‘إنشالله استفدت’: كوميديا سوداء تعري البيروقراطية الأردنية

عواد علي

يتناول الفيلم الروائي الطويل للمخرج الأردني محمود المسّاد “إنشالله استفدت” (125 دقيقة) الذي شارك المخرج في مونتاجه ومثّل دورا رئيسا فيه، أحداثا مستوحاة من الواقع الأردني بأسلوب الكوميديا السوداء، وبنظرة ساخرة إلى أوساط اجتماعية وإدارية مختلفة تسيطر عليها البيروقراطية وانعدام الكفاءة، ويشوبها الفقر والسخط والفساد على المستوى الفردي الذي لا يخلو منه أي مجتمع عربي تشبه حاله حال المجتمع الأردني.

 

علاقات متشنجة

بطل الفيلم أحمد فرّاج (أدى دوره أحمد ظاهر، الذي يمثّل أول مرة في حياته) مقاول بناء بسيط، وصاحب أسرة تتكون من زوجة وطفلين، لكنه شخصية لامبالية محيرة، إلى جانب إخفائها روحا ساخرة منحتها خفة تتساوق مع قبولها بمآلاتها برضى ظاهري على الأقل.

يُحكم على فرّاج بالحبس مدة ثلاثة أشهر لعجزه عن تسديد 1800 دينار أردني استلمها مقابل إتمامه مشروع بناء يعود إلى أحد الأشخاص، ولعدم إكماله العمل وتأخّره عن إرجاع المال اعتُبر في نظر القانون متهربا ومتحايلا.

يأمل فرّاج وهو في السجن، أن يساعده ابن عمته على دفع المبلغ لكي يُفرج عنه، رغم أنه يمتلك سيارة وبإمكان زوجته بيعها وتسديد المبلغ، ويتضح من الاتصالات الهاتفية المتكررة بينه وبين ابن عمته أن الثاني ينتظر تخليص مجموعة أجهزة “كومبيوتر” محمول من الجمارك كان قد اشتراها من كندا ليبيعها في السوق، وحين يفلح في تخليصها، من خلال رشوة مدير الجمارك بخروف بلدي، يتعرض لعملية احتيال يسرق فيها أحدهم تلك الأجهزة.

لكن الشرطة تكتشف السارق، وهو “إبراهيم” أحد أصدقاء فراّج (مثّل المخرج دوره) حينما تستخدم زوجته أحد الأجهزة في البيت لإجراء اتصال مع أهلها عبر “الماسنجر”، فتقتحم الشرطة البيت وتستولي على الأجهزة وتعيدها إلى صاحبها، باستثناء جهاز واحد يحتفظ به الشرطي سلمان، الذي كان يحلم منذ مدة طويلة بامتلاك “كومبيوتر” لينضم إلى عالم “الفيسبوك” لمآرب عاطفية، وهي مفارقة لا تخلو من المبالغة، رغم أنها تشير إلى ضعف دخل الشرطي وعجزه عن شراء هذا الجهاز الذي صار في متناول الجميع.

وتزداد هذه المفارقة غرابة حين يتلقى الشرطي مكالمة هاتفية من زوجته، وهو يحرس في عربة ترحيل مجموعة سجناء خطرين متهمين بتهديد “أمن الدولة” (يرتدون الزي البرتقالي)، تخبره فيها بأن بيتهم تعرّض للسرقة، وكان فرّاج داخل تلك العربة أيضا لترحيله إلى مركز استلامه بعد انتهاء فترة محكوميّته.

ويبدو مشهد عربة الترحيل مثيرا جدا، ففي الوقت الذي ينشغل فيه الشرطي بمكالمة زوجته خلف حاجز من القضبان، يفتح السجناء الخطرون قيودهم الحديدية عن معاصمهم أمام أنظار فرّاج بحجة أنهم يريدون أن يدخنوا، ويحاول فرّاج أن ينبه الشرطي إلى ذلك بالدق على الحاجز، لكن هذا كان مستغرقا في مكالمته الهاتفية، مأخوذا بنبأ سرقة أثاث بيته.. كل ذلك كان يحدث في المشهد الختامي للفيلم بينما كانت عربة الترحيل محاطة بحراسة مشددة خارجها من سيارات الشرطة وهي تقطع الشوارع!

هل كان تصرف فرّاج في هذا المشهد ينبع من حرص مجتمعي ومسؤولية وطنية وأخلاقية، أم خوفا من حدوث مواجهة بين الشرطة والسجناء تصيبه شظاياها وهو الذاهب إلى حريته بعدما تقرر الإفراج عنه؟

يبدو أن الاحتمال الثاني أقرب إلى الحقيقة، خاصة أن في سلوكه قبل دخوله السجن العديد من المواقف السلبية، وأبرز مثال على ذلك محاولته في المشهد الأول سرقة الكهرباء من الأسلاك المجاورة لسطح داره بمعونة شخص آخر، ناهيك عن أنه غير حريص على أسرته، فهو يقضي وقتا طويلا مع أصدقائه في لعب القمار.

مشكلة المقاول فرّاج كان يمكن حلها بسهولة لولا حدوثها في مناخ طغى عليه التحايل والتلاعب وسادته علاقات نفعية ضيقة تنغص على الناس حياتهم وتدفعهم إلى التوافق معها، وبهذا يدخل المجتمع بأكمله في دائرة فساد لا تنتهي.

الموظف والشرطي يرتشيان والمحامي والقريب يتلاعبان ويكذبان، والعلاقات المتشنجة بين السجناء، باختلاف أسباب دخولهم إلى السجن، تعكس موضوعيا سوء العلاقات في الخارج، وأنسب عنوان لها “الأنانية وغياب التضامن المجتمعي”.

 

براعة الأداء

تكمن براعة الفيلم في الأداء التلقائي الأخاذ للممثلين: أحمد ظاهر، ماهر خماش، نديم الريماوي، عدي حجازي، محمود إبراهيم، نبيل كوني وآخرين يعدّ أغلبهم هواة أو لم يكن لهم حضور ملفت في السينما والمسرح والتلفزيون، عدا الممثلين عدي حجازي الذي أدى دور ابن عمة فرّاج، وماهر خماش الذي أدى دور سجين يهيمن على رفاقه السجناء في المهجع ويبتزهم ببيع بعض المواد الغذائية، لكنهم يتمردون عليه في النهاية ويهينونه، في إشارة ذكية من المخرج/المؤلف إلى أن ما يحدث في السجن صورة مماثلة لما يحدث في قاع المجتمع.

كذلك أبرزت مهارة التصوير وانتقالات الكاميرا والمونتاج جماليات الفيلم على نحو مدهش، وعمّقت دلالات فضاء السجن، والعلاقات المتوترة بين السجناء، الذين يُصنّف أغلبهم من ذوي “الياقات البيضاء”، أي الذين ارتكبوا جرائم ذات طبيعة مالية لا تنطوي على عنف أو مخدرات، بين احتيال وتزوير وشهادة زور.

لكن ثمة تشتتا انتاب السيناريو كان يمكن تلافيه بالتركيز على الخط الرئيسي لحبكة الفيلم، والاستغناء عن بعض المشاهد الثانوية، والثيمات غير المعقولة التي أراد صانع الفيلم أن يكشف من خلالها رؤيته للواقع الاجتماعي ومفارقاته، ورغم ذلك يمكن القول إن فيلم “إنشالله استفدت” يشكّل إلى جانب فيلم “ذيب” لناجي أبونوار (2014) إضافة نوعية إلى السينما الروائية في الأردن.

من الجدير بالذكر أن سيناريو الفيلم فاز بمنحة الهيئة الملكية الأردنية للأفلام، وتحصل على جائزة “شاشة” من هيئة أبوظبي للأفلام 2011، وجائزة تلفزيون “آرتي” الفرنسية لأفضل مشروع سينمائي، وجائزة “جلوبل فيلم انيشاتيف الأميركية” 2012، كما اختير السيناريو من بين أكثر من 160 سيناريو من مختلف أنحاء العالم للمشاركة في برنامج “آتليير” ضمن مهرجان “كان” السينمائي الدولي، وعُرض في الدورة الـ41 من مهرجان تورنتو السينمائي الدولي، وفي مهرجان دبي السينمائي الدولي في دورته الثالثة عشرة ضمن مسابقة الأفلام العربية الطويلة “المهر العربي”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى