدين يقول هناك إله بينما يقول الملحد ليس هناك إله، وبالتالي المعركة في هذا الجانب هي معركة وهمية لأن الإشكال في المجتمع ليس في الدين.

 

من هذا المنظور يحصر النقاش في فكر الدين ويجري تجاهل كل الإشكاليات، هو تيار يخدم استمرار هذا الشكل من الصراع حول فكرة الدين. المشكلة الأساسية لدينا في العالم العربي في الظروف المجتمعية الصعبة، ولم يكن الدين هو السبب الأساسي الذي تسبّب في ذيوع انتشار الإسلام السياسي كما شرحت آنفا.

نحن لازلنا في منطقة ردود الأفعال ولازلنا نفكر بمنطق القرون الوسطى، منطق أرسطو: الخير والشر، مع أو ضد، وبالتالي هناك دائما هويتان متصارعتان، هذه إشكالية العقل العربي إلى الآن فهو لا زال يعيش كما السلفيين، وكان الفكر الماركسي القديم واقعا في نفس الإشكالية في التعامل من منطق ردود الأفعال. العقل العربي محكوم بمنطق القياس، لديه فكرة يريد أن يخضع الواقع لها، إما بالدين لدى التيارات الإسلامية أو بأفكار لدى التيارات الأخرى، نحن نعيش بالفكر الذي تبلور مع نهاية الدولة العباسية، حتى الدين الذي نعرفه هو الذي تبلور في تلك الفترة وأسس لفكرة خذوا الحقائق من الألفاظ، هذا أسّس لتحول الدولة إلى دين شكلي، وجاء إلينا ابن تيمية وخيرالدين التونسي بفتاوى هائلة تحرّم كل شيء، هذا الدين الذي وصلنا هو دين الانهيار ولا زلنا نعيش في هذه المرحلة.

إشكاليات التجديد

◄الجديد: كيف تنظر لمشاريع التحديث الداعية لتأسيس حداثة إنسانية إنطلاقًا من مبادئ الدين الذي يقدم له قراءة جديدة معاصرة؟ هل يمكن أن تساهم تيارات الإصلاح الديني التوفيقية في الخروج من مآزق الفكر العربي؟

سلامة كيلة: المشكلة بهذا الموضوع هل يجب أن نبقى داخل إطار الفكر الإسلامي أم نعتبر أن هناك تطورًا حدث ويجب أن نتجاوز هذا الفكر؟ هذه إشكالية كلّ التيارات التجديدية، وهي أنها تبقى الفكر والمنظور المنهجي الذي حكم هذا الفكر بالأساس وتحاول أن تناور عبر التأويل، ولكن كل هذا خارج الفكر الحديث، وبالتالي نظل ندور داخل نفس الدائرة، وفي هذه الدائرة يكون أيّ أصولي هو أكثر قوة من أيّ تجديدي من هؤلاء لأنه يعود إلى النص وضرورة التقيّد به.

الفكر الإسلامي أصبح متجاوزًا بالضرورة، التجديد يعني أن نعود إلى الماضي ونبحث في الماضي وهذا أمر سيبقينا في إطار الماضي ولن يسمح لنا بأن نتطور، لا أستطيع مثلا أن ألغي منظور الدين الإسلامي للمرأة لأنه واضح في النص، ما فعله شخص مثل محمد شحرور عندما أعطى تصورا مختلفا وفهما جديدًا للدين لن يقتنع به أحد خصوصًا عندما يأتي أحدهم ويثبت عكسه بنص. لقد ضاع وقت طويل في الحديث عن التجديد باعتقادي دون فائدة.

موضة بلا مستقبل

◄ الجديد: لكن أليس لهذه التيارات التجديدية أهمية ما فيما يتعلق بإعادة بناء وعي المجتمعات وفهمها للدين في إطار حداثي بعيدًا عن المنظور السائد الذي بات غير مناسب للواقع؟

سلامة كيلة: ممكن جزئيا في بعض المسائل أن تلعب هذه التيارات دورًا في محاولة خلخلة الوعي التقليدي، وبالتالي تفتح أفقًا عند الناس أن تفكر بمنطق مختلف سواء في إطار الدين أو غير الدين، لكن هل ذلك يستدعي أن نحصر المناقشات لأكثر من عقود في هذه النقطة وكأنها هي الحل لكل شيء فيما كانت ولا تزال تتفاقم المشاكل المجتمعية والسياسية وغيرها. المشكلة هنا أن هذا الأمر أصبح “موضة” وكل شخص يتحدث في هذا الأمر لأن الإعلام يهتم به ومن هنا نحن ندفع الناس للاهتمام بشيء ليس هو الأساس أو الأهم بالنسبة إليهم.

حلول وسط

◄ الجديد: لماذا ظل الفكر العربي عاجزًا عن تأسيس وعي مطابق “جماهيري” على مدار تاريخه؟ وما السبيل نحو تحقيق ذلك برأيك؟

سلامة كيلة: في المنطقة العربية مع الأسف كل ما طرح مع نهاية القرن التاسع عشر لم يحمل على مصالح طبقة برجوازية هو أصلا يعبّر عنها، هذا إشكال السيطرة الاستعمارية التي فرضت أن يتحوّل تراكم الرأسمال الموجود لدى كبار ملاّك الأرض، فبدل أن يذهب إلى الصناعة ذهب إلى التجارة والخدمات، وبالتالي لم يؤسس مجتمعًا بديلًا لأن ما يؤسس ذلك المجتمع البديل هو تغيير النمط الاقتصادي كله إلى نمط صناعي حديث، ما جعل هذه البرجوازية التي حاولت الاستقلال عن الاستعمار لا تحمل هذا المشروع وتريد السلطة لتعزز مصالحها ولا تريد أن تؤسس صناعة حقيقية أو مجتمعاً حقيقياً. على العكس من ذلك كانت تدعم الميول الأصولية وتريد أن يبقى المجتمع بشكله التقليدي وأن يتقدم جزئياً في بعض الزوايا التي تحقق مصالحها. من هذا المنظور هذا الفكر تهمش، أتت الأحزاب القومية بحلّ وسط، وشكَّلت دولة مختلطة من العنصرين فيها شيء من الحداثة وفيها كثير من التقليد، أرادت تغيير الواقع لكن إلى حسابها. ومن ثم دمرت التجربة نفسها.

الميل الأصولي

◄ الجديد: في الوقت الراهن يشكل الإرهاب الخطر الأكبر على العالم فيما يتم تعزيز أطروحات تؤكد أن التنظيمات الإرهابية هي نتاج ثقافة العنف الموجودة في الفكر العربي. هل تتفق مع تلك الأطروحات؟ أم أن هناك أبعادًا أخرى ترى أنها تسببت في تغول تلك الظاهرة؟ وما السبيل لمواجهتها فكريا وثقافيا؟

سلامة كيلة: حينما نتحدث عن الإرهاب يجب أن نرى الظاهرة كشيء مركّب، وهذه مسألة جوهرية. هل في الإسلام عناصر تشير لما يمارس من قبل هذه التيارات؟ في كل التاريخ القديم كانت هناك ميول للعنف من قبل النظم، لم يكن هناك مفهوم اسمه ديمقراطية أو حقوق إنسان أو قيم المجتمع التي تبلورت في عصر النهضة وبالتالي فبالضرورة في أيّ قانون سنلمس وجود جملة هذه العناصر في العقاب والأحكام، وبالتالي في ذلك الوقت كانت هذه هي القوانين السائدة وكان هذا الوعي المجتمعي هو المستوى الذي يصله.

 

حينما نبحث في الوضع الآن، يجب أن نلمس الظواهر بدقة شديدة، هناك تيارات تميل للعنف؛ تيارات فكرية مثل الوهابية التي هي أساس مجمل التيارات الإرهابية، هناك ميل لتطبيق الأحكام الدينية بشكل ميكانيكي فظ، وعودة لابن تيمية ومنظور الغزالي في تبسيط مبادئ الدين كما أشرت من قبل.

الظاهرة القائمة الآن لا تتعلق بالدين الإسلامي ذاته لأن الدين الإسلامي أيضًا كان في المجتمع موجودًا منذ قرون طويلة وكان هناك تعايش مجتمعي ولم تكن هذه الظاهرة موجودة، حتى حينما كان يشار لصراع طائفي كان البحث في الظاهرة يشير إلى أنه خلف هذا الصراع بعض المصالح الطبقية والصراعات العشائرية وبالتالي الدين كان يؤخذ كشكل ما، غطاء ما لحالة واقعية.

مع الأسف هناك العديد من الدول التي عملت على تعميم الميل الأصولي المتخلف في الدين منذ سبعينات القرن الماضي، كان تعميم الوهابية عنصرًا أساسيًا في فكر بعض الدول التي كانت تريد أن تدمّر كل الفكر القديم وكانت تريد أن تهيمن أيديولوجيا على المجتمع العربي عبر هيمنة الوهابية التي كانت تدفع باتجاه الميل العنيف للهيمنة على المجتمع.

هذا الشكل من الدين أداة لعب بأيدي أجهزة مخابرات، والجماعات الإرهابية من القاعدة إلى داعش وغيرهما هي اختراع أجهزة مخابرات لكن مع انهيار الوضع الاقتصادي المعيشي والتعليمي والتهميش في مناطق اجتماعية معينة كان من السهل أن يستقطب العديد من الشباب في حالة صنعتها أجهزة أمنية ولم تصنع من هؤلاء الناس، لم تكن الظاهرة نتاجا واقعيا مجتمعيا بالأساس، إنما كانت فعلا خارجيا استقطب قطاعات شبابية.

الآن يجب أن نبحث في هذه الظاهرة من منظور سوسيولوجي وليس من منظور ديني، لأن الشاب البسيط المهمش الذي يريد أن ينتحر من أجل الجنة، حينما نحلل الأمر نفسيا نجد أن هذا الأمر هوس جنسي لأن البيئة التي يعيش فيها هي بيئة قهر وكبت في مجتمع عالمي مفتوح، الحل لدى هذا الشخص أن يوهم نفسه أن هناك جنة يفجر نفسه من أجل الوصول إليها.

هناك أيضًا فئات مهمشة تريد أن تظهر في الصورة، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الفئات المهمشة تذهب نحو اليسار الذي كان الظاهرة البارزة الموجودة بالصورة، لهذا نجد أن الإعلام الغربي والإعلام العربي بشكل واسع ركز على هذه التنظيمات، هذا الجوّ يسمح لبعض الفئات المهمشة أن تعتقد بأن وجودها هنا يحقق لها ذاتها. من ثم المشكلة لا تتعلق بمحاربة التطرف. ينبغي عدم دعم الأصولية المتخلفة في الدين وأن يصبح هناك فعل لدمج الفئات المهمشة في الصراع الواقعي المجتمعي وهنا يأتي دور اليسار بالأساس.

صراع مجتمعي

◄ الجديد: ماذا عن القول بأن الثقافة العربية تحمل جذور العنف بداخلها؟

سلامة كيلة: هذه إشكالية مطلوب أن نقتنع بها نحن بينما هي غير موجودة في الواقع، لو كانت هناك بنية عنيفة لكان المجتمع العربي تدمّر منذ مئات السنين. في مصر نشأت ظاهرة الصراع الطائفي والأصولي في الفترة من العشرينات إلى الخمسينات من القرن الماضي عن طريق الإخوان المسلمين بدعم من القصر والإنكليز، ورغم ذلك كان اليسار يهيمن أكثر. منذ السبعينات القرن العشرين بدأ الحشد في هذا الاتجاه، بالتالي بدأ الصراع الحقيقي في تلك الفترة، إذا كان الوعي المجتمعي في عشرينات القرن الماضي أبسط كثيرا منه في سبعيناته ولم يحدث صراع طائفي، لماذا حدث بعد ذلك؟ لأن هناك فعلًا مقصودًا، المجتمعات العربية الريفية علاقتها بالدين ليست متعصّبة، هناك تسامح كبير بالدين والمجتمع العربي كان في الغالب ريفيًا، كان هناك ميل للتشدد الديني في الفئات التجارية المدنية لكنها كانت محصورة في دائرة المدن لذا كانت هي قاعدة الإسلام السياسي. أيضًا في الإسلام توجد آيات بها تشدد وهناك آيات بها مرونة وبالتالي كيفية استخدام الآيات يتعلق بمنظور مسبق لدى الفئات التي توظّف هذه الآيات، من هذا المنظور يجب أن ننظر للمسألة من زاوية الصراع المجتمعي القائم وليس من منظور الإسلام كدين أو ثقافة.

◄ الجديد: في ظل التحوّلات العاصفة التي تمر بها المنطقة العربية وتساهم في تحريكها قوى غربية، هل يمكن الحديث عن دور ما يمكن للمثقف أن يضطلع به في تلك الفترة؟ وكيف يمكن التأسيس لجهد ثقافي جمعي في ظل حالة الشتات والخلاف بين أفراد النخب العربية؟

سلامة كيلة: السؤال هو أي مثقف نقصد؟ كلمة مثقف عامة وفوق التيارات الفكرية أيضا لأن هناك مثقفا يدافع عن مافيا الفئات الحاكمة، ومثقفا يعتبر أن الليبرالية هي الحل الأساسي بينما هي التي دمرت مجتمعاتنا، وهناك مثقف يحاول أن يطرح مشروعًا وهميًا، فأيّ مثقف يجب أن نتحدث عنه؟

أولا: تطوير الثقافة والوعي الفكري من المسائل الضرورية المهمة وهي ناقصة في مجتمعاتنا العربية، ثانياً المثقف الذي يستطيع أن يلعب دورًا هو الذي يرتبط بواقع الناس ويستطيع أن يفهم مشكلاتهم ويطرح تصورات حقيقية لمشكلات المجتمع في مستوياته المتعددة، كل هذا من دور المثقف الذي يجب أن يعبّر عن فئات المجتمع. للأسف هذا التيار ضعيف لأن اليسار القديم لم يستطع أن يلعب دورًا لكن نأمل أن تكون الثورات العربية قد حركت فئات من الشباب لتؤسس لثقافة مختلفة ووعي مختلف، وأعتقد بأن الفترة القادمة ستشهد ذلك من خلال طرح مشروع بديل حقيقي وإقناع الناس بهذا المشروع لتحقيق تغيير حقيقي في المجتمع، ومن المفترض أن يصير هناك توحيد لتلك الجهود لأنه لا بديل عن ذلك.

قضية المعرفة

◄ الجديد: تلك الثورات التي نعوّل عليها في خلق تيار ثقافي بديل لم تكن سببًا لتوحيد جهود الأنتلجنسيا العربية بل أثبتت فشلها في أن تقوم بدور حقيقي في عملية التغيير. كيف تنظر إلى المسألة؟

سلامة كيلة: لم تكن هناك نخب ثقافية حقيقية موجودة، النمط الثقافي الذي كان سائدًا عند المثقفين لم يكن يفهم الواقع جيداً، كان هناك استعلاء ما على الناس، هناك عيش في برج عاجي يجعل المثقف يفكّر فيما هو بعيد عن المجتمع، قلة من بقيت تحاول أن تدافع عن الناس، لكن ما أعتقد بأنه أساسي المثقف الذي يمكن أن يتبلور في المرحلة القادمة لأن هناك الآن أجيالا من الشباب بدأت في تشكيل وعيها انطلاقا من أسئلة الواقع ليس فقط من الكتب، الآن من يقرأ كتابا من الشباب يريد أن يجيب على أسئلته لا أن يعرف فقط، والفرق بين المعرفة وإنتاج الفكر مسافة كبيرة، هذه المرحلة هي التي يمكن أن تنتج فكرًا مختلفاً وتنتج نخباً من المثقفين على كافة الأصعدة، أهمّ ما حققته الثورات أنها أطلقت ميلًا شديدًا لدى الشباب للمعرفة والبحث عن إجابات لأسئلة الواقع وهذه أهم مسألة لأي إنتاج فكري.

أسلمة التحولات

◄ الجديد: انفجارات “الربيع العربي” بدت فرصة سانحة أمام اليسار كي ينهض من كبوته. فلماذا فشل اليسار العربي في أن يتصدر المشهد فيما نجح تيار الإسلام السياسي؟

سلامة كيلة: لأمر يتعلق بالظروف التي سبقت الانتفاضات العربية، من يشاهد الوضع العربي منذ سبعينات القرن الماضي؛ التحولات التي جرت في الأنظمة التي كانت تعتبر ذاتها يسارية أو اشتراكية نحو تعميم الليبرالية، والتصالح مع العدو الصهيوني ثم بعد ذلك انهيار الاتحاد السوفييتي. كل ذلك كان يشير إلى أن الموجة التي بدأت منذ أربعينات القرن الماضي وتوسعت في الخمسينات منه والتي أظهرت أن اليسار قوة أساسية سيطرت، تلك الموجة انكسرت. والأنظمة التي ادعت اليسارية انهارت وأصبحت ليبرالية بالأساس، والأحزاب التي اعتبرت نفسها يسارية كانت قد انهارت أو ضعفت إلى حد كبير مع هذه الأنظمة. لهذا كان واضحاً منذ سبعينات القرن العشرين أن اليسار يتراجع، ثم جاء انهيار الاتحاد السوفييتي كي يضع أساسًا أكبر لتوضيح انهيار هذا اليسار وتلاشيه تقريبا وتحوّله إلى أحزاب صغيرة.

في المقابل بدأت موجة الأصولية في سبعينات القرن الماضي أيضاً عبر دعم الأنظمة، وعبر أيضاً ميل لتعميم اللبرلة قام على أساس تدمير التعليم، وبالتالي تسطيح ثقافة الأجيال الجديدة إلى حد أن الأجيال التي ظهرت في تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الجديد كانت ضعيفة الثقافة للغاية، وأصبح هناك هروب من التعليم أصلاً، وعادت الأمية لدى قطاع كبير في المجتمعات، ارتبط ذلك بميل بعض المجموعات الإسلامية لأن تلعب دوراً سياسياً في فلسطين بالأساس؛ حركة حماس التي ظهرت كأنها البديل عن المقاومة الفلسطينية أعطت رمزية ما للإسلام السياسي بعد أن كان قد تلاشى في السنوات السابقة، ثم أتت أحداث 11 سبتمبر 2001 لتظهر كأن الإسلام السياسي مناهض لأميركا، في نفس الوقت الذي بدأت تنظيمات الإسلام السياسي تلعب على وتر الديمقراطية.

في هذا الوضع كان واضحاً أن هناك قطاعًا مجتمعيًا قد تأسلم مع انهيار التعليم وانهيار الوضع الاقتصادي، وأن الإسلام السياسي بدأ يتخذ شكل اليسار القديم حيث بدأ يظهر كمعاد للإمبريالية، معاد للدولة الصهيونية ومعاد للأنظمة وأنه ديمقراطي، وأصبحت هناك صورة حول الإسلام السياسي هي بالأساس صورة لليسار، من هذا المنظور كان يتوقع أن يتصدّر الإسلام السياسي المشهد مع قيام الثورات العربية.

ومع الأسف لعبت قطاعات من اليسار دورًا أساسيًا للترويج لهذا الإسلام السياسي والتحالف معه، من هنا جاء انتصار الإسلام السياسي خصوصا أن الثورات أوضحت أن اليسار قد مات لأنه لم يتوقّع الثورات أصلا، بعضه شارك لكن بشكل شكلي جدا وبعضه وقف ضد الثورات، ومن ثم كان أمام الناس التي شاركت في الانتخابات أن الإسلام السياسي برمزيته وبشكله الذي تبلور في العقود السابقة يمكن أن يحمل لها بعض الحلول، لذلك نجح الإسلام السياسي في أحد عناصره نتيجة هذه الرمزية، رغم أن الأمور كانت أبعد من ذلك، فالنظم القديمة أيضا دعمت نجاح الإسلام السياسي لأنها كانت تريد أن تقيم صفقة بين وجودها وبين الإسلام السياسي من أجل تجديد النظام السياسي وليس من أجل تغييره.

يسار بلا رؤية

◄الجديد: لكن ألم يكن المناخ الذي وفّرته الانتفاضات العربية من حرية ورغبة في التغيير فرصة للمّ شتات اليسار ولو بالقدر اليسير؟

سلامة كيلة: للأسف حينما قلت إن اليسار قد مات كنت أقصد هذه الكلمة، اليسار أصبح لا يمتلك رؤية حقيقية للواقع، أصبح يعيش بأوهام ثقافوية أو سياسية تجعله بعيدًا عن حركة الشارع والصراع الواقعي، لهذا عندما ندرس وضع اليسار بعد الثورات نجد أنه كان يحكمه مساران أو خياران: خيار أول يتعلق بالتحول إلى الليبرالية أو التركيز على الديمقراطية وبالتالي اعتبار الديمقراطية هي أساس نشاطه، وهنا كان يبتعد عن الناس لأنهم كانوا يعيشون وضعًا انهياريًا على المستوى الثقافي والتعليمي ويعيشون أزمة مجتمعية بكل معنى الكلمة، بينما اليسار كان يركز على الديمقراطية والحرية وهي مبادئ تتعلق بمصالح فئة وسطى تريد أن تلعب دورًا ما في الشأن العام والسياسي، هذا الشق كان بعيدا عن واقع الصراع. الخيار الآخر كان التركيز على شعارات كبيرة كالصراع ضد الإمبريالية، وبالتالي تحوّل نشاطه إلى شعارات بعيدة عن الواقع ذاته، فركز على ما هو خارجي وبعيد دون أن يلمس المشكلات المجتمعية.

 

من هذا المنظور كان اليسار بشقّيه لا يعي الواقع أو مشكلات الناس ولا يعتقد بأن الناس من الممكن أن تقوم بثورة، وهذا ما كنت قد ناقشته مع تيارات اليسار في ذلك الوقت، حاول البعض أن يلملم ذاته ولكن بقي محكوماً بأحد الخيارين، وظل مقطوع الصلة مع الأزمة المجتمعية العميقة التي تتمثل بالأساس في النمط الاقتصادي المهيمن في المجتمع.

رأسمالية بلا صناعة

◄ الجديد: في كتابك “مشكلات الماركسية في الوطن العربي” قلت إن “كل الحلول التي تبحث في الاستقلال والتقدم خارج إطار الحل الماركسي غير ممكنة ولا تعدو أن تكون وهما، والحل الماركسي هو الحل الوحيد الممكن، ولا يمكن تحقيق التقدم إلا في إطار البحث في طريق الوصول إلى الاشتراكية”.. ما الذي يجعلك تقصر عملية التغيير والتقدم في الوطن العربي على الرؤية الماركسية في ظل الأزمات التي عانتها ولا تزال تعانيها في سيرورتها التاريخية؟

سلامة كيلة: حين نبحث في مشكلات الواقع الاقتصادية، نجد أن النمط الاقتصادي العالمي فرض تشابهاً كبيراً في أوضاع المجتمعات، كيف يمكن أن نحل مشكلة مثل البطالة؟ يجب أن ننتج وسائل اقتصادية تستوعب البطالة، وبما أن الصناعة تستوعب الحجم الأكبر من العمالة ينبغي أن تكون السياسة المتّبعة توسيع بناء الصناعة، هنا يطرح السؤال: هل الرأسمالية الحاكمة معنية بتطوير الصناعة؟ ما ظهر في السنوات الماضية أن تلك الرأسمالية هي التي دمّرت الصناعة، ولا توجد فئات رأسمالية أخرى يمكن أن تحمل مشروعًا صناعيًا، وحينما فكّر بعضهم مثل طلعت حرب انتهت التجربة وهزمت، يجب أن يكون بناء الصناعة خارج إطار الاقتصاد المفتوح. مع قيام الصناعة لا بد من حلّ مشكلة الفقر وإعادة بناء المجتمع على أساس يعطي للناس حقوقهم.

◄ الجديد: تقصد أن الجانب الاقتصادي الذي تطرحه الماركسية هو الخطوة الأولى نحو التقدم؟

سلامة كيلة: بناء الصناعة حجر أساس، لكن القصة ليست أولاً وثانياً في التطور التاريخي إلا في إطار محاولات التطور العام، إذا أصبح هناك نظام معنيّ بتطوير الصناعة وبنائها وتغيير مجتمعي لا بد أن يعمل على إعادة بناء نظام التعليم، أيضًا سيكون مطلوبًا البحث في سبل تطوير الزراعة لأننا نحتاج أن نعيش في زراعات لا أن نستورد حتى الخبز، المسألة شاملة لكن النقطة الأساسية تتمركز حول كيفية بناء قوى إنتاج تسمح بتحسّن أوضاع الناس.

مرحلة النهوض

◄ الجديد: أنت صاحب تجربة فكرية ثرية. ولدت في فلسطين وتنقلت بين عواصم عربية عدة. ما الذي منحتك إياه النشأة في فلسطين ثم التنقل ما بين بغداد وعمّان ودمشق والقاهرة؟ أيّ عوالم جديدة اكتسبتها ثقافتك مع كل ترحال إلى بلد عربي؟

سلامة كيلة: ولدت في مدينة بير زيت في فلسطين، عشت في مرحلة نهوض تحرّري عربي، والدي كان يعتبر نفسه ناصريًا رغم أنه لم ينتم للحزب، اللحظة التي شعرت فيها أنني تحولت من طفل إلى رجل هي لحظة هزيمة 5 يونيو/ حزيران، كان عمري آنذاك 12 عامًا، عشت بداية الحرب وبداية دخول الاحتلال الصهيوني، منحتني تلك اللحظة فهم لمعنى مواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين والعمل بالمقاومة، وكانت بيئة بيتي تجعلني أفهم الأمور من منظور عربي.

منذ تلك اللحظة أنهيت نفسي كطفل وبدأت الاهتمام بالسياسة، بعد ذلك ذهبت إلى بغداد لدراسة العلوم السياسية بعدما صارت همّي الأساسي وكنت معنيا بهذا المشروع: أن أشتغل بالفكر السياسي وتغيير هذا المجتمع، أعطتني بغداد هذه الحالة من التركيز على الثقافة، كانت مكتباتها زاخرة بكل أنواع الكتب، وكنت معنيا بالقراءة في مختلف مجالات التاريخ والسياسة والفكر، كنت معنيا ببلورة بديل مختلف عن الأحزاب القائمة.

بعد ذلك جاء استقراري في دمشق وصرت جزءًا من حركة التحرير الشعبية العربية، دمشق تعطي حياة أخرى، فقد كانت جزءًا أساسيًا من حياتي، عشت مرحلة انهيار المعارضة السورية والأحزاب العربية، كان تركيزي على المستوى الفكري في القراءة والكتابة والبحث، وبدأت أصدر أول كتبي من دمشق في العام 1983 كان كتاب “نقد الحزب” لمناقشة بنية الأحزاب الاستبدادية وكيف تكون غير استبدادية، ومن هناك بدأت حركة النشر وعشت تقريبا عشر سنوات في دمشق ثم فترة الاعتقال ثماني سنوات، ثم بعد ذلك عشت ربيع دمشق بعد عام 2000 بعد موت حافظ الأسد، ومرحلة تمرير بشار كوريث، وبدأت حالة حراك كنت جزءًا منها وعضوًا أساسيًا بمنتدى جمال الأتاسي.

 

منذ العام 2007 بدأت أشعر أن المنطقة العربية متجهة نحو الثورة، وبدأ عملي من دمشق على هذا الأساس؛ مدى إمكانية بلورة أفكار جديدة، وأصدرت سلسلة “كراسات ماركسية” لأنني كنت معنيًا بالشباب في الأساس. توقعت أن تنطلق الثورات العربية من مصر، وعندما قامت ثورة يناير في مصر كنت مشاركًا فيها، أيضًا شاركت فيما بعد في الثورة السورية ونشطنا في دعم لجان التنسيق بعيداً عن الأحزاب التي دخلت في متاهات، وأصدرنا جريدة “اليساري” وبعد العدد الثاني اعتقلني النظام على هذا الأساس. بعد ذلك كانت القاهرة خيارًا لي بعد عودتي من المنفى في الأردن لأنها توفر لي فرصة البقاء ضمن دائرة الصراع والتواصل مع الكتل السورية والمصرية.

تجربة السجن

◄ الجديد: تم اعتقالك مرتين من قبل السلطات السورية، الأولى في عهد حافظ الأسد والثانية بعد الثورة السورية.. ما تأثير تلك التجربة عليك؟

سلامة كيلة: على المستوى النفسي لم يكن لتلك التجربة تأثير كبير عليّ لأنني دومًا أعدّ نفسي لدخول السجن، لست من الأشخاص الذين يعملون في السياسة ولا يعرفون عواقب ذلك، فمن يغيّر المجتمع عليه أن يتحمل نتائج ذلك. طبعا تظل تجربة الاعتقال صعبة، فقد خرجت من سجن تدمر مريضًا بالسرطان فضلًا عن التعذيب والضرب الذي لقيته في المرتين، لكن كل شخص يمكن أن يستفيد من تلك التجربة بشكل أو بآخر، خلال فترة الاعتقال قرأت كمية كبيرة من الكتب لم يكن ممكناً قراءتها خارج السجن كما كتبت العديد من الكتب.

كنت شاعرا

◄ الجديد: ما هي أبرز الكتب التي ساهمت في تشكيل وعيك الثقافي باكرًا في شبابك؟ وهل من أدباء بعينهم تفضل القراءة لهم سواء من العرب أو غيرهم؟

سلامة كيلة: في مرحلة الشباب كنت أقرأ الشعر، وكدت أصدر ديوان شعر لكنني تراجعت عن هذا المسار، قلت إن هناك شعراء كثر في العالم العربي لكنني أميل لشيء آخر أهم، قرأت لمعظم شعراء سبعينات القرن العشرين وكبار الروائيين المصريين. في الثمانينات من القرن الماضي قرأت روايات أكثر وشعرا أقل. في السبعينات من القرن العشرين قرأت ثلاثة كتب مثّلت أهم التيارات الفكرية: كتاب “البيان الشيوعي” لماركس وأنجلز، و”الميثاق” لجمال عبدالناصر، و”معالم الحياة العربية الجديدة” لمنيف الرزاز. وبدأت أقرأ في التاريخ، وقرأت الماركسية أكثر في العراق فضلًا عن التاريخ الفلسطيني والعربي، وكنت أربط مفهوم النظري بالواقع والتاريخ، وهو ما أوصلني لكون الماركسية منهج تفكير يتجاوز منطق الشكل لمصلحة فهم كلية البنية من السياسة والاقتصاد والتاريخ.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى