هموم بحجم الورد ولونه في مجموعة قصصية جديدة

في مجموعتها القصصية الأولى “هموم الورد” الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، تطرح الكاتبة هدى أبو غنيمة هموماً من نوع آخر، هموماً بحجم الورد ولونه، إنها هموم الورد، والورد هنا يرمز إلى كل ما هو متصل بالطبيعة، التي لم تلوثها يد البشر، وبالبراءة التي لم تلوثها قيمهم المتوحشة.

تتكون المجموعة من خمس وعشرين قصة وحكاية، إذ أن بعضها هي فعلا حكايات حقيقية شهدتها الكاتبة، لكنها قُدِّمت بأسلوب قصصي، مع احتفاظها بأسماء الشخوص الحقيقية (قصة “طيف لينا” التي تحكي قصة طالبتها الراحلة لينا مؤيد العتيلي التي توفيت إثر مرض عضال رافقها منذ الطفولة، أو قصة “هموم الورد” التي تحكي قصة الدبلوماسية السويسرية التي تحكي هموم الورد في بلادها).

تحاول الكاتبة في معظم قصص المجموعة لفت الانتباه إلى قضايا البيئة، أو الطبيعة، وضرورة العودة إليها لأنها أُمّنا الحنون التي ترحمنا إذا ما ظلمنا أنفسنا، وظلمناها بتدميرنا لها بما في ذلك تدميرنا لأنفسنا، إذا ما اعتبرنا نفسنا جزءا من الطبيعة.

ففي قصة “نداء زهرة” نجد الناس مشغولين بحياتهم وصرعاتهم، ولا أحد يهتم بالجمال من حوله الذي وهبنا إياه الله، الحياة شوّهت طبيعتنا، الطفولة فقط هي ما حافظ على براءته وانتمى للطبيعة.

“… والمقابل لمسكن زهرة المتواضع في حوض متآكل على الرَّصـيف، ازداد ظمؤها، فلوت عنقها مستسلمة لمصـيرها، ولم تلحظ اقتراب تلك الصَّبيَّة الصَّغيرة برفقة أُمِّها وهي تحمل نصف زجاجة ماء أفرغتها في الحوض، انتعشت زهرة، فرفعت رأسها لترى الصَّبيَّة الصمَّاء تبتسم بودٍّ وحزن شفيف”.

أما في قصة “أفق أخضر” فالبطلة لا تجد نفسها إلا بالانسجام مع الطبيعة “… تقلَّبت على العشب الأخضـر، وتأرجحت بالأغصان الدانية، لامست خديها الأوراق كأيد حانية، هنا عالمها ومفردات وجدانها، عاد قلبها متورِّدًا خافقًا بعد شحوب…”.

قصص الكاتبة أبو غنيمة مليئة بالأزهار، هي الجزء الأجمل فينا، وهو الذي يربط حاضرنا بماضينا، فرائحة الياسمين في قصة “تواصل…” تذكّر البطلة ببيت جدتها في قرطبة “الأندلس” الضائعة “… وحينما استدارت بدت برأسها المرفوع بكبرياء، وشعرها الكستنائي المنسدل على ظهرها، مهرة مطوَّقة بالياسمين.”

وكثيرا ًما تجري الكاتبة مقابلات ما بين القرية والمدينة، فالقرية هي امتداد للطبيعة، والبراءة، والألفة، والعطاء، أما المدينة فهي صنو الحياة المصطنعة، والقسوة، والغربة، والاستهلاك. في قصة “غربة وتر” تقول الكاتبة: “… لم تقرأ آمنة في حياتها ديوانَ شعر، لكنها ألفت الإصغاء إلى عزف الرياح والمطر على أوتار الأرض لتعطي حبًّا ورضـى. فاختزنت في روحها ديوان شعر، وطرزت ثوبها بألوان الأرض ومفرداتها، ونسجت قصب عصبتها من أشعة شمس متوقدة الكبرياء.”

وتقول أيضاً: “.. بقيت الحاجة آمنة فتيَّة قوية، حتى هجر أبناؤها وأحبابها الأرض وانقطعت زياراتهم؛ فهرمت وشاخت، وأطبق على روحها ضباب أسـى الغربة، وأحنى ظهرها صقيع الوحدة، وانطوت على نفسها تسـرِّح بصـرها بشوق وأسـى مع كل سـرب طائر…”،

وتضيف: “… كم كانت تفتقد الأنس في قرية هجرها معظم أقاربها وأبنائها، وأغوتهم عن صدق عطائها حياة المدينة ومباهجها… هل كانت الحاجة آمنة بروحها الشاعرة تحس أن الهواء ثقيل حولها، أم كانت تفتقد عزف الرياح على أوتار الأرض”.

ومن قصص المجموعة، قصة “ذهب الخريف”، تقول فيها:

“آنست الشجرةُ وحشتي في تلك الأرض الغريبة، وحشة فارس عرَبيٍّ غابت الشمس عن زمنه. وهل الفروسـية صفة للرِّجال دون النساء؟ تراءت لي تلك الشجرة بألوانها الفاتنة والشمس الخرِيفيَّة الحَانية ترسل أشعَّتها بين الأغصان حكاية حياة. أوراق خضـرَاء وأوراق تميل إلى الاصفِرار، وأخرى ذهبية اللون تتأرجح على أغصانها.

هبَّت رياح خريفية؛ فتساقطت الأوراق الذهبيَّة على أرض الساحة المحيطة بالدار وتبعثرت في أرجائها. كم من البشـر يتساقطون كل يوم مثل هذه الأوراق! وكم من الحكايات المكتوبة على هذه الأوراق، لو استطعنا تظهيرها أو أرهفنا حواسنا الداخلية، لمعرفة ما تختزنه من أسـرار!

تراءت لي وجوهٌ كثيرةٌ تساقطت مثل هذه الأوراق. وقبل أن أسترسل في تأملها، قاطعني صوت آلة عامل القمامة الحديديَّة وهو ينظف الساحة ويلاحق الأوراق، وهي تبدو كأنها تهرب منه. كنت أرقب المشهد من النافذة، وبلا تردد قلت: لا، دعها. نظر نحوي العامل بريبَةٍ. رفع حاجبيه ثم أكمل عملهُ مطرقاً. باغتني صوت أمي: ألم أقل لكِ إنك اخترت طريقًا شاقًّا محفوفًا بالمخاطر والمتاعب؟ قلت وعيناي معلَّقتان على أوراق بقيت تتأرجح على أغصانها: لولا انصهاري في حرارة التجرِبة لما اكتسبت صداقة الحياة وعزيمَة الفرسان. هل كنت تؤثرين أن أكون دمية؟ قالت: لا، ولكنهم أطفأوا وهج روحك، ولم تستمتعي بزهرة عمرك. وضعوا العثرات في طريق طموحك، وطوَّقوا أحلامك بالشوك. لولا ذلك لأنجزت أفضل مما فعلت في رحلة عمرك. قلت: لا أحدَ يحاصـر الأحلام، الحلم دومًا طوقُ نجَاة، لولا المشقات لما عرفت قيمَة ذاتي وهبَة إنسانيتي، وحسبي أنني مثلت لهم تحديًا لم يستطيعوا تجاوزَه.

لمعت على صفحة الذاكرة أحداثٌ ومواقفُ كانت قد سقطت مثل ذهب الخريف إلى أعماق سحِيقة من ذاتي. كنت قد تناسـيتُها خشـية أن أتذوَّق مرَارتها مرة أخرى. مرَّ في خاطري شـريط طويل، كنت فيه ذاتًا وموضوعًا في آن معًا. تنبَّهت من تداعيات خواطري على صوت قطرات مطر حانيَة على زجاج النافذة وعطر الترَاب المندَّى بالمطر يعبق في الروح واعدًا بعطاءٍ جديد”.

ويذكر أن الكاتبة هدى محمّد صبحي أبو غنيمة وُلدت سنة 1949 في دمشق، أنهت الثانوية العامة في مدرسة التجهيز الثانية للبنات في دمشق سنة 1967، وحصلت على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق سنة 1973، وشهادة الدبلوم العالي من جامعة محمّد الخامس بالرباط/ المغرب سنة 1985، ثم شهادة الماجستير في الأدب الحديث من الجامعة نفسها سنة 1989، ثم حصلت على شهادة الدبلوم العالي في الدراسات التربوية العليا من جامعة عمّان العربية للدراسات العليا سنة 2006.

عملت مدرّسةً في عدد من المدارس، وكليات المجتمع، والجامعات، منها الكلية العربية بعمّان، ومدرسة العروبة الثانوية، ثم في كلية المجتمع العربي، ثم في جامعة البنات الأردنية («البترا» في ما بعد)، فالجامعة الألمانية (2008- 2012).

أعدّت برامج ثقافية للإذاعة الأردنية، وكتبت في صحف «الرأي»، و«الدستور»، و«المجد»، ومجلات: «الروزنا»، و«أفكار». وهي عضو في رابطة الكتّاب الأردنيين، ونالت جائزة البحث المميز في مؤتمر المجلس الدولي لصاحبة الجلالة – اللغة العربية السادس، الذي عقد تحت رعاية حاكم دبي الشـيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن بحث بعنوان «اللغة العربية والأمن اللغوي والثقافي»، 1-4 مايو/آيار 2017.

من أعمالها الأدبية: «معاناة عربي»، نوفيلا، 1985، و«الرصـيد»، نص مفتوح، 1996، «سـيرة منفيّة.. من أوراق صبحي أبو غنيمة»، دراسة أدبية وثائقية، 2002، و«أرَقُ الشوارد»، دراسات أدبية، 2011.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى